قصة قصيرة
عندما كان الحبُ مُكلِفاً
موسى غافل
بعد أن تضمخت ( فطومه الخياطه ) بالحناء و المَحَلَبْ ،
في الصباح هيأت نفسها وارتدت أجمل ملابسها و قرِّطَت شحمتي إذنيها بقرط كانت تخفيه عن أهلها ،خصصته للقاء الحبيب .
تشوّفت بالمرآة ، ثم رشت تحت ردائها قليلا جدا من عطر (اللاّوَنْطا)(1) ، حتى لا يفكر اخوها بما يجلب الشك ، وغادرت إلى السوق لشراء ما تحتاجه لماكنة الخياطة . ومن ثم تعرج على بيت الحبيب .
قبل ان تصل، كانت قد احتاطت لكي لا يرصدها الواشون و النمامون ، فمرقت على عجل مُحَجَّبَة . وطرقت النافذة برفق أولاً ثم الباب . إذ اتفقت مع حبيبها على هذه الطريقة لكي يأتيها على عجل و يختليان .
صَدَمَتها المفاجأة حين التقته ، وسألته و هي تلطم خديها هامسة بذهول :
ـ ما هذا أبو الجود ؟ من الذي جعل وجهك بهذه الحال؟ سود الله وجهي و وجه موتاي.
قال لها هامساً :
ـ إششششش لا يسمعوك ، فهم لا يعلمون . أخوك الزعطوط (1) من فعل هذا .
استفسرت :
ـ على ماذا؟
ـ على كلٍ .. أنا محتار كيف أواجه أهلي بهذا الوجه. من حسن الحظ انك جئت . لابد و انك .. سمعت . لولا مجيئك هذا لهَدَّمت البيت هذه الليلة على رأسه.
قالت (فطومه) مستفسرة :
ـ ماذا فعلتَ حتى يفعل بك هذا؟ أنا لا أدري . أقسم بعينيك لا ادري .
استعرض لها الحادث :
ـ انظري فاطمة.. انظري هذه الكدمة بجبهتي ؟ و هذه الثانية بأنفي ، و هذه بعيني و هذه وهذه ؟ كلهن من ضرباته. بلعتهن كلهن ، و سيطرت على أعصابي .
في الليل غسلت ملابسي التي تَلطَّخت بدمائي كلها .
قالت فطومه :
ـ سوّد الله وجهي . و الله لا أعلم . قل لي : ما هو السبب ؟ هل فقد عقله ؟هو حاس إنك تحبني .
ـ أكيد فاطمة ، أكيد . و أنا طول هذا الليل ، قسما بعزة الله . قسما بنظرات عينيك ما نمت . أفكر بعينيك و غمزاتهما ، أكثر مما أفكر بالضربات . لولاك ، يشهد الله لكنت قد عملتها مذبحه . و بلّطت الشارع بلحمه و دمه .
خلعت فطومه شالها ، واقتربت منه ووضعت رأسها على كتفه .
قال لها :
ـ فاطمة . شَمَّتُك تنعش الروح .المفروض . فاطمة لا تضعين (لاونطا) ، أريد أن اشم ريحة جسدك بلا عطر .
ـ سوّد الله وجهي . جودي، أخي يغار من جمالك و هندامك .
ـ يجوز .. لأني على طول ألمّع و اخرج .
ـ حبيبي جودي .هو مجنون و يعرفك مسكين وفقير و بائعها بيضاء.
ـ لا فاطمة لا .. أرجوك .أنا لا مسكين و لا فقير . أنا سبع ما أخاف فقط من ربّي ، ولكن خيالك وقف امام عيني .
ـ أنا فدوة لخيالك .
ـ أول البارحة فاطمة .. الصبح قبل الحادثة .. طلعت .. رحت على صديقي علاوي ابن جميله الذي يسكن بشارعكم ، وبعد الترحيب و الاحترام سألني :
ـ أمر؟ خدمة أخي؟ محتاج شيء ؟
قلت له :
ـ أشكرك اخي . أنت و النعم منك ما تقصر . فقط اريد المسجل أسمع به أغاني .
راح الولد ، وأتى بالمسجل ، و اعطاني أشرطه مال غناء وحيده خليل و زهور حسين و قال :
ـ محتاج شيء بعد اخي ؟
قلت له :
ـ لا اخي . و النعم منّك ، انت تاج رأسي .
أخذت المسجل ، و رحت للبيت ، و بقيت افكر بأخيك لأن خائف يدبر لي مؤامرة .
