(حداثة الرؤيا في قصيدة مرايا الفراغ لعبلة جابر )
كتبت : أ . فاطمة حيدر العطاالله - سوريا
- تقومُ الحداثة الشعرية على التجاوز والتخطي والرفض ، وهذا أحد أهمّ مرتكزات العمل الشعريِّ الحداثي ، الذي يرفض تعريف الشعر وفق النظرة القديمة البسيطة : " الشعر هو الكلام الموزون المقفى" ليجعل النصَّ الشعريَّ لحظة كشف وغيبية ممكنة ، وأفقاً مفتوحاً نحو المستحيل المطلق ، والخيال اللامنتهي ، وقد كانت الرؤيا الحداثية ،تقوم على رفض تنصيب الماضي باعتباره مقياساً للجودة الثقافية ونموذجاً يتَّبع ، على أنها تجعل الشاعر يجدد موقفه من التراث ، ويسبغ عليه رؤاه المعاصرة ، ومن هنا بنى شعراء الحداثة وروَّادها مفهومَ القصيدة الجديدة ، القصيدةِ العمق ، والشاعرة "عبلة جابر" شاعرة معاصرة ، قدمت في قصيدتها (مرايا الفراغ) من مجموعتها الشعرية الموسومة بعنوان (يوم كسرت المرآة) نموذجاً شعرياً حداثوياً ، نستطيع من خلاله أن نبرز أهم الملامح الحداثوية المثبتة في الرؤيا الشعرية الجديدة والمعاصرة ، فقد بدأت القصيدة بعنوان حداثي (مرايا الفراغ ) التي تتطلع من خلالها ; أي المرايا ، نحو ذاتها ،ولكنه تطلع عاقر فالصورة تستحيل في الفراغ وهذا كسر للمستحيل، وتفتيت للمألوف ، وتجديد في العمق الفلسفي لثقافة الشاعرة ، وبالانتقال إلى الحديث عن الرمز والأسطورة بوصفهما من مرتكزات الحداثة ، اللذين طُوِّعا لنقل موقف الشاعرة وتحديد أبعاده النفسية ، فإننا نلمح قنصاً عالياً في بالبراعة الرمزية عندما تقول :
" حبلى أنا… حبلى بآهاتِ البلادِ ..
بزعتر الأشواق ينبتُ
في ضلوعي الخائفاتِ ..
خرائطاً..
مدناً ..
لأحلامِ الصغارِ
لرعشة الناي الأخيرةِ
وانكسارات الوترْ ! "
فإن حقيقة هذا الحمل يتكشف فيما بعد ليكون "الوطن" :
(لي ألفُ قابلةٍ وحملي نازفٌ
من أول التاريخ ..أدعوه الوطنْ)
كما نلحظ استخدام الأسطورة التي هي وسيلة لفهم السلوك الإنساني ، وهي محطة راحة عند الشاعرة ، ففي هذا الإسقاط التاريخي تقدم تفسيراً وحلّاً للموقف ، وذلك عند استدعائها (ليليث) شيطانة العواصف :
" الآنَ ..الآنَ أنصت للفراغ قصيدةً
مسكونةً
بصراخ ليليثَ العظيمِ
هروبِها…
بحثاً عن الفردوس في كهف الزمنْ"
- وإن النَّزعة الثَّورية التي تلازمت مع تمثيل الصوت الأنثوي جاءت عالية النبرة في استحضار تعابيرها ،كما في قولها :
(سقطتْ جديلتُهاالطويلةُ / الآن يدركني المخاضُ ..يهزُّني)
- كما أن الدراميّة التي تعدُّ "أعلى صور التعبير الأدبي" كما يصفها الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) ، فاتفاقٌ مع دستور الحداثة التي تجعلها من أهم مقوماتها ومرتكزاتها ، إذ ترصد الشاعرة موقفها الذي يختلط بالذاتية والعاطفية دراميةً عاليةً ، ها هي تقول :
" حبلى أنا… بالذكرياتِ وبالندى
بدموعِ أمي ..بابتهال دعائها
هي في عروجٍ مستمرٍ
يا إلهي !
والسقوط يشدُّني…
فأذوب في ملح العيون ِ