قراءة الأستاذة الزهرة الصالح في أحلام النوارس / نص صالح هشام المغرب
الذي شدني في هذا النص الجميل، أسلوبه غير
المباشر، واستعمال السرد للمجاز بحرفية وفنية وجمالية مع دقة الوصف، والتفنن في
اختار الرمز، والحرص كل الحرص على التكثيف...
ضمير المخاطب يوحي في الاستهلال بأنك
أمام خاطرة... شاب يحكي، يخاطب نفسه، يتألم، يعاتب، في حيرة من أمره...، يرثي
حلما، صادره الخوف من عقوق الأم، حلما بعيش كريم لم يجده في حضن الوطن، لم يجده
على اليابسة، ليقرر ركوب البحر، ليخرج من النواح، من الخواطر إلى الفعل...
يترك أمًّا للمجهول، ويلتمس طريقا
مظلما لا ينير عتمته سوى تخيلات نفس محرومة -من كل شيء، حتى من الخطأ والخطيئة -
بحصولها على المباح والمستباح ونقيضيهما...
يواجه البحر بحِلمه وجبروته. لم يثنه
شيء عن ركوب الخطر... صورة صديقه "عبد القادر" الذي كان مجرد "قويدر"
قبل النوم في حضن الشقراء، والدوس على دروب الماضي بعجلات سيارته الفارهة وبجيوبه
المتخمة بالعملة الصعبة تقوي عزيمته...شجاعة قويدر ومغامرته التي أبانت عن ثمارها
لدرجة أن تحوّل بلادته حكمة، زادته إصرارا... وقوفه أما البحر مرة فيه عصيان
لوالدته، وأخرى فيه حق مشروع... يخطط للهروب وهو واقف على أطلال الذاكرة مستحضرا
التاريخ؛ طارق بن زياد وخطبته لفتح الأندلس، رؤيته للسفن تذكره بالفتح
العظيم...إلا أن فتحه لم يكتمل مع سلطة يقظة، لا تحب لأبنائها أن يعبثوا بأملاك
الغير، شعارها "قطراني أجود وأحسن من عسل الآخر". وهكذا وئدت أحلام نورس
قصتنا.
فيا ترى كم من نورس لم يستطع التحليق!
كم من نورس حلقت حول جثته نوارس البحر العظيم!.
اقتباسات:
الفلس يخلق من البلادة حكمة.
البحر يستطيب لحم العوام.
البحر رغبة جنونية شبقية تستعذب القلوب
الصخرية وتكره آهة الجبناء.
الزهرة الصالح
النص
أحلام النوارس"
بين كتفيك خم دجاج ! ينقب في كل تلافيف
دماغك ! الأرض تأبى أن تتحملك : قطرة زيت محجوزة في ماء مرجل يغلي ! كرة تدور بين
رغبتك في فردوسك وخيارك بين برو عقوق أمك ! لم يكن لك من خيار آخر .العقوق أرحم من
هذه الأرض المتشققة : أحدب يحاول الانسلاخ عن حدبته ، تتنكر للماء الذي شربت !
والهواء الذي تنفست !
رائحة البحر جميلة ، مغرية ،جذابة :
تشمها ممزوجة بروائح الطحالب وعطور الشقراوات واللحم الأبيض ، تتملى بتقاسيم وجه
أمك تتغير ،تهدهدها كوابيس ما قبل الفجر .تنتعل حذاءك، تختار عقوق أمك وأنت تعرف :
لن تلدك مرة أخرى ! تتبخر من البيت : قطرة ماء في صحراء ملتهبة روائح عطور
الشقراوت و النبيد ترميك في متاهات استمناء ذاكرتك المثقوبة ، يلتصق بها التافه من
الأشياء!
البحر يغفو ، زفراته تتقطع : زفرات
محموم يقاوم برودة البلل وحرارة جسد متخشب ! يفتح عينا ويسد أخرى ،يشله أثر النعاس
، يتثاءب يقذف بكتل ضخمة من الزبد فوق رمال مبللة ،بياضها يميل إلى الصفرة ، تتكسر
عند قدميك ، تستسلم لناموس التلاشي : مويجات بيضاء صغيرة ،تتناثرفقاعاتها القزحية
وتتبخر في الهواء ! رذاذ البحر عذب يسكرك ينشط منك الذاكرة ، ويستفز فيك رغبة
مجنونة في ركوب غمار البحر والموج و الخطر ! تخط أحلامك فوق حبيبات رمال ملونة !
تمتزج ملوحة الزبد بعفونة واقعك وراءك ! صفحة ماء البحر تعلو و تنخفظ : حشرجة
مكتومة تمخر صدر آيل للموت ، تغريك : ترسم ملامح رحلة تيه و هذيان بحرية ، قد تعود
أو لا تعود منها سالما !
قويدر رفيق دربك ينعم بدفء حضن شقراء
أجمل من القمر وأنصع من الثلج ، وأ عذب من العذوبة نفسها ! يركب سيارة، عريضة
فارهة ، تعب البنزين عبا ، لا يعيرها اهتماما ، جيبه متخم بالعملة الصعبة ! مرآة
ترى في نقائها تقاسيم وجهك القمحية بوضوح. يقول قويدر ، القذر في قاموس حسدك :
-الدنيا امرأة شبقية تستعذب الاغتصاب :
تركلها بالحذاء على المؤخرة ، فتعانقك بملء الصدر وتلفك بالدراعين !