طَلّعت تسجيل اغنية ( كل ما امر عالدرب عيني على الباب ) ، و قلت : سوف البس ملابسي الجديدة و أرش عليها عطر كليوباترا ـ مع الأسف أخوك رَشّ ملابسي بالدم ـ . و امر على باب فاطمة و آنا فاتح المسجل بصوت عالٍ ، على هذه الاْغنية حتى انت تسمعين و تُطلِّعين رأسك من فتحة الباب و أراك .
لأن (وَرير) ماكنة الخياطة لا يسمح لك أن تسمعي .
على كل حال .. العشق فار رأسي فرّ. . أرجوك حبيبتي لا تزعلين .
أخذت سكين المطبخ . سكين حادة تبتر رقبة البعير ، و جَعَلْت طرفها طالع من جيب ثوبي ، حتى الذي يراها يشعر بالخطر ، ولا يحدث لي مكروه .لأني مقدم على مغامرة خطيرة . يعني ـ أرجوك فاطمة دعيني اريح قلبي أمامك ـ .
ـ تكلم براحتك حبيبي جودي . فِداء لك فطُّومه .
ـ الله يسلم روحك حبيبتي على كلٍ .. قلت :
ـ اذا كلمني أي إنسان أضربه سكين ، وأجعل أمعاءه يتكوَّمْنَ بالأرض، و الذي يريد يصير خلّي يصير .
نشقت فطومه :
ـ يا ..يا .. يا.. (أبو الجود) صدق ؟ كذب ؟ أنت تريد تقتل ابن امي ؟؟؟
ـ لا فاطمة .. قابل أنا ناسي ؟ أنا كلامي لا على التعيين .
على كلِ ، و قبل ان أصل و أنحرف إلى شارعكم . فتحت المسجل على كل قوته حتى تسمعين ، لأن ماكنة خياطتك ، كما تعرفين (وريرها) عالِ . فقط اريد أسمِّعك. و صعّدت اغنية : (كل ما أمُرْ عالدرب عيني على الباب ) .
على كلٍ .. دخلت ـ حبيبتي ـ بشارعكم ، و إذا بأخيك يّكتّف ذراعيه على صدره .. و واضع رجلا على رجل ، و واقف متكئ على كتف بابكم و سيگارته بفمه . على طريقة اشقياء بغداد؟ نسخة طبق الأصل .
وضعت أول قدم بشارعكم ، و قلبي يدق بآذاني . وأرجف ، مثل ما تقولين من شدّة الهيام و ليس غير، و مثل ما يقولون :أنا يجوز قادم على معركة فاصلة . و بسبب الغرام الذي لاعب لعبته برأسي و لهذا السبب ، بقيت مرتبك ، و أرعش ، و عقلي لا أدري أين ذهب . كل هذه و عينيك فاطمة كأنهما يغمزان لي ، او يترجيان أن اصير عاقل و اتصرف بحكمة .
المهم حبيبتي.. على كلٍ ـ أخاف يجي واحد فاطمة و ينشلك مني ، و أبقى أنا أجر بالحسرات و الآهات ـ ؟؟؟
ـ لا أبو الجود . انا لو إلك لو للقبر ، و حق عينك .
ـ هذا عَهَدْ فاطمة؟
ـ نعم عهد يشهد الله .
ـ وأنا عهد مني أمام الله و رسوله . يكون ما أمس جسد ، غير جسد فاطمة للموت ..
على كلٍ حبيبتي فاطمة ، اسمحي لي أكمِّل حديث البارحة : آنا جَعَلِتْ نفسي ما أشوفه ، تجاهلته وبقيت امشي براق الحائط المقابل ، حتى ابتعد عن شرَّه و ما أضربه سكين. يعني الحب ما يخليني ارى حتى دربي .
على كلٍ..
و الله استمريت أمشي .. وقفت أمام باب صديقي ابن جميله . كأني أدِقّه . بعد دقيقة أو دقيقتين ما أتذكر بالضبط ـ لأن دماغي كان قافلاً عن العمل نهائياً ـ
رجعت بنفس الطريق . و إذا بأخيك الافندي مع احترامي لك .. واقفا بنصف الشارع ، ووضع يديه على خاصرتيه ،
صحت : يا ربي سترك و منعك .. طلعها سلامات يا إلهي، حتى لا اضرب الولد بالسكين .
