التشكيل التأويلي ومسارات الدلالةفي نص / فجر الطين / للكاتبة صديقة صديق علي
هذه قراءة خاطفة بما لا يخل بالنص ولا يسطح العرض دون الدخول في تأسيس نظري يعضد ما نرمي اليه من نتائج فهي ليست دراسة بل قراءة رصد لكيفيات استجابة المتلقي للنص وخروجه بــــ ( معنى ) هذا المعنى الذي لا يزال إشكالية كبرى في مفهومه وتنازعه بين سلطة المؤلف وسلطة التأويل ومروره ( بعدة أدوار فقد تدرج فلسفيا وفكريا في الهرمنيوطيقا ( فاتيمو. غادامير . ريكور ) ثم عدمية ( بودريار) مرورا بسياقات التمظهر والتجلي ( دو سارتوا ) وحتى التلاحم مع ( فوكو) وبعده التحول والانخراط في العقل العملي ( رورتي ) ثم التلاشي والتاجيل والأرجاء وتعدد المركزيات ( تفكيكية دريدا ) 1
هذا من الجانب الغربي ومن جانب الفلسفة الإسلامية فان المعنى حقائق مودعة في النص لها خزائن والفهم هو مراتب وجودية تتمظهر حسب استعدادها من استدعاء هذه الحقيقة علما ان النص الادبي هو بذاته تشكيل تأويلي يمثل تجربة كاتب النص فاذا مارس عليه المتلقي تأويلا
فهو اذن تأويل لتأويل ولهذا تفصيل ليس هذا محله انما سقناه لبيان ان كيفية فهم المعنى والوصول اليه هو ما يحظى باهتمامنا في هذا النص
يجدر القول ان كثير من القراءات التي مررنا عليها هي انطباعات هابطة وسطحية فاشلة ومضحكة وتدعي الحداثة وفي حقيقتها تاسيس للذات على حساب النص واستعراضات تظهر فيها انا الناقد وتذوب انا النص
لم تتحلى برؤية فاحصة فالنص القصصي يشتبك مع الفلسفي في مساحات الوصف لان الوصف ذو مرجعيات او احالات فلسفية في المغزى النهائي هذا التشابك يغفل بل أساسا لا يعلم به الا في حالات قليلة ومن هنا فان نصوص ( صديقة صديق علي ) تشتغل على هذا التشابك وبهذا تكون لغتها ذات تماسك فلسفي مخبئ في حركة المجازات والأشخاص والعلائق مع المكان والزمان
نجمل هذه القراءة المتسارعة (التشكيل التأويلي ومسارات الدلالة) بعدة نقاط جوهرية
1- الموقف النفسي – التحليلي / هنا نستجيب الى المعجم النفسي الذي انتجه النص عبر (مفردات / صورة سردية / صورة وصفية / إحالة / رسالة / الخ
- الموقف النفسي يستقبل هذ المعجم ويحيله الى معجم موازي ضمن الإطار النفسي وبنفس محدداته ومن مفردات هذا المعجم
الاغتراب عن الذات وعن المكان / التحدي / الحنين / الحب / الأمل / التجذر نحو الأصول / الوحشة / التنكر / التفجع
كما في (لكن لا قمر ولا ضوء الآن. ولا عيون تعتذر.. التيار الكهربائي مقطوع وكل الأواصر مقطوعة وقد لا يأتي ولدي)
2- الموقف التأويلي (الهرمنيوطيقي) / هنا المعنى مرصود من قبل المتلقي الذي لا يجيء الى النص الا وهو محمل بفهم خاص له تاريخه الخاص ولكن النص يمانع أيضا لأنه متموضع في تاريخ خاص لذا سيكون المعنى أعادة لترتيب التاريخين معا وفق حوارية بين ذاتية المتلقي وموضوعية النص وبتعبير (أليوت) تكون مهمة المتلقي تلقف التشكيلات اللغوية التي تفرز عند تتبع عناصرها ودلالاتها الجمالية فيكون المعنى واقعة تأويلة وبهذا عند عودتنا للمعجم الدلالي للقصة نرىان النص يشير الى
