تحضير عين
قصة قصيرة
نبيل نجار
مهبول! أرفع باهمي مؤكداً.
ـ على البركة! أهز رأسي مستسلماً.
ـ أجدب! أبتسم وربما سال بعض اللعاب من طرف فمي.
هي ألقابي في وحدتي، وهناك ألقاب أخرى، أنا سعيد بها لأنها تصرف عني الإهتمام وتحميني!.
لكل فرد في المجموعة اختصاص؛ هذا علم عسكري؛ ولكنني هنا لا أتحدث عن سائق دبابة أو عن قاذف آر بي جيه،هذا علم متخلف؛ أتحدث عن الغنائم!.. هذا هو العلم الحديث.
الأدوات الكهربائية الكبيرة كالبرادات والغسالات لها مختص، الصغيرة كالخلاطات ومجففات الشعر لها أيضاً صاحب، حتى الصنابير، الأسلاك الكهربائية الممدودة داخل الجدران، الأبواب الخشبية....كل مايخطر بالبال.
وكل مختص يدفع لقائد الوحدة نسبة محددة؛ طبعاً لقاء النقل والتحميل لاحقاً في سيارات الجيش.
اختصاصي أنا" الغبي" كان الكتب! المكتبة بحد ذاتها لواحد آخر، أنا أعفش الكتب فقط، لهذا كانوا يضحكون علي فسلعتي بائرة أصلاً، بلغ حد استهانتهم أنهم كانوا يبلغونني عن البيوت التي بها كتب، تصوروا ..الجنود الذين لم يتورعوا يوما عن دس بعض الأشياء الصغيرة في جيوبهم أو داخل سترهم أو حتى ضمن أكوامهم كانوا ينادونني يشيرون: هناك في ذلك البيت كومة كتب. كنت أحزم غنائمي كعامود طويل بحبل، أحملها، لا أشارك في نزاع، ولا أخشى من حسد، حتى أنني لا أدفع أي نسبة لآمر وحدتي الذي كان ينظر إلى غنائمي فيهز رأسه متمتماً: درويش. ثم يأمرني بالانصراف.
مرة واحدة، مرة فقط لمحت بعض الاهتمام ببضاعتي من النقيب، ولكنني بددت اهتمامه عندما رأني أدفع للحريق ببعض الكتب في الليالي الباردة، فانصرف عني وربما اخترع لي لقباً جديداً.
لا تستغربوا!، كثيراً ما أحرق بعض غنائمي أمام الجميع، أحرق الإصدارات الحديثة؛ قصص..دواوين شعر وكتب النظريات الفلسفية والسياسية، وأبقي على الكتب القديمة ذات الأوراق الصفراء، والأهم أبقي على المخطوطات فهي الصيد الثمينً أمي لم تستوعب تلك الرزمة التي جئت بها؛ لوت فمها، مطت نبرات صوتها بضيق: ماذا؟.. أنت أيضاً ورثت جرثومة الكتب من المرحوم! أنا لم أصدق
كيف تخلصت من كتبه حتى تأتيني أنت بهذه الرزمة المليئة بالعث والحشرات.
المرحوم والدي كان يملك مكتبة مليئة بالمخطوطات؛ وكان يقضي جل وقته في تحقيقها وطباعتها؛ حتى أنه كان عضواً في المجمع اللغوي
لكننا لم نكن ندرك قيمة عمله فلم يكن يدر عليه إلا الخسارة والديون؛ لذلك سارعت امي ببيع مكتبته بمجرد أن انتهت عدتها،ووضعت فيها أوانيها الخزفية والزجاجية.
لم أدرك قيمة تلك المخطوطات حتى قابلت صديقاً لوالدي أخبرني بأسف ودهشة عن مقدار الغبن والنصب الذي منينا به.
لنفس البائع النصاب ذهبت، نفس الرجل الذي اشترى مكتبتنا وكأنه يخلصنا من عبء ثقيل؛ ربما كان ينتظر أن ندفع له أجرة نقلها.
وضعت أمامه المخطوط بصمت، نظر باهتمام لمعت عيناه، ثم عاد بسرعة ليرتدي قناع اللامبالاة
ـ للبيع؟
ـ كم تدفع فيه؟
ـ أنت قل كم تريد ثمناً له؟.
ـ مليونين، هززت السبابة والوسطى.
دفع المخطوط تجاهي ولفظ كلمته بسرعة قبل أن يدير وجهه: كثير.
أخذت المخطوط وضعته في كيسه وهممت بالخروج: الأستاذ محسن دفع فيه مليوناً ونصف ولم أقبل.
