-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

الفانتازيا في رواية ثلاثة في الليل المتوكل طه

 الفانتازيا في رواية ثلاثة في الليل المتوكل طه

رائد محمد الحواري


الفنتازيا أحد أشكال مواجهة الواقع، فرغم أنها تواجهه بطريقة خارج العقل وبعيدة عن المنطق، إلا أنها توصل فكرة الرفض للقارئ، وتجعله يشعر بحجم المأساة المطروحه، واللافت في الفانتازيا إنها تتحدث عن الحياة الآن، لكن لا تقدمها بصورة مباشرة ولا واقعية، وهذا من يخفف على المتلقي، ويجعله ينسجم مع العمل ـ رغم قسوة الفكرة ـ، وهذه ميزة أخرى تحسب للفانتازيا، فهي تتناول مواضع وأفكار قاسية، ولكنها لا توتر القارئ أو تغضبه، لما فيها من تجاوز للعقل، فتبدو الصورة/الحدث/المشهد غير حقيقي وغير واقعي.
الرواية تتحدث عن ثلاثة شخصيات، الجد الشيوعي، والهدهد والدربيل، القسم الذي يتحدث السارد عن الجد الشيوعي "أبو صالح" و يتحدث عن الصوفي "أبي بكر العكاس" والكرامات التي يتمتع بها، واللافت في هذا القسم أن الحديث عن الصوفي "العكاس" يتفوق على ما جاء عن الشيوعي.
أما القسم الثاني، فيتحدث عن الهدهد والذي تحدث عن المستقبل وما سيكون عليه حال المنطقة العربية وخاصة فلسطين، فهناك مجموعة نبواءت تتحدث عن الخراب القادم، أم القسم الثالث فيتحدث عن "الدربيل/ المنظار" وكيف يشاهد "طارق" الناس والبيوت وما فيها، والواقع وما فيه من أهول.
الصوفية والبدايات
إذن يمكننا القول أن هناك بداية نقية صافية بدأت بالحديث عن الصوفي "العكاس" والشيوعي "أبو صالح" وهذه الثنائية "العكاس وأبو صالح" تخدم فكرة التوحد والحلول التي تشكل العمود الفقري في الصوفية، والتي تعتمد أصلا على حالة روحية صافية تجعل الفرد يتخلص من ثقل الجسم ليتحرك بروحه إينما يريد، وهذا ما يجعل "العكاس" يتمتع بهذه الكرامة: "لقد صلى أبو بكر الفجر في مسجد رسولنا العظيم في مدينة الحبيب! وعاد لتوه من هناك، لكنه كان معنا الليلة الفائتة، يقود دائرة النور؟" ص2، وهذا الفكرة تأخذنا إلى حادثة الاسراء والمعراج، لكن بطريقة معكوسة، فبدأها الشيخ من فلسطين إلى المدينة، وليس من مكة إلى فلسطين/القدس، اعتقد أن المُراد من هذا الأمر ربط المكانيين، فلسطين والمدينة معا، وربطهما بالدعوة المحمدية للإسلام.
ولم تقتصر الكرامات على ما هو شخصي، متعلق "بالعكاس/بالعبادة" فحسب، بل طالت ما هو عام "الطعام" أيضا: " ...وتحلقوا في غير مكان حول الصحون من الأرز واللحم واللبن، وبسملوا وراحوا يأكلون بهدوء وروية، والطعام على حاله لا ينقص منه شيء!" ص3، وكأن السارد من خلال هذا المشهد يريد القول أن البدايات كانت نقية وصافية وفيها الخير الذي لا ينقطع أو ينتهي.
دائما أي نهج يحتاج إلى افكار تؤيده، فالفكر يصاحب السلوك ويلازمه، من هنا نجد حديث نبوي شريف يؤكد على حدوث الكرامة: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمش بها، وإن سألني لأعطيته، ولئن أستعاذن لأعذته" ص6، وهذه دعوة غير مباشرة من السارد للتمسك بالبدايات، بالثوات الفكرية/العقائدة/الأيدولوجية التي بُنيت عليها تلك الحركات.