أ- الحقيقة (كثيرا ما نصل للحقيقة وللدرب الصحيح لكن بعد ان نخسر السند)
ب- زيف الأيديولوجيات المعبر عنها بالماء فليس كل من جاء بالحياة يهب الحياة
فقد وصف الماء بالوقح الماء الذي يفرق المتظاهرين هو ذاته الماء الذي يسقي
الأشجار الماء الذي يسكب على وجه المعتقل هو ذاته يفيق المريض من اغماءته
جـ- نفس المعجم النفسي يعامل هرمنيوطيقا
د – الحواس باعتبارها أنظمة ونظريات ورؤى لم تتمكن قيادة البشرية لذا دفعنا ثمن
انقيادنا لحكمها الناقص حكمنا على الأشياء من خلال حواسنا فقط يجعله حكما
منقوصا ولكل جيل رائحته الخاصة لكن نحن لم نطور حواسنا معه
وهكذا يمكن التطبيق على مواطن متعددة من النص
3- تنوع الوصف هنا كثيرا ولا أقول السرد فالنص فرّق بينهما ووظفهما ببراعة فالوصف ساكن بينما السرد متحرك ووزع النص بينهما طبقا لمتطلباته فنرى في صورة وصفية
حسية وأخرى وصفية نفسية وثالثة دلالية ونرى صورا بصرية
1- اذن لأصغي للماء
2- ليس لأشجارنا رائحة بل انفي شاخ
3- انا لست بأرضي فأرضي كقطعة اسفنج
4- هي احن عليكم من اسرتكم
5- جررت خيبتي
6- تركت قلبي مع ولدي
7- ادور حول صوته
8- لا عيون تعتذر
الوصف تأمل والسرد تعاقبي يتمظهر بالزمن ليروي أحداثا يتداخل فيها الوصف ليتأملها او يعطي رايا فيها او يشجبها أو يعضده وكما يقول جيرار جينت (انه يسقط القصة في الحيز)
4- طريقة الوصف هنا في هذا النص علائقية حتى لنكاد ان نقول ان النص مسرود بالوصف العلائقي وهو ( تعيين موقف الموصوف داخل المكان والزمان او مقارنته بموصوفات أخرى من خلال التشبيه والاستعارة وصيغ الموازنة والنفي
5- تنوع الوصف أيضا بكونه ذاتي وموضوعي مما خدم اهداف النص
6- الانزياح من الدلالة داخل السياق الى سياق مباغت مثلا
(الليل بارد وقاسي لكنه هادئ قد يساعدني بسماع تدفق الماء الذي يثلج صدري، نسيت أني فقدت الكثير من سمعي، يكفيني ما سمعته طوال عمري) ف يكفيني ما سمعته طوال عمري / التفات من الحضور الى الغيبة في التاريخ وهو توكيد سياقي ذكي
كذلك ( قضيت عمري وأنا انقي أرضي من الصخر ...إذا أنا لست بأرضي فأرضي كقطعة اسفنج ...سهلة لينة ...كنت أقول لأولادي افترشوها ...هي أحن عليكم من أسرّتكم) الانزياح نحو ( أحن )
وأيضا جملة النهاية الرائعة
(آخر ما لمحته كان الدرج الموصل إلى باحة البيت ،كان قريباً جداً ...لكنني الآن مغروسة وعليّ أن أنتظر إلى أن تجف الأرض كي يقتلعوني...ولا زلت انتظر شمساً .. ويداً ) فلاحظ الانزياح من الواقعي الى البلاغي ليعلن شعارا مدويا وحكمة نضرة وحبلى بالجمال وخصوصا تنكير الشمس واليد
7- انزياح عكسي من التاريخ الى الحاضر كقولها
ليلتها. تسامرنا حتى الفجر.. وكانت نسائم الفجر محملة بحب وحنان ..لم ينقطع إلا بوفاته.
