القصة:
ولادتان / قصة قصيرة
بقلم /ثائر البياتي
—————————————————
ومازلتُ بعدَ هذا العمرِ مُوقِناً بأنني وُلدْتُ في بابِ الشيخِ قبلَ أن أُولدَ في تلِّ محمد، فأنا أعرفُ ذلك الزقاقَ الحاضنَ لساكنيهِ مثل أمٍّ حنونٍ بساقيتِهِ الضّيّقةِ الممتدةِ من أوّلِهِ إلى آخرِهِ وشَناشيلِهِ المتقابلةِ المتقاربةِ إلا من فسحةٍ تنثالُ منها أشعةُ الشمسِ وقطراتُ المطر، وأعرفُ برودةَ (الفَرْشي) و(الكَرْويتة) التي يُقيلُ عليها أبي والزاويةَ التي تتربعُ فيها أمي لتُعّدَّ (الكُبَّة) أو تلفَّ (الدُّولْمَة)، وأعرفُ النخلةَ المنتصبةَ وسطَ الحوش، والدّجاجةَ الحمراءَ والبيضاءَ والديكَ زاهي الألوانِ في القنِّ الترابيّ، وأعرفُ ماكان يفعلُهُ أخي الأوسطُ على سطحِ بيتِنا حين تصعدُ جارتُنا الحلوةُ إلى سطحِ بيتِها، وأحفظُ حكاياتِ الشقاواتِ و( الچَرْخَچِيّة) و(الطَّنْطَلَ) اللّابدَ في الزوايا المظلمةِ حتى إنني حين يحكي لنا أبي إحدى حكاياتِهِ الطريفةَ أو مغامراتِهِ االمثيرةَ؛ أهزُّ رأسي مؤيِّداً وأقول:"نعم يا أبي، صحيحٌ يا أبي" فيضحكُ الجميعُ، ويضمُّني أبي إلى صدرِهِ ويربِّتُ برفقٍ على ظهري، وفي جلساتِ السمرِ حين يقلّبون ألبومَ صورِ الأبيضِ والأسود؛ أشيرُ بسبابتي إلى نفسي وأقول: " وهذا أنا" فيضجُّون، ويمازحونني حتى تدمعَ عينايَ من الضحك، لكني لم أفهم ما الذي كان يعنيه أخي بقوله: "لهذا الولدِ خيالٌ بلا حدود".
وبالرغم من يقيني بأنني وُلدتُ في باب الشيخِ قبل أن أُولدَ في تلِّ محمد بسنواتٍ طوال؛ إلا أنني لم أستطعْ إقناعَ أحدٍ بذلك.
مع الوقت، بدأ قلقُ أبي يتصاعدُ، ولم يعد يحكي لنا حكاياتِهِ إلا قليلاً، ثم سكتَ نهائياً حتى أنه ذات مرةٍ أمسكَ برأسي بين كفيْهِ الدافئتين، وبعينينِ حزينتين قال: "لا تفعل هذا بي يا ولدي، لا أحتملُ أن أرى أحدَكم مريضاً هكذا، وليته كان ظاهراً لعالجتُهُ بروحي، وياليته كان جرحاً لضمّدتُهُ بقلبي"، ولم تكتفِ أمي بالدعاء، فعلّقتْ على صدرِ دِشْداشَتي من الداخلِ حجاباً لطردِ الجن، وكانت تدور حولي بمبخرتِها سبعاً كلَّ غروبٍ وهي تُبسملُ وتقرأُ آياتٍ من القرآن. كنت كلما توسّدتُ رجلَ أمي وأخبرتُها بأنني كنتُ هناك؛ تمسحُ على رأسي بلطفٍ وتجيبُ بصوتٍ متهدِّجٍ:"نعم يا حبيبي "، وتسقطُ قطراتٌ من دموعِها الدافئةِ على وجهي، ويعتدلُ أبي في جلستِهِ، يمصُّ سيجارتَهُ نافثاً دخانَها بقوةٍ وهو يحوقلُ ويردّدُ:" رحمتك يا إلهي"، لكن القلقَ والخوفَ لم يظهرا على إخوتي فكان أحدهم يصطحبُني معه إلى سينما (البيضاء) القريبةِ في بداية بغدادَ الجديدة، والثاني يشتري لي (النَّسْتْلَةَ) التي أحبُّها، والثالثُ يظلُّ يلاعبُني فيدورُ خلفي في الحجرةِ متوعّداً إن هو أمسكَ بي أن يدغدغَني ويجعلَني أضحكُ حتى اليومِ التالي.
بعد بضعةِ شهورٍ، بدأتُ أخافُ على أمي وأبي فسكتُّ ولم أعد أذكرُ الأمرَ أبداً، وعندما يقرّبون صورةً بالأبيضِ والأسودِ مني ويسألونَني من في الصورة ؟ أذكرُ أسماءَهم واحداً واحداً مشيراً بسبابتي إليهم دون الإشارةِ إلى نفسي. كنتُ أعلمُ أنني بذلك، أعيد الراحةَ إلى قلبِ أبي والفرحةَ إلى قلبِ أمي، لكن يقيني بأنني وُلدتُ في بابِ الشيخِ قبل أن أولد في تل محمد بسنواتٍ طوالٍ لم يتزعزعْ أبداً، وبقيتُ ألوبُ منتظراً فرصةً ملائمةً، فقد كان سكوتي وكبتُ يقيني يثقلان صدري. فرصةٌ واحدةٌ أتيحت لي، فرصةٌ واحدةٌ لم تتكررْ بعدها أبداً، انتهزْتُها فارتاحَ قلبي، حين توسّدتُ ذات ليلةٍ ذراعَ أخي الكبير لننامَ فأخبرتُهُ بأنني كنتُ هناك وسألتُهُ بصوتٍ خفيض: "لا تصدّقُني؟" فضحكَ ونكشَ شعري ممازحاً وأجابني بصوتٍ خفيض: "لو كلُّ الناس كذّبوك… أنا أصدّقُك". ليلتَها، نمتُ هانئاً ملءَ جفوني وكأنني لم أنمْ قبل تلك الليلةِ أبداً …
————————————————————
ثائر البياتي / العراق