السارد يحمل لنا أشارة، إلى أن القصد هو "الدين الإسلامي الذي نتشره الرسل محمد (ص) من المدينة المنورة إلى العالم: "الشيخ أبو بكر العكاس هو محمد بن عمر بن علي بن عثمان بن بكر بن عبد العزيز، المكنى بالعكاس، المجاور للحرم النبوي الشرف في المدينة لمنورة، قبل أن ينتقل أبناؤه إلى الشام، ويستقروا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قريبا من يافا، وسط بيارات الليمون والبرتقال، وبين المزارع الممتدة حتى سلسلة الجبال الشرقية، في منطقة الينابيع، معروفة بخصبتها واعتدال مناخها" ص11، نلاحظ تسمية ونسب "العكاس" تبدأ بمحمد، ثم إلى الخلفاء الراشيدين، "عمر، علي، عثمان، أبو بكر/بكر، والخليفة الأموي الذي يعد الخلافة الراشدي الخامس "عمر بن عبد العزيز، ونلاحظ أيضا اهتمامه بالمكان، بداية الانطلاقة الرسالة المحمدية، المدينة المنورة، وتركيزه على الشام، فيتحدث عنها باسهاب، وكأن السارد يريد من القارئ التركيز على المكان الآن/الشام، وتحديدا فلسطين، خاصة بعد أن ذكر بيارات البرتقال في يافا، فهي التي يريدها أن تبقى تحت "الدربيل" وليس سواها.
هذا يأخذنا إلى كل الباديات التي كانت نقية وصافية، ثم تحولت إلى نهايات مُحرفة ومُشوهة، منذ بادية الإسلام وحتى أخر فصيل فلسطيني، فالبدايات دائما كانت نقية، لكنها ما أن تمكنت وظهرت حتى انحرفت وانزلقت إلى الهاوية، هكذا نفهم ما جاء في "الجد الشيوعي".
الفينيقي/السوري
النهوض من الموت فكرة فينيقية قديمة، جسدها السوري القديم من خلال: ملحمة "تموز/البعل، وأنانا/عشتار" وقصة "إبراهيم عليه السلام" وخروجه سالما من النار، أحدى القصص التي حولها السوري القديم إلى أسطور "الفينيق" وخروجه حيا من الرماد، يقدم لنا السارد هذه الفكرة بهذا الشكل: "...فرسان الأنتداب الذي جاءوا يبحثون عن الشيخ العكاس لاعقاله، لأنه يحرض ضد ما يقترفونه من ظلم، وما ينهبونه من البيوت والخوابي، ويدعو لمواجهتم.. فما كان من الشيخ إلا أن دخل إلى فرن أبي الناجي، فتبعه الفرسان، وأحاطوا بالفرن الذي تتوهج ناره.. ودخلوا، فما كان من العكاس إلا أن خلع عباءته ودخل إلى بيت النار حيث المصطبة التي تنضج الأرغفة فوق بلاطها.. فانذهل الفرسان، وتيقنوا أن الرجل قد احترق وذاب جسده على العجين المفرود. فرجعوا وهم على قناعة بأنه قد مات، لكن الشيخ قد نجا، حيث خرج من بيت النار، ونفض قفطانه مما علق به من طحين ورماد، ثم وضع عباءته على كتفه ومضى" ص15و16،
وفي موقف آخر، وبعد أن تيقن الجميع بستشهاد الشيخ "العكاس" إلا أنهم يشاهدونه متجولا في بلاد الله الواسعة: "بعد شهور، تطامن الجميع على أن الشيخ قد سقط شهيدا، فأقمنا له بيت عزاء، وظل الناس يترحمون عليه، وشيئا فشيئا راحوا ينسجون حكايات مجيدة عن غيابه الغامض، وأقسم بعضهم انه رآه في يافا، فيما حلف آخر أنه صادف أبا بكر يصلي وقت الحج في الكعبة المشرفة، وقال من قال إنهم رأوا أبا يكر بالقرب من خرق الجبل مسلحا ببندقية وحزامه العسكري، وأدعى الكثيرون أنه جاءهم في المنام.
لقد أعادنا أبو بكر إلى زمن غير معلوم، والحياة لا تتوقف من أجل أحد" ص46، هكذا تعامل الفلسطيني قديما مع الغائبين/الموت، رغم رحيلهم، فقد كانوا بالنسبة له حاضرين، وهذا ما نجده في الفكر الفينيقي القديم، فرغم غياب البعل إلا الفينيقيين أعتبروه موجودا وحاضرا، وأخرجوه من الموت ليعيد الخصب والحياة إلى مسارها الصحيح، وها هم أحفادهم يعيدون "العكاس/البعل" من جديد إلى الحياة، مؤكدين على استمرارة فكرة الخلود في الحياة التي انتهجها اسلافهم قبل آلاف السنينن، وبهذا يكون السارد قد رد على الدعوة الصهيونية التي تتحدث عن علاقتها التاريخية بفلسطين، مؤكدا من خلال حديثه عن "العكاس" على أن الفلسطيني منذ خمسة آلاف عام يتبنى فكرة واحدة، تتمثل في عودة لشهداء/الغائبين إلى الحياة.