ارتسمت الدهشة على وجهه للحظات، ثم صمت وقد قاطع ذراعيه على صدره.
عندما فتحت الباب فعلياً وكدت أضع قدمي خارج المحل قال: اسمع.. أنت ترى حالة السوق، لايمكنني دفع مليونين، ادخل لنتفاهم.
طرقت أصابعي على زجاج الباب، تصنعت التفكير، سألته دون أن أتحرك: كم ستدفع..من الآخر؟
ـ مليون وستمئة هذا آخر كلام.
هززت رأسي بعدم الموافقة: وسبعمئة وخمسون لن أخسر الأستاذ محسن لأجل مئة ألف، هو زبوني من زمان.
ـ وأنا سأصبح زبونك أيضاً..تعال ادخل لنشرب فنجان قهوة ولن تكون إلا راضياً.
اكتريت بيتاً في منطقة آمنة،اشتريت ثيابا جديدة، تناولت أطعمة كنت أراها في الإعلانات، نقلت غنائمي لبيتي الجديد، مسحت الغبار عن أغلفة الكتب القديمة ورتبتها بحسب الحجم صار لدي مكتبة كمكتبات المثقفين، أما ثروتي الحقيقة فقد فردتها على السرير لأتأملها؛ ستة مخطوطات بنية قاتمة، كان علي أن أضع أوراقاً تمتص الرطوبة بين صفحاتها، استرعى انتباهي مخطوط غريب متوسط الحجم؛ صفحاته القاتمة مليئة برموز وكلمات بلغة غير مفهومة، شعرت بالأسف لضياع تعبي فيه؛ فربما يكسد عندي، ولكنني تابعت تقليب صفحاته، صفحة واحدة كانت مكتوبة بالعربيه، واحدة فقط معنونة بعنوان غريب: تحضير عين!.
لم أفهم المقصود! أهي طبخة غريبة؟ أم تعويذة سحرية؟ ولماذا يحضر شخص عيناً؟.
من باب الفضول قرأت الصفحة، بلا مقدمات مجموعة المواد اللازمة، لم تكن مستلزمات خيالية مثل عين هدهد يتيم، أو قلب سحلية عذراء، بل كانت سهلة الجلب؛ بعض أملاح المعادن وزيوت النباتات.
سهولة الوصفة أغراني، ذهبت إلى سوق العطارين وحصلت على المكونات.
أشعلت ناراً، بدأت ألقي المواد بالترتيب المطلوب وأنا أردد التعويذة بصوت منخفض، مع كل مكون يتطاير شرر بلون مختلف كأني أصنع ألعاباً نارية، استهوتني اللعبة، تابعت؛ ارتفع صوتي قليلاً، رددت الجدران بفحيح موحش، ارتجف قلبي وارتعشت أصابعي، كدت أتوقف، وعندما رميت ملح التوتياء ازداد هيجان النار تحولت إلى الأبيض الفضي، التمعت الدنيا، أحسست بوهج يحرق وجهي، يذيبه، يغير ملامحه، انتابني صداع رهيب، كبداية نوبة صرع، أضواء وامضة، أنفاس لافحة وسواد تدريجي يشبه ضربات فرشاة رسم، وغياب عن الوعي.
استيقظت بعد منتصف الليل بقليل، ألم مهول يمسك جبهتي وشعور بالدوار، خمنت أني سقطت على رأسي، ألقيت بالمخطوط غاضباً، لملمت بقايا المكونات، قررت الذهاب لبيات الليلة الأخيرة من الإجازة مع أهلي.
بدأت الحوادث الغريبة لدى عودتي للوحدة، صديقي الذي ينام على السرير المجاور كان مزهواً بهاتفه الجديد، يتكلم عنه بحماسة لاتوصف
فكرت في نفسي: فعلاً هاتف رائع.
وقع الهاتف من يده، تشظى لألف قطعة!.
كل المهجع ذهل، تعاطف، حتى أنا، كانت خسارة مريرة.
ثلاثة أو أربعة حوادث مشابهة كانت كافية لأدرك السر؛ لأربط بين مايحصل، مع ذلك أخضعت الفرضية للتجربة: أوقعت عصفوراٌ ، أحرقت كومة أثاث كانت تنتظر سيارة لشحنها، حطمت زجاج سيارة النقيب بنظرة! نظرة إعجاب واحدة.
أدركت امتلاكي لسلاح فعال، سلاح جبان بلاريب، ولكنه مدمر.
انتقمت من كل من يسيء لي ولو بكلمة ولو بلقب؛ نظرة واحدة لجسده وسأكسر له رجلاً أو ضلعاً أو حتى بكل بساطة أفجر له زائدة دودية استؤصلت من قبل.
