قراءة بعنوان: القصّة القصيرة بإيقاع شاعرة
رسالة لم ترسل.بقلم الكاتبة روزيت حدّاد سوريا
رسالة لم ترسل
يوم ربيعيّ كان، وكانت الأغصان تلتفّ على الأغصان في عناق، مثل جميع الكائنات الحيّة التي تعيش الحبّ في ربيعها؛ سمقت أزهار المشمش الخلّابة والتقت نجوم الياسمين المتغلغل في درابزين الشّرفة المطلّة على النّهر، مياهه اللازوردية تجري انحداراً باتّجاه الغروب، تسبح فيه زوارق مختلفة الأشكال ذات أشرعة ملوّنة أحياناً. عبق الجوّ بأريج فاقه نشوة عطر أنفاسك وهي تهمس لي بأعذب آيات العشق؛ كنت تجلسين قبالتي كإلاهة على جبل الأولمب وأنا أغبط نفسي على حبّك، وحياتي في ملكوتك. بيدي قهوتي، التي لا تطيب إلّا معك، تموج مثل أفكاري؛ قلت لك أنّ كل النسّاء يحببْنَ الأطفال إلّا أنت! ضحكتٍ و أدركتٌ أنك لا تريدين شريكاً في حبّك لي. عندما عرفتُك، لا أذكر في أي عصر كان، أخبرتك: أريد أطفالاً كثراً، لمَ لا؟ ألا يكفي أنك أمهم؟
مضت سنتان، تلتها اثنتان وأنا أرجوك تحقيق رغبتي، وافقتٍ؛ كنتٍ سعيدة جداً، لا تسعك دنيا وقد أدهشني شعورك بعد أن كنت ترفضين
لم يتحقق أملنا، زرنا الطّبيب، بعد أيّام أكّد لنا أني عقيم. صدمة قاسية أصابتني.
نظرت في عينيك أبحث عن قارب نجاة، أرتمي فيهما، علّ نار جرحي تخمد، أشكو لهما يأسي وأملي الضائع؛ كانتا تترقرقان بالدّموع، تعتذران لهذه الخيبة التي لا يد لك فيها، حيث لا يفيد العذر.
كيف أقتنع وقد جهّزت قائمة بأسمائهم وحساباً مصرفيّاً لدراستهم و……. ،قرأت وتعلّمت كيف أكون أباً حنوناً ومثالياً و…… .
أتساءل الآن كيف صبرتٍ على إلحاح أهلي بالزّواج ثانية، ولم تكشفي سرّي؛ كنت موافقة مع أن هذا يعني الانفصال.
تمرّ الأيّام، لم تكن كثيرة أو أنّها كانت سريعة، ويزداد شغفي بك وشوقي للأطفال الذي لم يفتر أبداً؛ تركت لك حريّة الاختيار في البقاء معي أم لا؛ لأنّي لا أريد حرمانك من متعة الأمومة مثلما حُرمت؛ في كل مرّة كنت تعانقيني وتناديني بابني المدلّل الذي لا أريد غيره. هل كنت ألحّ في السؤال طمعاً في ردّك الذي كان يعضدني؟
جاء اليوم المقدّر، الذي لم أستطع، بكل ما أملك من حبّ وقوّة وثروة ورغبة، أن أتحاشاه.
ها نحن قد انفصلنا، ليس برغبتنا، لكن برغبة من هو أقوى؛ رحلتٍ، تركتٍني وتركت لي حسرةً وحزناً تميد تحتها الجبال؛ وأنا، من هنا، أقسم لك ولأهلي أني لن أتزوج ثانية، ليس لأني أعرف ضعفي، بل لأنّ طيفك يعيش معي في كل تفاصيل حياتي، في شعوري أنّنا ثلاثة : الأم،والأب، والأب الطّفل.
يا ملاكي الحارس! يا روحاّ نقيّة في السّماء، ترعاني! ما هذا الحدس الذي كنت تتمتّعين به؟ يالها من موهبة ألوهيّة!