الواقع في فلسطين
ضمن الحديث عن "العكاس وأبو صالح" تطرق السارد إلى ما تتعرض له فلسطين وشعبهاعلى يد لمحتل الانجليزي، فبعد أن يتم اطلاق سراح "أبي صالح" مع الإبقاء على رفاقه في الأسر، يوضح "العكاس الهدف من هذه العملية بقوله: "...أنا أقسم بالله عنك أنك بريء، واعتقد أنهم أطلقوا سراحك حتى يغتالوك معنويا، بعد أن يرموك بهذا التهم، حتى لا يثق بك أحد، وبالتألي تنتهي وتنكفئ وتصير وحيدا بلا جدوى، لقد أطلوا شائعاتهم السوداء ليفقدوا المجاهدين والمناضلين ثقتهم بأنفسهم وثقة الناس بهم" ص25و26، هذه احدى اساليب الإنجليز لضرب لوطنيين والحركة الوطنية، لكن "العكاس" كان يعلم ما يحيكه الإنجليز من مؤامرات وحيل خبيثة، لهذا وقف موقفا صحيحا مما يجري مع "أبو صالح".
في المقابل نجد الشيوعي "أبو صالح" الذي يحرص على تقدم المجتمع وتخليصه مما علق به من نهج يعيق تقدمه، يتخذ موقفا صحيحا مما يمارسه رجال الدين من سلوك خاطئ بحق الدين وحق لناس: "...إن هؤلاء الخطباء، يدعي الواحد منهم أنه يمتلك الحقيقة، التي هي مقدسة من وجهة نظره، ويطلب منك أن تنصاع إليها، لأنها الحقيقة ولأنها مقدسة، وإلا فإنه سيمارس العنف عليك، وليس بالضرورة العنف الدموي، إنما العنف بصورته المعنوية كالتكفير والزندقة والإخراج من الملة والتفسيق" ص30.
ويتقدم أكثر لينتقد الجماعات والحركات السياسية الإسلامية، ودورها في تخريب النسيج الاجتماعي للأمة/للشعب، ودورها في تفكيك المجتمع إلى طوائف وجماعات متفرقة: "...ما دامت منكفئة لا تعترف بمفردات اللحظة ومتطلباتها، ولا تعترف بالآخر الوطني، وتسارع إلى تكفير أو إعدام من لا يؤمن بأفكارها، وتلجأ إلى وسائل غير حضارية وغير سليمة في التعاطي مع المختلف، أو لا تعترف بخصوصيته، وتؤمن أنها وحدها تمتلك الحقيقة ومفتاح الحياة" ص30.
يؤكد "العكاس" خطورة نهج تلك المجماعات الدينية ودورها الخطير على المجتمع بقوله: "إن أي فكر أو دين أو عقيدة بالإمكان تأويله بشكل مغلوط، والذهاب به إلى القراءة الخطأ، ما يؤدي إلى التعصب والتطرف والظلامية، قولا وفعلا، وهذا لا يقتصر على دين بعينه أو فكر دون آخر" ص34، ضمن هذه الحوار يتم كشف الأخطار المحدقة بالوطن والمواطن على يد الجماعات المتطرفة، مهما كان منبتها أو فكرها، وهذه دعوة ـ غير مباشرة ـ إلى ضرورة احترام الرأي (المختلف معنا) والأفكار الأخرى، خاصة إذا علمنا ان المتحاورين يتبنيان نهجين متناقضين، شيوعي وإسلامي.
المكان
يمكننا القول ان هناك سمة عامة في الأدب الفلسطيني تتمثل في تناوله للمكان وذكره، ورواية "ثلاثة في الليل" جاءت لتؤكد هذا الأمر: "كان الشيخ ينصت باهتمام بالغ، ويدقق في كلمات هذا الشيوعي، الذي ظهر كأن السنوات التي أمضاها سكرتيرا في ميناء يافا واختلط مع المثقفين وأصحاب الآراء هناك، قد جعلت منه رجلا يعي ويعرف ما يقول" ص35، أهمية حضور المكان لا تكمن في أسم "يافا" فقط، بل في إثبات أن وجود الفلسطيني فيها سبق وجود وقيام دولة الاحتلال، بمعنى أن هذا الذكر مرتبط بحضور وفاعلية الإنسان الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، وبهذا يكون السارد قد رد على الرواية الصهيونية التي تدعي أن لها جذور في فلسطين.