المهم على كل ، يعني في تلك اللحظة فاطمة .. لو تذبحيني ما تجدين بيّ نقطة دم . لا خوفا .. لا والله .. و حق عينك (فاطمة) . كل هذه من أجل عين حبيبتي الحلوة المائعة ميوعاً فاطمة الخياطة .
***
الشارع فارغ . لو تلقين الإبرة بالقاع تصيح : (شِكْ). ولا صوت ، ولا نفس ، و لا بشر . فقط امرأة عجوز قاعدة على مسافة قليلة عن بيتكم كأنما ألله هداها أن تجلس و الناس تغط بالنوم.
وصلت قبال أخيك ، و إذا به يصيح بي :
ـ ها ولك .. جائف نَتِنْ؟
هذا كلامه بالنص أنقله لك . لكن .. أنا أيضا أردت أتكفى شرّه و أقطع دابر الفتنة ، فقلت له كلاما ودياً، و بروح حضارية :
ـ ها اخي عضيدي .. كيف الأحوال؟
اول ما مسك بإذنيّ ملّصهما ملصاً .
قال :
ـ من الذي أتى بك لشارعنا ؟
ثم .. مسكني من زيقي و الصفعات و الكلاّت (3) اشتغلت . و مثل ما تشاهدين .. لا ظلت عندي اذن و لا أنف و لا عين و لا جبهة ، و اخذني الدم . وانا افكر و أقول مع نفسي : ولك (جودي) تحمل و كون سبع .
جزاء الله خير الجزاء العجوز التي كانت جالسة في باب بيتها . جاءت تركض، و هي تصيح على أخيك :
ـ ولك كافي قتلت ابن الناس ؟
خطف مسجل ابن جميلة من يدي و ضربه بالحائط بكل قوته. و خلف الله على العجوز وقفت النزاع . و تحملت كل هذا مثل ما تلاحظين من اجلك .
على كل.
تذكرت مجنون ليلى : لما يكتب اسم ليلى على الرمال . و انا اكتب اسمك بالدم النازف من وجهي و اذناي و أنفي و ملابسي على التبليط. و أقول هذا هو الحب الحقيقي. الحب اذا ما به ألم و سفك دماء ليس حباً . ما احلاك أيها الحب .
على كل (فاطمة) تاج راسي .. ظلت العجوز تدفعني بعيداً .
لكن انا ما تحملت ، و صعدت الغيرة براسي . كافي استسلام .
وقفت على مسافة منه ، او طلعت سكين المطبخ من جيبي ، و بقيت ادفع المرأة بصدري حتى تبتعد عني و أهجم عليه بالسكين ، لكن المرأة خلّت صدرها قدام صدري . و استثقلتها أن أخلي صدري على صدرها . ما تقبل الغيرة العربية ، لأن حرام و عيب .. و صحت عليه :
ـ إلاّ اذبحك .. لو ما هذه بنت الحلال . كان ذبحتك من الوريد الى الوريد .
على كلٍ ..
بس جزاء الله العجوز كل الخير .. وقفت بيننا و استحيت ، لأن صدري صار على صدرها . و راحت بنت الحلال أو جابت المسجل المكسر او قالت لي :
ـ خذه و روح لأهلك . لولاها لكان عملت لي جريمة قتل يذكرها التاريخ . على كل ..
من حسن الحظ خلصته العجوز . يمكن هو بالحقيقة خاف مني . لأن لاحظت وجهه وجه خائف .
***
أقول (فاطمة) .. أريد فقط تسمحي لي كأنما أكلم أخوك كلمتين .
قالت فطُّومه ـ إي حبيبي تكلم بالذي يرضى به الله ، و ريّح قلبك .
ـ نعم حبيبتي . أنا أريد أقول لأخيك :
ـ ولك انت لاحظ : هذه محبوبتي فاطمة جالسة معي .. رجل على رجل و حاضنها حضن . وآنا كل شيء ما أعمل لها غير الذي يرضى به الشرف و الضمير: بس شمّة خد و قبلات ، بايعيها بيضاء منها للعلي القدير .
أُفففف .. من أين أدبر فلوس المسجل؟ ما أدري .
***
خلعت فطُّومه قرطيها الجديدين و قالت له :
ـ سوّد الله وجهي . كل هذا من أجلي ؟. خذ هذا الذهب واشتري للولد مسجل .
موسى غافل
شارحة
ــــــــــــ
1 ـ لاونطا : عطر نافذ الرائحة
2 زعطوط ـ طفل
3 ـ كَلّه : نطح المقابل بالرأس..