هل كنت تتبيّنين أنّ حياتك ستكون قصيرة؟
ألهذا اخترنا بيتاّ على ضفّة نهر يجري، بسرعة، إلى الغروب؟
هل كان ذلك عبثاً؟
روزيت حدّاد
============
=================
العنوان: القصّة القصيرة بإيقاع شاعرة
المدخل :
قصّة، جمعت بين الجمال و اللّذة، و المتعة بالتّأمّل في معنى الرّوح و الجسد، في الأمل و الخيبة، في الوجود و العبث، في الهجر بالفقد إلى الأبد، في الوفاء ، في الحياة، و فيما بعد الممات، في التّفكير بعمق، فيما حدث، و ما يحدث في الظّاهر، و في الباطن، في العمق، في خبايا النّفس، و ما تختلج به وتهتزّ، قبل، و بعد النّطق بالحكم، قبل فقد الأمل، والانكسار..عند الجذف و مقاومة الرّيح، و بعد الغرق، و شدّة النّزيف، و بقاء الشَّقَاف ...بعد رحيل ما كان يربطه بالحياة، و يحسّسه بالذّنب، بعد الإحساس بضرورة البقاء على العهد، و بالإخلاص لما بقي من وصال، يحتفظ به على أنقاض (رفوف الوجد)، قبل أن ينهار جدار المجد، بعد فقد الشّريك، الذي تمسّك بالغصن، وضحّى بالثّمار عند الاقتدار، وتحمّل الأذى، من هذا وذاك، من دون أن ينبس ببنت شفة ... صراع ذات تكتوي، بحبّ أفل قبل أن يمتلئ، و شعور بمرار عشق لم ينته .. إحساس بغربة، في الزّمن، في المكان، في التّرحال في ذاكرة، من دون ونيس، يكتوي، بعبء وزر رسالة، لم ترسل بعد ... نتيجة عبث الحياة التي تُبلِي الرُّوح ببلاء الجسد المحدود، في صيرورة الزّمن، ذاك النّهر، الحائر، السّائر، في اتجاه الغروب ..
الرّؤية :
قصّة قصيرة، تطرح مشكلة إجتماعيّة في ظاهرها، تعالج فقدا مضاعفا، و ألما لتنتهي بطرح فلسفي، وجوديّ، فكريّ، في سرّ الوجود وعدمه، و في عبثيّة الحياة، و مفهوم الزّمن، و مفهوم السّعادة، و القناعة ، و الأمل، و محدوديّة الجسد أمام الرّوح، و القوى الغيبيّة، الإلاه الخالق القهّار، الذي يدير شأن الطّبيعة، والعباد، الخالق، المتحكّم في القدر، و سائر الخلق، الإله الذي يدير شأن الكواكب، و المجرّات و الملائكة والرّوح في البزخ و في رحلة العمر على الأرض ، وحارس الجنان، والإنس والجان. و حارس الجنان .....
أسئلة مطروحة في المحبّر و المضمر
ك(الحسّ، والحدس، والقدر) ثّالوث لا يمكن فصله عن بعضه ...
فما الحكمة إذا في تحقيق حلم أو إعدامه في عدمه؟
كذلك النّسبيّة والسّببيّة.. ما الغاية؟ و ما الهدف ؟
و ما مدى نجاحنا في الرّسالة التي نؤدّيها ، أو نخفق في إيصالها خلال حياتنا ؟
و هنا تتجلّى، لنا دلالة العتبة الأولى التي اعترضتنا، ألا و هي العنوان "رسالة لم ترسل "
فنعلم بذالك بأنّ العنوان لخّص القصّة .
هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟
منجز سرديّ استوفى كلّ شروط القصّة القصيرة، التي نعرفها، من تشويق، و تكثيف، و حبكة، و عقدة، و مفاجأة، و صدمة، ودهشة، و غيرها...
الأسلوب:
يتّصف بالسّلاسة، بالرّشاقة، بعذوبة السّرد، بالفصاحة و بصور جماليّة، بليغة، تعكس تمكّن صاحبته من فنون الجمال البلاغيّة، كالاستعارات المكنيّة، التي جاءت في :
"نظرت في عينيك أبحث عن قارب نجاة ، أرتمي فيهما، لعلَّ نار جرحي تخمد أشكو لهما يأسي وأملي الضّائع كانتا تترقرقان بالدّموع ، تعتذران لهذه الخيبة التي لا يد لك فيها ، حيث لا يفيد العذر ."
و " ألهاذا اخترنا بيتا على ضفة نهر يجري بسرعة إلى الغروب؟"
القاصّة هنا كتبت القصّة القصيرة ، بروح وإيقاع الشّاعرة الذوّاقة، ممّا أكسب النّصّ رونقا خاصّا، متناغما وزنا، توازنا، لفظا، حسّا إدراكا إيقاعا وتنغيما....
فالقوّة الحقيقيّة، في المتن، تكمن في قلم القاصّة، الشّاعرة المرهفة الحسّ، المبدعة الواعيّة، المدركة: -لفنّ هذا الجنس الأدبيّ المتميّز الصّعب المراس لدقّته.
- ولهموم الآنوات المعذّبة في هذا الكون، في الهنا والهناك ، في الأمس واليوم والغد و بعد الغد، أولائك الذين، قاسمتهم معاناتهم، بالتّبئير، في خبايا ومكنون ذواتهم المتالّمة، التي تنزف، بين طيّات مشاعرهم، التي تتأرجح، بينما ترغب فيه حقّا، و ما لا تطاله أنفسهم، بحكم مسبق، سبق سيف سيّافه الرّقاب ، و لا أمل في تغيير قدرهم ، بعد أن صارت مفاتيحه بيد الذي يحتكم إليه البشر ...
سهيلة بن حسين حرم حمّاد
سوسة في 16/12/2019