العلاقة بين الفلسطيني وفلسطين علاقة وحدة وجود، ولا يوجد لأحدهما دون الآخر، من هنا نجد "أبو صالح" يردد اسم فلسطين حتى وهو في مواجهة الموت: "كان كل من مع هذا الشيوعي الأخير قد سقط شهيدا، لكن أبا صالح كان ينزف مثخنا بجراحه.. فوقف جيراد عند رأسه مسلطا ماسورة بندقيته على رأس أبي صالح، الذي لم يقو على رفع بارودته، لكن، ومع زخات رصاص جيراد، كان أبو صالح يردد أسم بلاده" ص40، صورة تؤكد التوحد ما بين الفلسطين وبلاده، فهو يذكرها حتى في لحظات الإحتضار، وكأنها الشهادتين التي سيلاقي بها ربه، هكذا هي فلسطين بالنسبة للفلسطيني.
فلسطين لم تكن مجرد أرض، بل وطن، لهذا نجد الشخصيات الرئيسية في الرواية عملت على مقاومة الاحتلال الانجليزي والعصابات الصهيونية: "...لقد ركب حصانه، وقصد البلاد شمالا ليسلم على صديقه أبي لطفي "الهدهد" الذي خرج لتوه من سنوات الاعتقال التي قضاها في سجن عكا، وقد نشطت العصابات ، فيما استأسد الوطنيون والمجاهدون في الرد عليهم ومواجهتهم، على رغم الخذلان وقلة السلاح" ص44، المهم في هذا المشهد ذكر عكا وربطها بالمناضلين والمجاهيدين الذي عملوا وقاوموا في ظل ظروف صعبة وقاهرة، رغم الإمكانيات وتواضعها، إلا أنهم أصروا على الاستبسال/"أستأسد" فكانوا هم المثل الذي اقتضى به الأتباع والأبناء.
الهدهد
بعد الحديث عن الماضي من خلال الشيوعي والصوفي، يأخذنا السارد إلى قراءة لما سيكون عليه الحال في المستقبل، فإحدى ميزات الهدهد تكمن في: "يستشرف الوقائع قبل حدوثها، ويخبر بها قبل أن تقع" ص57، فهو يحذرنا مما هو آت وينذرنا بخطورة ما هو قادم إن لم نصحح مسارانا ونهجنا في الحياة، السارد يقدم لنا نموذج من التاريخ لنسرع في عملية الإصلاح، ونحسن القراءة/التحليل لما يجري على الأرض بصورة صحيحة: "...يبدو أننا كنا كوميديين، على الرغم من تحذيرات الهدهد! إنه مثل زرقاء اليمامة، التي لم يصدقها قومها، فدفعوا ثمن تكذيبهم لها" ص60، الجميل في هذا الربط بين خطورة ما هو قادم والعبرة التي يحملها التاريخ، أنه ينسجم مع العقلية العربية المرتبطة بالتاريخ وبالنصوص التراثية/(المقدسة)، فالعقل العربي يرفض أي فكرة إن لم نقرنها بقول لأحد العلماء/الصالحين/الحكماء، أو أن لم ندعهما بحدث تاريخي يسندها، فالسارد يعيي طبيعة هذا القسم من الرواية، لهذا استخدم اسلوب خطاب ينسجم مع فهم الطرف المخاطب، فهو يريد إيصال رسالة للمتلقين، فكان هذا الاسلوب هو الانسب.