لم أكن غبية، كما أني لست خرفة الآن. ها أنا أذكر كل هذه التفاصيل لكن توهني الظلام ،وقتها فعل ضوء القمرفعله،ورأيت ما أحببت بعيون زوجي، لكن لا قمر ولا ضوء الآن. ولا عيون تعتذر ..التيار الكهربائي مقطوع ..وكل الأواصر مقطوعة وقد لا يأتي ولدي. حيث توقف التاريخ حتى قولها ورأيت ما أحببت بعيون زوجي لتعلن الدالة الزمنية ( الان ) مغزى المشهد (لكن لا قمر ولا ضوء الآن. ولا عيون تعتذر.. التيار الكهربائي مقطوع ..وكل الأواصر مقطوعة وقد لا يأتي ولدي)
كذلك الانزياح من الواقعي الى البلاغي ولا زلت انتظر شمساً .. ويداً
حيدر الأديب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تأويلات وتفكيكات / الدكتور محمد شوقي الزين / الجزائر
حيدر الأديب
فجرُ الطّين
ـــــــــــــــــــــــــــ
لن أستنجدَ بأحد، سيقولون إنّني خرَّفتُ وسيخبرون
أولادي، وهؤلاء لن يرحموني من عتابهم القاسي.
ابني الكبير، بحجّة عطفه عليّ، سيجد مبرراً لسوْقي معه إلى المدينة، وأنا
أمقتُ السكنَ هناك بعيداً عن أرضي وبيتي. بيتي!
كيف لي أن أستدِلَّ عليه في هذا الظّلام الدّامس... أستحقُّ ما أنا فيه، ما
لي و مواعيد الرّي الظّالمة، دائماً يفوتُنا ريُّ الغِراس؛ لأنّهم يُخَصِّصون
لقريتنا ريّاً ليلياً، وولدي لن يحضرَ كعادته، أردْتُ أن أُفرِحَهُ بما سيدهشُه،
قرَّرْتُ أن أتحدّى سنواتي الثمانين، أتَّكِئُ على عصايَ؛ لأسقيَ الغِراسَ المجاورةَ
لبيتي.(قلب رأسي) بهذه الظُّلمة اللعينة، فقدت الإحساس بالاتِّجاهات، بتُّ
أُشرِّقُ وأنا مقتنعةٌ أنّني بطريقي الصحيحِ غرباً، عُدْتُ أبحثُ بنظريَ الضعيفِ
عن بصيصِ ضوء، يا لسخرية القدر! فقد تُهْتُ بأرضٍ ألِفتُ ذرّاتِ تُرابها ذرّةً
ذرّة. أغدو وأجيءُ مرّاتٍ ومرّات، أتتبعُ
رائحةَ الأرض، للأسفِ ليس لأشجارِنا رائحةٌ، بل أنفي شاخَ ولم يعدْ يميِّزُ حتّى
رائحةَ النّعناع، إذن لأُصْغيَ للماء قليلاً، الليلُ باردٌ وقاسٍ، لكنّه هادئٌ، قد
يساعدُني على سماعِ تدفّق الماء الذي يُثلجُ صدري، نسيتُ أنّي فقدّتُ الكثير من سمعي،
ألا يكفيني ما سمعته طوالَ عمري، بقيَ أن أتلمَّسَ الطين، يدايَ ستعرفان كيف
تُسْبرُ دروب الطّين، حيث انفلت منّي الخُرطومُ الوقحُ... كاد أن يرميني أرضاً،
أسندُ ظهري المحني إلى صخرةٍ... صخرة... قضيتُ عمري وأنا أنقِّي أرضي من الصّخر، إذاً أنا لستُ بأرضي، فأرضي كقطعةِ
إسفنج، سهلةٌ ليِّنةٌ... كنتُ أقولُ لأولادي افترشوها، هيَ أحنُّ عليكم من
أَسِرَّتِكُم، سقى اللهُ تلك الأيامَ.
أُقْسِمَ يميناً معظّماً ألّا أبيتَ تلك الليلةَ ببيتِهِ، كما أسمَاهُ.
ـ اخْرُجي من هنا أيّتُها الغبيّة، أهلُكِ أولى
بغبائك، وكان ذلك عقاباً لي؛ لأنّني أضعتُ المِجرفة. توسَّلتُ إليه أن يسمحَ لي
باصطحاب ابني الرّضيع، لكنّه أبى، فالغضبُ كان قد أودى بعقله. جررتُ خيبتي،
وانكساري، وتركتُ قلبي مع ولدي، هممتُ بالنُّزولِ بدربٍ يوصِّلُني إلى أهلي، بكاءُ
صغيري أعادني لأدورَ حول صوته. يحاولُ إسكاتَهُ، يروحُ ويجيءُ به، وأنا أُراقبُهُ
من طاقةٍ صغيرة، يقرِّبُهُ من مصباحِ (الكَاز)؛ كي يلهيَهُ عن جوعه بمراقبة لسان
اللّهبِ. يمتدُّ خيالُه على الحائط كماردٍ كبير، قلبي ينعصرُ ألما عليهما، ولم
يعدْ يحتملُ... مددتُ يدي من الطّاقة، وصرختُ صرخةً أسكتتْهُ و أجفلتُ زوجي:
ـ ناولْني إيَّاهُ أرضعُه ثم خذه.
ـ أنت هنا! لِمَ لَمْ تذهبي لأهلك؟
ـ خشيتُ أن يتناولوك بسوءٍ، إذا علِموا أنّك
طردْتَني ليلاً.
ـ أصيلةٌ، تعالَيْ اُدْخُلي.
ـ ما عاذَ الله أن أكسرَ لك يميناً، هاتِ الولدَ
أُرْضِعْهُ وأبيتُ ليلتي هنا...
أذكرُ يومها، بكى زوجي بشدَّةٍ، كان طيَّباً، سريعَ
الغضب، دموعُهُ عزيزة. يومها تسامرْنا
حتّى الفجر، وكانت نسائمه محمّلةً بحبٍّ وحنان لم ينقطع. لستُ خَرِفةً الآن، ها أنا أذكرُ كلَّ هذه
التفاصيل، لكن توَّهَني الظّلام، وقتها فعل ضوءُ القمر فعله، ورأيت ما أحببت بعيونِ
زوجي، لكن لا قمرَ ولا ضوءَ الآن، ولا عيونَ تعتذرُ، التَّيَّارُ الكهربائيّ
مقطوعٌ، وكلُّ الأواصر مقطوعة، وقد لا يأتي ولدي.
بزغتْ خيوط الفجر، فبانت أخيلةُ الأشجار من حولي، هذه غرسَها زوجي، وهذه
غرستُها بيديّ، والفتيَّةُ لابني، أظنُّها ارتوتْ، ها قدِ استوت بوْصَلَتي لكن ضاع
عُكَّازي؛ فرحتُ أحبو، جفَّ حلقي، شعرتُ بالإنهاك وبألمٍ شديدٍ في قلبي، إذْ غاصت
قدمايَ ويدايَ بالطِّين، أسلمتُ رأسي للوحل، آخرُ ما لمحتُهُ كان الدَّرَجَ
الموصِّلَ إلى باحةِ البيت، كان قريباً جدّاً؛ لكنّني انغرستُ وعليَّ أن أنتظرَ
إلى أن تجِفَّ الأرضُ، وما زلتُ أنتظر ُ شمساً ويداً تقتلعُني.
صديقة علي 25ــ11ـ 2019