الفلس يخلق من البلادة حكمة ! العملة
تحول بلادة قويدر حكمة ! أنت أطلقت عليه هذا اللقب ! كان يقدر فقط على التلذذ
بابتلاع مخاطه المائل إلى الاخضرار ! قويدر أذكى منك ! ها أنت تقتفي أثره، تلتقط
أعقاب سجائرشقراء طويلة ، ترميها في وجهك دميته الرومية الشقراء ! فأين أنت إذن من
هذا المعتوه؟! آه عفوا ، من منكما المعتوه ؟ أنت يا مفلس أم قويدر ؟!
إلى وقت قريب كان يستعطفك لتجود عليه
بشطيرة رغيف ، أو ثمالة شاي حامض ! قويدر أقدر منك ومن قدرك ! قطع حبل الصرة ، وعض
ثدي أمه ،تخلص من جاذبية حضنها ، وركب موج البحر ، قويدر يا أبله وضع كفنه فوق
راحته ، وضع أناه تحت مداسه و داس عليها !
عن جدارة استحق المقاعد الجلدية
الناعمة الملمس ، و الرومية الفاتنة ،الدمية الشقراء : قطعة شمع ناصعة مصقولة
تلتهمها نظراتك الجوعى !تعجز عن تجرع حموضة كبتك ! تتسبب لك في انفجارات بركانية
عظيمة يتبخر دخانها ممزوجا ببلل جبينك !
روائح العملة الصعبة تمنعه من مصافحة
جيفة عفنة مثلك ، حفظت المثل : (لا تحتقر كيد الضعيف ربما تموت الأفاعي بسموم
العقارب ) لكنك لم تستوعب الدرس جيدا ، قويدر عقرب يميتك بسم حسدك موتا بطيئا :
يصافحك بسرعة البرق الخاطف ، يخاف منك ، فيك رائحة البؤس والفقر و شئ من الماضي
الأليم !
ماذا فعلت أنت بنصيحة أمك : تشدك أسفل سافلين
،جاذبية الفقر والبؤس ! أيعجبها أن تراك أمامها تقتات كل يوم من ريعان شبابك ؟
ربما تتجاهلك وأنت تجمع أعقاب السجائر من أرصفة المقاهي ! تردد على مسامعك أسطوانة
إحباط قديمة : البحر يا ولد يستطيب لحم العوام ! ما باله هذا البحر ؟ ها هو أمامك
كطفل صغير يتوسد قبضتيه ويغوص في أحلام براقة شفافة،لا لون لها كأحلامك الباهتة !
غضبته رحمة للعباد ! كلنا نغضب ،أليس من حقه أن يغضب ويحلم ؟ البحر رغبة جنونية
شبقية تستعذب القلوب الصخرية ، وتكره آهة الجبناء ! زمن قريب جدا ، على شاطئه
الجنوني الجنوبي ،كانت حشود الفلك تتهادى وتتمايل في حركة سريعة تبدو :مؤخرات فيلة
هائجة ،تهدهدها أمواج البحر :مهد بكر أم ساذجة !
المراكب تقودها طيور النورس في أجوا ء
السماء و الدلافين في أعماق البحر و ترشدها إلى الجنة الخضراء !يحرق مردة البحر
السفن على مقربة من تلك الصخرة العظيمة التي تحرس أبواب الفردوس! السيوف تقارع
سيوف أشباح تحرس هذا المعبرمن جهنم إلى الجنة ! صراط عظيم يفصل بين الحياة والموت
! بين الفقر والغنى ! بين قويدر الأمس وقويدر اليوم ! لا أمل في الرجوع ! لا رجوع
! لا رجوع لا عودة ! هو صبر ساعات قليلة فقط !
أحرق أنت أيضا أفكارك القديمة ! أغسل
دماغك، الحياة الكريمة تضحية لا رائحة لها ،لا لون لها ! لا تخف ربما تعاف أسماك
القرش لحمك ! تلمع السيوف في دماغك ! وميض حريق السفن في عرض البحر يلفك بتاريخ
القائد البربري ! تستأمن دلافين البحر على حياتك! وتهب أنفاسك لطيور النورس ! تعصى
والدتك ، طاعتها لم تفدك بشيء ! تأخذ عودا يابسا تخط خطة هروب عظيم من الجحيم إلى
الفردوس على الرمال ! على سطح الماء ! على أديم السماء ! تعجبك خطة القائد ، تدقق
في كلمات خطبته كلمة ، كلمة ! تتفحص سحنات العابرين سحنة ، سحنة ! تكاد تعد ألياف
عضلاتهم ! تجد نفسك لا تقل عنهم أهمية . ستنجح في العبور لا محالة ! صفعة قوية من
الخلف على قفاك، تشعل حشودا من النجوم أمامك ! ركلة قوية على مؤخرتك تنتشلك من
لعبة الهذيان ، تعيدك إلى جادة الصواب ! صوت قوي جهوري رنان ، لم تتبين تقاسيم وجه
صاحبه يصرخ فيك :
-يا ابن العاهرة ! كلكم تريدون العبور
إلى أرض غير أرضكم ؟ ما بالها أرضكم ؟ يغمض عينيك بقطعة قماش أسود ! يصفد أحلامك ،
تستنتج خطأ فهمك لتاريخ القائد .