يتحدث الهدهد عن الخراب القادم بقوله: "...وستشهدون أندلسا أخرى، ممالك وطوائف ودويلات وطحن ساخن، وعداء فاجر، وسينشق الهلال، وتتعمق الفتنة أو تعود، وسيحتلون نصف المحراب، ويحرقون المنبر، ويمطرون السجود بالثاقب المجنون، ويرفعون الشمعدان على معابد الخراب ...ونيأس، كالعادة، أو نتضامن مع المنافق الذي بدل المشهد وادعى أن عباءتنا الممزقة تتسع للألون...وسيعترضون النهر العظيم، وسيعملون على تجفيف ينابيعه، أو الذهاب بها إلى المهاوي والمجهول، وسيقولون: سيعطش النهر، انتظروا، فلا تنتظروا الآن النهر بالعطش، ستستيقظ تماسيحه وستستحل حتى تأكل وجه الداعي إلى اليباب.. وسيصبح الوهم هواءكم الفاسد، الذي يملأ صدوركم، وحرفكم الذي تتشدقون به على المنابر، وحجارتكم التي ترمونها على أعدائكم...فتشج رؤوسكم" ص68و69، بهذا القراءة/الرؤيا يحذرنا الهدهد مما سيكون عليه لحال إن بقينا لاهين غافيل، فهذا الكلام ينم عن خطورة ما هو قادم ويحاكه الأعداء لنا.
رغم أهمية ووضوح ما قاله الهدهد، إلا أن السارد لا يكتفي به، لهذا نجده يشير إلى أهمية ما جاء على لسان الهدهد من خلال (إضافة) هذه الفقرة: "ويبدو أن الهدهد رائقا، وإن تفجرت البراكين بين ضلوعه، فلا يتضعضع ولا يضعف، بل يبقى على إيقاع صوته المتزن الواثق، دون لعثمة أو اضطراب، ويظل قادرا على رؤية الماء تحت الصخور الجوفية" ص69و70، فكرة السارد واضحية، فهي تؤكد على حكمة وموضوعية ما يقوله، لكن المهم ليس في القول المباشر، بل في الالفاظ التي استخدمت للإيصال الفكرة، فهناك لفظ: "يتضعضع" الذي يتماثل فيه تكرار الضاد والعين مع تكرار الهاء والدال في الهدهد.
وبما أن لفظ "يتضعضع" يعطي معنى سلبي، فجاء حرف النفي "لا" ليزيل المعنى السلبي، ويقدم (الشكل) الجميل والمتناسق للفظ، والذي يؤكد على (نقاء) فكر ونهج الهدهد. كما نلاحظ وجود مجموعة ألفاظ جميلة مثل: "إيقاع، المتزن، الواثق، رؤية" وهذه الالفاظ بمعناها المجرد تخدم الصورة الباهرة التي وضعها السارد "للهدهد"، وبهذا يكون قد أوصل الفكرة إلى القارئ من خلال لمعنى العام، ومن خلال الألفاظ المجردة أيضا.
كلما ابتعد السرد عن المباشرة كان النص أجمل، وأكثر إمتاعا للمتلقي، وبما أن من يتحدث هو "الهدهد" الحكيم، العالم بما سيكون عليه الحال في المستقبل، فكان لا بد له من استخدام اسلوب متميز في مخاطبته: "...وأتمنى ألا يرفعوا الغصن! لأنهم أحرقوا الزيتون، ولأننا سنجعله سوطا ندمي به ظهور أولادنا" ص71، الجميل في هذا الطرح تقديمه بصورة رمزية بعيدا عن المباشرة، فلم يذكر "الهدهد" عرفات ولا خطابه في الأمم المتحدة، لكن الفكرة تصل إلى القارئ، ويستوقفه هذا الشكل من الخطاب، لما فيه من جمالية ودعوة للتفكير، فهو يمثل ردا على كل من يردد ما قاله "عرفات" في الأمم المتحدة قبل خمسين سنة، فالهدهد لا يؤمن بقدسة القول ولا يؤمن بصواب فعل/قول في كل الظروف والأمكنة والأزمنة، فلكل زمان، وكل ظرف، وكل مكان له ما يناسبه، وهذا يستدعي أعادة النظر فيما حدث في فلسطين بعد أوسلو، والنهج الذي مارسته السلطة، إن كان على مستوى الشأن الداخلي الفلسطيني أم ما متعلق بالعلاقة مع دولة الاحتلال.
في مقابل هذا الشكل الجميل، هناك اسلوب آخر قاسي، يخاطب فيه الهدهد المطبعين والمنساقين وراء وهم السلام مع العدو المحتل: "والقرية التي عقدت هدنة مع العصابات.. ساذجة! لقد اطمأنت لوعد كبيرهم اللقيط، وهو يحلف بشرف امه الزانه.