بدأ الحذر يحوطني، انتشر الهمس، التقطت لقباً جديداً خافتاً: المبروك.
تغيرت معاملة الجميع لي؛ صاروا يهابونني ويخشون إهانتي.
خلال اجازتي التالية انتقيت مخطوطاً آخر واتجهت لزبوني الوحيد، كنت أنوي طلب مبلغ مرتفع وفي حال الرفض كنت سأحرق مكتبته كلها.
صدري يمتلىء بمشاعر الحقد، وكنت أبحث عن أي سبب صغير لأنفسها هنا وهناك، كأنها رغبة التدمير تتملكني.. تسيرني تجعلني كتلة متأججة على قدمين.
لحسن حظه دفع ثمن المخطوط بلا جدال ولا مناورة؛ بالعكس أكرمني بقطعة كعك لذيذة مع كوب الشاي.
وبينما أنا عائد لبيتي جذبتني بزة أنيقة في واجهة لم أتردد بالدخول لتجربتها وشرائها، أخذت معها قميصاً وربطة عنق.
ابتسم البائع بدماثة وقال: لو أننا نبيع هنا أحذية لما أخرجناك من محلنا إلا عريساً.
ـ شكراً. لك ابتسامة جميلة تشد الزبائن.
ماكادت تنتهي الجملة حتى صاح من الألم!، وضع يده على فمه وانحنى لم يعد قادراً على حزم بقية مشترياتي.
بدأت فعلياً أشعر بالخوف من هذه المنحة الرهيبة
بدأت أخاف على أهلي، أبناء اخوتي..معارفي وأصدقائي.
عدت لتصفح المخطوط اللعين، بحثت عما يبطل التعويذة بلاجدوى، طرحته جانباً، قررت الإستحمام لتصفية أفكاري، عدت لتجربة البزة الجديدة، لبستها مع القميص وعقدت ربطة العنق صففت شعري ووقفت أنظر لنفسي بكامل أناقتي
كانت هذه أول مرة ارتدي فيها بزة رسمية وكان منظري فيها رائعاً.
فجأة.. وللمرة الأولى..لمحتها: عين شقت جبيني!
عين ثالثة بين حاجبي.. عين غاضبة مزمجرة! لمحة واحدة وسقطت مغشياً بلحظة.
عندما نهضت والدوار يلفني علق كتفي بطرف السرير، تمزق كم البزة والقميص، نظرت برعب للمرآة، كشبح شاحب أصفر كنت أبدو.
صممت على فقء تلك العين مهما كلف الثمن؛ وضعت سيخاً على النار!..تمهلت قليلاً،لكني لم أبعد السيخ عن النار أبقيته كحل أخير.
أحضرت ماتبقى من مكونات التجربة السابقة بدأت بإلقائها تباعاً عادت الشرارات الملونة للثوران، وبدلاًمن التعويذة قرأت المعوذات، بصوت متحشرج ضعيف في المرة الأولى، ثم تحسن صوتي؛ خف تلعثمي، في المرة الثالثة رتلتهما بوضوح وثبات،غامت الدنيا قليلاً في عيني، وقطرات دم تصبغ جبيني، أسرعت تجاه النافذة حدقت بشجرة تزغرد بالعصافير.
ـ ماأروع تغريدك أيتها الطيور الرائعة.
انتظرت قليلاً، لم يسقط أي عصفور، كررت التجربة مرات حتى اطمأننت.
عدت للمخطوط من فوري أصليته ناراً ورميت رماده في المغسلة وفتحت الماء.
بدلت ثيابي وعدت لبيت أهلي منهكاً، قابلتني أمي بفزع من منظري: مابك؟ ماذا جرى لك؟ خرجت صباحاً مثل الفل، ماذا أصابك؟.
ـ محسود ياأمي، أجبت بصوت متهدج.
ـ أعوذ بالله..تعال..تعال.
أجلستني، وضعت يدها على رأسي تمتمت بآيات وأدعية، ثم جلبت عدتها وفقعت لي عيناً من رصاص*.
عندي اليوم مخطوط ثمين عنوانه: رجوع الشيخ إلى صباه، كله وصفات ونصائح مهمة، دفع لي الأستاذ محسن أربعة ملايين! فهل منكم من يزيد؟.
*فقع عين الرصاص: هي تعويذة شعبية ضد الحسد، نقوم فيها بتذويب بعض معدن الرصاص ثم نلقي قطرات المعدن الذائب في ماء بارد.