وسيقبى المأتم مفتوحا مثل أشداق القرش، حتى نمل الحياة، وستتساوى ضجة البرزخ من نضارة المفقودة،" ص73، فنلاحظ وجود ألفاظ قاسية: "عصابات، اللقيط، الزانه، المأتم، أشداق، ضجة" كل هذا يؤكد على سواد الأشخاص/الحدث التي يتناوله الهدهد، من هنا أقرنهم بالسواد والذم والقسوة.
الدربيل
بعد أن تناول السارد الماضي والنقاء الذي اتسم به، نقلنا إلى المستقبل وما سيكون عليه حالنا، وفي "الدربيل" يحدثنا عن الواقع، لكنه ليس الواقع الذي نراه، بل وأقع آخر، واقع يقدم بصورة الفانتازيا، وهذا الشكل يمثل أحد الطرق التي ينتهجها السارد للتخفيف عن نفسه وعلى القراء، فحجم السواد في الواقع يستوجب إيجاد شكل يقدم الواقع لكن باسلوب (يخفف) به على المتلقي قدر المستطاع، فنجده يضخم الصورة أو يجعلها أبعد من العقل، أو يبدل ويغير فيها، لتكون صورة متداخلة ومتشابكة، بحيث تُوصل الفكرة للقارئ لكن ليس بشكلها العادين المتعارف عليه.
يسرد لنا "طارق" ما يشاهده عبر "الدربيل" من صور، لكنها ليست صورة مألوفة، بل صورة في غاية الغرابة: "....تدخل امرأة ترتدي مبذلا ينم عن كل مفاتنها، ..ثم تطير هذا المرأة، أو أن أيادي خفية تحملها، وتمددها على الطاولة، فينسدل الشعر عن وجهها، فإذا به وجه غزال!" ص88، فالمشهد يشير إلى جسد امرأة، لكن وجهها ليس وجه بشري، بل غزال، نلاحظ أن "طارق" في أول مشهد يراه في الدربيل، أظهر المراة بصورة (مقبولة)، وكأن هناك (طعم) يقدمه الدربيل لطارق، ليتظر أكثر فيه، فدائما مشاهدة النساء مثيرة للرجل، خاصة عندما تكون المشاهدة بعيدة عن أنظار العامة، ومخصصة لرجل واحدفقط.
لكن، عندما يريد أن يرى جموع الناس يشاهدهم بصورة سوداء وقاتمة: "...ثم تداركت الأمر ورفعت الدربيل، ونظرت نحو الشارع فرأيت أكوما من البشر، وتلالا من الجدثث تتراكم وسط الطرق، وقد غطت الرصيف وأغلقت أبواب البنايات" ص90، فالصورة هنا مضحمة وغير مألوفة، حتى أن العقل يعجز أن تخيل صورة بهذا الشكل.
اعتقد أن سبب هذه القتامة يعود إلى نفور السارد من المجتمع والواقع، لهذا قدمهم بصورة غارقة في السواد.
يعرفنا "طارق" على الدربيل وسره، فهو ليس "دربيل/منظار" عادي، فهو ينقل الصورة والصوت معا، ويظهر (حقيقة) الأشياء حسب واقعها وحقيقتها، وليس حسب شكلها وما يُظهره منها، وبما أن غالبية ما ينقله سلبي، فلم يقدم صورة عادية مقبولة للعقل وللمنطق: "أيها الدربيل، يا من تجعلني أسمع وأرى!، أجعلني أرى شيئا جديدا، مدهشا، عميقا، مختلفا" ص100، "الدريبل" هنا يتماثل مع الفانوس السحري، الذي يحقق الأماني، لكن أماني "طارق" تتمثل في رؤية الناس على حقيقتهم، وليس ما يظهرونه، من هنا نجده يظهر أمرأة بصورة مخيفة: "..أنها حيات.. يا ويلي أفاع تتلوى على ذراع المرأة، وتمد رأسها نحو فمها وتقلبها، وحية أخرى تلتف حول صدرها، أخرى تتخذ شكل الكعكة على رأس العجوز، وأفعى تسحل على ركبتها وتهبط نحو قدميها، وحيات لا عد لها تسبح على البلاط حول المرأة" ص100، مشهد يتماثل مع ما جاء من مشاهد الجحيم في ليلة المعراج، فالصورة مرعبة ومخيفة. ولا ندري لماذا قدم "الدربيل" هذه الصورة للمرأة، فهل وجد شيء منها ليقدمها بهذا الشكل المخيف؟، أم أنه لم يعد يرى جمالا فيها، فجاءت بهذه القتامة؟.
في مشهد آخر نرى العجائب: "..فرأيت امرأة تجلس أمام التلفاز، وتمد رجليها على الطاولة، وتحمل بيدها جهاز التحكم بالتلفاز، ثم تقوم وتدخل إلى شاشة التلفاز، وتحتل الشاشة، وتصبح هي المذيعة نفسها!" ص104و105.
وفي مشهد أخر نرى الجنون بعينه: "...مذهل، رهيب! إنها امرأة تحاول أن تخفي ما تحت سرتها بيديها.. فيندلع صدرها المشدود الصغير، وعلامات الفرح والدهشة على وجه النحات، ثم تنتصب المرأة التماثل بعد أن ترفع يديها عن أسفل بطنها، وتأخذ الإزاميل والمطرقة من النحات، وتروح تشذب خصرها، وتحت ما بين نهديها، وتشحذ برأس الإزميل فتحة فمها وأطراف عينيها، ثم تدفع بالنحات إلى خارج النافذة، وتمضي إلى الغرفة فتضع قميصا طويلا على جذعها وشالا على جيدها.. وتخرج" ص122و123.
لا يكتفي السارد بهذه الصور، فيرى نهاية الأرض وما عليها، بمشهد قريب من يوم القيامة: "....فإذا بعملاق، وهو إنسان، من حيث الشكل والملامح، لكنه عملاق يبلغ طوله قرابة الثلاثين مترا، ويمشي مختالا في الشوارع، ويمرر يده الكبيرة على العمارات والقباب، وينقر بإصبعة على بعض النوافذ، ويسير متبخترا وأثقا لا يخشى شيئا، وفجأة أطلق صرخة طويلة زلزلت المدينة وما حولها، فإشرأبت الأعناق وانكتمت الأنفاس وتقوقع المواطنون على أنفسهم، ثم رفع يده إلى السماء نفضها فأبرقت الأعالي، ورايت أشجار البرق بشعابها الفضية تقدح وتفهق، وتبعها رعد قاصف مخيف، فدبت النار في الغيوم، وامتدت الحرائق في السماء.. إلى أن أصبحت جهنم الحمراء، وبدأت قطع تتساقط كسفا متوهجة على الأرض، فأغلق الناس بيوتهم على أنفسهم ولم يبقى أحد في الطرقات" ص145، هكذا يرى "طارق" الواقع الذي يعيشه، اعتقد أن ما حدث ويحدث في المنطقة العربية يجعل هذه القيامة قريبة من الواقع، فالحرب الأهلية التي تفتك بسورية واليبيا واليمن والعراق منذ اكثر منذ ما يقارب العشر سنوات، يجعل المشهد مألوفا لهذه الدول.
ترتيب الأحداث
من المفترض ان يحدثنا السارد عن الماضي، ثم الحاضر، ثم عن المستقبل، لكنه بدأ بالماضي، وهذا منطقي ويتوافق مع مجرى الأحداث، لكنه قفز إلى المستقبل متجاوزا الواقع، وهذا الأمر يستدعي التوقفف عنده، فهو عندما تحدث عن المستقبل أرادنا أن نصلح ما نحن فيه، فالخراب الذي قدمه "الدربيل" يبين حقيقة واقعنا، حتى أن القيامة التي رأينها كانت مهلكة لنا ولبلدنا/ولوطننا، وهذا يستدعي انهاء الخراب والدمار الواقع الآن، لنتقدم إلى المستقبل بشكل صحيح، فالمستقبل لم يأتي بعد، ويمكن أن نعالج الأخطاء فيه، إذا ما صححنا مسارنا ونهجنا.
أعتقد أن السارد اراد بهذا الترتيب ـ مخاطبة العقل العربي الذي ينسى بسرعة، ويبقى متعلق بالخاتمة/بالنهاية، فأراد أن تكون الخاتمة تتحدث عن الواقع المزري الذي نعيشه، لتكون دافعا لقارئ ليتقدم وصحيح، ولينهي ألمه وألم أهله/شعبه/وطنه، ومن ثم سيكون من السهل عليه تغيير المستقبل.
الرواية من منشورات الرقيمة للنشر والتوزيع الإلكتوني" الطبعة الأولى 2021.
قد يكون رسمًا توضيحيًا لـ ‏كتاب‏


عن محرر المقال

aarb313@gmail.com

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية