في ذكرى رحيل الروائي العراقي عبد الستار ناصر....
الروائي الذي ترك أثرا له في دمشق، فكان حمامة بيضاء في الأكف.
قراءتي لروايته:
" نصفُ الأحزان _من أيّ البلاد أتيت؟ الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام ٢٠٠٨.
" وطنٌ مصلوب
ومساميرُ الخطى"
قراءة أ . نجاح إبراهيم
في معظم كتابات الكاتب العراقي عبد الستار ناصر، ثمّة أنشودة مخملية يردّدها كلّ حين . أنشودة الرّغبة في العودة إلى وطن أخذ منه، سُلب بشكل أو بآخر من بين جناحيه وليس من بين أضلاعه، فأصبح فاقداً له على الرّغم من تمسكه به بقوّة، فأخذ ينعيه بشكلٍ صريحٍ أو موارب.
نلمح ذلك في نوارس اتجهت صوب مدريد، جابت فضاءات عديدة، سردت أجنحتها ألف حكاية للاغتراب ثم أتبعها الكاتب شغفاً لا يحدّ، فجعلها ترسم خطها لتتجه صوب مياه الفرات في العراق، تنزل مناقيرها وتنتعش بالرّذاذ ومعاودة الحياة. ونرى ذلك أيضاً من خلال الشخصية المبثوثة أبداً في النصوص، والتي تذوقت طعم الغربة دون رغبة، فأفردت أمام عينيها سجّادة الإغراءات، وظلت تحلم بالعودة إلى حضن وطن لا بديل عنه.
عبد الستار ناصر كاتب عربي قلق، مثله مثل الكثيرين من كتابنا، يحيط بهم القيد ويشملهم التهديد بالانسلاخ بسبب أفكارهم وآرائهم ، ففي بداية الأمر يلقى بهم في عتمة السجن، يأكلهم البرد والعزلة، ويطويهم النسيان والعفونة، ثم بغتة يُبَتُّ في أمرهم فترسم لهم الخطوة التالية ألا وهي النفخ بين أقدامهم باتجاه الرّحيل، بينما يبقى الرأس مستديراً إلى الوراء، مثقلاً بالذكريات والهموم والأحلام، والعينان تمتلآن دمعاً حاراً. ما أقوله يؤيّده الدكتور صلاح فضل في كتابه "أساليب السرد في الرواية العربية، حيث يقول:" الكاتب العربي الآمن في وطنه – إن بقي وطن آمن – لا يستشعر ضرورة التجذر، بل يضيق بها ويخرج عليها ويتباهى بتجاوزها، بينما الكاتب المهدد بالانخلاع يدقُّ مسامير كلماته في كلّ خطوة.".*
والكاتب عبد الستار ناصر ما أن نقرأ له نصّاً سردياً حتى يشدّنا هذا النزوع لديه، إضافة إلى أننا ندرك ما يرمي إليه عبر نصّه، وإلى أين يصل به، ولا ننسى تلك اللغة التي يتفرد بها في صوغ الجمل ورسم المتن الحكائي بأسلوب مختزل، وكذلك شخصياته التي يبرع في رسمها، فتفضي إلينا بدواخلها وذلك من خلال عبارات يقيس أبعادها، فتأتيك بملامح تزعم بينك وبين نفسك أنك تعرفها، وقد عشت معها حتى أصبحت قريبة منك تلامسك.
في روايته "نصف الأحزان- من أي البلاد أتيت؟ " الصّادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 2008.تعبير عميق عن معاناة وطن، وإنسان عربي يتألم ويناضل في سبيل أن يبقى فيه على الرغم من قذفه خارج حدوده، بيد أنه يسعى بكلّ ما أوتي من قوّة ورغبة لأن يدقَّ مسامير حبّ وبقاء في جسده، لهذا نلفاه يجاهد ضد الظلم والاغتراب والفاقة والخوف.
الرواية المكونة من مئة وسبع وثلاثين صفحة من القطع الكبير، تنقسم إلى عملين سرديين قصيرين، الأوّل عنون ب نصف الأحزان، استهل الكاتب البدايات بذكر أقوال لرموز أدبية أمثال "بول فاليري ومارشيل آشار ولوغان سميث، لها دلالات، والقسم الثاني عنون ب من أي بلاد أتيت؟ لم يتصدّره الكاتب بأي أقوال أو أمثال، وإنما اجتهد ليقسمه إلى ستة أقسام مرقمة.
ماذا عن نصف الأحزان؟
كانت الأحزان كاملة لدى سلمان يعقوب لكن في السابع من كانون الثاني، عندما أخذ يطرق باب عواطف المرأة الذي حلم بلقائها أعواماً طويلة، أخذ المطر منه نصف الأحزان وترك له النصف الآخر. فهلا تعرفنا عليها؟ !
كان عبد الباري المسجون مع رفيق له في غرفة واحدة قد كشف ستر العلاقة بينه وبين زوجته أمام سلمان الشخصية المحورية، والراوية للأحداث في النصّ، حتى صار هذا الأخير يعلم كلَ شيء عن المرأة " لم يترك عبد الباري أيما مساحة لخيال فقد قال كلّ شيء."ص9 ثم أصبح عبد الباري يُحتضر ويتشظى ألماً، ويهلوس ب "عواطف" زوجته، فأخذوه نصف مشلول، وبقي سلمان وحيداً دون مؤنس في ظلمة عنيدة مع كومة من خيالات وأوصاف امرأة أخذ يحلم بها ويعذب الروح بلقائها.
ظلّ سلمان عاجزاً عن معرفة مصير عبد الباري، الذي اختفى ولا أخبار عنه، وصديقه الحائر أخذ من عمره ما يزيد على تسعة أعوام وتزيد ظنها "تسعة قرون من الحروب والغناء وكسر العظام والرّغبات المخنوقة والضرب والضحك والشتائم وصورتها المعلقة فوق أعلى قمم الخيال .."ص 17
أخيراً أفرج عنه، عاد سلمان إلى بيته فوجد الحال غير الحال، الأب توفي، والأم مريضة، والأخت تزوجت من حمار ينهق ليل نهار. ما إن رأته الأم حتى ودعت الحياة، فقرّر رؤية عواطف، المرأة الحلم، وانتحال شخصية زوجها عبد الباري لأن" بيني وبين عبد الباري ملامح تشترك في أحزانها ولوعتها حتى كدنا نتشابه بمرور الزمان ."ص25ويسوّغ الأمر لنفسه متذرعاً بما أوصاه عبد الباري بعائلته إن هو مات :" هكذا يستريح ضميري، ستكون عواطف تحت رعايتي فعلاً ."ص26وعندما قابلها لم يستطع الكلام، ظلّ ساكتاً فأرجأ الأمر إلى وقت آخر.
فجأة اقتيد من جديد إلى الدهاليز، سئل ماذا فعل منذ خروجه حتى اليوم؟ وقالوا أيضاً بأنهم يراقبونه، وسألوه إن كان يعرف شيئاً عن حسون الباز .. وحسون هذا سياسي كبير يعمل ضد النظام والسلطات الحاكمة . ثم طلبوا منه البحث عنه ليتخلص من المطاردة ويعيش باطمئنان.
رضخ لهم، ولا خيار آخر له، لكنه فكر في إتمام حياكة اللعبة مع "عواطف" التي أرادت أن تقتنع بأنه زوجها وقالت :" يمكنك البقاء في البيت."ص66 على الرّغم من أنها قد علمت بموت زوجها واستلامها جثته ومن ثم دفنه؛ بيد أنهما(هو وهي) أخذا يعملان معاً وكأنهما فريق عبقري. راح سلمان يسكن في شعابها، يملك الحياة وما فيها، مدلل في سرايا لحمها الطري. والمرأة لا تذكر قط اسم عبد الباري ولا اسم الزوج الجديد سلمان، وإنما ظلت تبتسم ووراء ابتسامتها مغزى، فتساءل :"هل تسخر مني أم تسخرني لشهواتها."ص67 حار أمام ابتسامتها الغامضة المحيرة، على الرّغم من أنه عقد قرانه عليها باسمه الصريح الذي ادّعى ابتكاره كي يبعدهما عن التساؤلات ومراقبة الأمن .بينما ظلّ خوفه مستمراً من ظهور عبد الباري الذي يقضّ مضجعه. حينها اعترفت له أنّ زوجها مات منذ عشرة شهور، واعترفت أنها تتمتع بالعلاقة التي تربطهما ثم يتضح أنّ زواجها منه ما هو إلا ضمن واجب وطني قامت به بعد مشورة حسون الباز، الرجل الوطني الذي تبحث عنه الدولة لمقاضاته، واتضح أنّ المرأة كانت تقوم بأداء خدمات جليلة للبلد بالتعاون مع زوجها عبد الباري الذي اعتقل دونها. ثم تشير على سليمان أن يخدم بلده لأنها بحاجة إليه.
تدور أحداث رواية نصف الأحزان في سجن من سجون العراق، حيث يصف عبد الباري زوجته لسلمان ويطلعه على أدق تفاصيل جسدها وأسرارها، وفي المكان ذاته يطلق سلمان كما عبد الباري حلماً بلقاء تلك المرأة عواطف، التي باتت هاجساً لكليهما. ثم تتتابع الأحداث في بيت عواطف حيث يأتي سلمان إليها ويتزوجها بعد أن يلعب لعبته التي تودي إلى الانخراط فيما هرب منه طويلاً.
فالمكان الأوّل على الرّغم من قتامته وبرودته ووساخته خلق ألفة حميمة بينه وبين قاطنيه، في الوقت ذاته كان يضيق –على الرغم من ضيقه- على السجينين اللذين عانيا سنين طويلة حرماناً، بيد أنّ المكان استطاع أن يتسع لأحلامهما التي خففت كثيراً من حنقهما وضجرهما. بينما المكان الثاني، بيت عواطف ففيه تحقيق حلم سلمان وهو وصال تلك المرأة التي هي :" أنثاي الأبدية التي لا بد أن تظهر في العمر ذات ساعة، لا ذع جرحها الطري الأنيق، وليس من حلّ غير أن تكون لي مهما كان حجم خسائري وهبوطي."ص44
والمفارقة أنّ المكان الأول أفضى به إلى حيث حلمه وفتح له فرصة اللقاء بأنثاه فبات في بحر من العماء وهو يجني شهد شهواته المخبوءة زمناً، بينما المكان الآخر دفعه في نهاية المطاف إلى أن يعترف بصدق أنه بدأ يرى - على الرّغم من أنّ - الظلام دام حوالي عشرات السنين فقد أدى إلى انفتاح عينيه، بصيرته على مسؤولية جسيمة تتلخص في أن يسهم بالوقوف إلى جانب بلد(خربانة).
في رواية نصف الأحزان تبدو الحبكة محكمة، فالأحداث تسير مع الشخصيات سيراً منطقياً وتلقائياً دون أن يكون هناك مصادفات باهتة تستخف بالقارئ، ثمّة مصادفات تقع في الواقع بيد أنها في العمل الفني - كما قيل - لا بد من أن تكون نابعة من ضرورة، لهذا فنصف الأحزان تنزهت عن مصادفات عادية، أو استطرادات تثيرُ النفور فجاءت الحبكة تفخر بتسلسل زمني ترتبط الأحداث بالنتائج.
فسلمان الشخصية المحورية قال في نهاية الرّواية:" ربّما دام الظلام حوالي عشرات السنين، لكن من تلك الليلة بدأت أرى."ص83
على الرغم من ذكائه الذي دفعه لأن يحيك مؤامرة انتحال شخصية عبد الباري ليحظى بزوجة الأخير، إلا أنه التزم الصمت أخيراً أمامها حين كشفت له معرفتها كلّ شيء، فقزمته. هذه العملية جعلته يرى بعد أن كان أعمى لأنه غفل عن بلد هي بحاجة إليه، والتحامه مع الوطنيين أمثال حسون الباز .عشرات السنين مضت من عمره وهو أعمى عن السياسة، وعن فعل شيء يذكر للبلد. كان مجرد رجل يمشي بجانب الحائط ويطلب السترة ومع ذلك وقع في مصيدة هؤلاء، وقبع في السجن تسعة أعوام وأربعة شهور. فلماذا لا يفعل شيئاً وينتضي سيف القضية؟ ومن جعله يفتح عينيه ويدرك الحقيقة ويضع خطواته في الطريق الصحيحة في عالم السياسة امرأة غامضة لا يمكن أن تشي لأي كان بما تحمل من مساع تبتغي تحقيقها للبلد وتخليصها من الخراب الذي يتفشى فيها، ومنشأ هذا الخراب والسوس هؤلاء الرعاع الذين يتحلقون حول حاكمها.
يتميز عبد الستار ناصر، في عمله هذا، وغيره من الأعمال الإبداعية، بالقدرة المدهشة على خلق الحدث الدرامي، الذي يحتوي في ذاته على أعمق الدلالات .الحدث المتعلق بالإنسان العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، والذي نال من الظلم والفئة الباغية مانال.
ولكن ماذا لو لم يكشف الكاتب للقارئ في الصفحة الثانية من السرد، عن أنّ عواطف هي زوجة عبد الباري، وتركه يبوح بكلّ شيء عن امرأة عشقها حتى العظم، وإنما كشف ذلك حين أخذت عواطف تكشف ذلك بنفسها، خاصة حين نزعت الستر عن أوراق سلمان وبانت لعبته وانتحاله شخصية الزوج .
ولعلّ الملاحظة الثانية من وجهة نظر شهرزاد، التي راقها أن تستمع إلى شهريار بعد أن عاف حرفة الإصغاء وامتهن الحكي، أقول الملاحظة الثانية من وجهة نظري هي أنّ عبد الستار ناصر ذكر في نهاية الرواية، حين وضعته عواطف أمام مهمة لخدمة الوطن، وعلى لسان بطله الراوي سلمان قال : "لم أصدق نفسي، هذه المرأة سلبتني صحوي ؛ لم أعد أملك أمامها غير الصمت ..."ص83
وأعتقد أنّ الكاتب قد أخطأ حين جعل الصحو يسلب من بطله، لاسيما أنّ سلمان كان في غيبوبة العشق لتلك المرأة التي أسكرته، وبعد أن كشفت أوراقه ودفعته إلى الانخراط بالعملية السياسية لصالح بلد يحترق ؛ أظنه استرد صحوه واستفاق. لهذا أمسك يديها متوسلاً قائلاً:" خذيني إلى حسون الباز:"ص83 ومن تلك الليلة بدأ يرى، بدأ يبصر.
إنّ عبد الستار ناصر كاتب متقن لفنه وقادر على توظيف أفكاره الإنسانية، التي لا تخلو من سياسة، إذ لا يمكن أن يكون بعيداً عمّا يجري في وطنه .إنه يناضل بقلمه ونصّه السردي ضد الفساد والظلم والمهانة والضياع والاغتراب.
وعبد الستار ناصر يعبّر عن هذه الأزمات تعبيراً يفيض بالانفعال الممتلئ بالحدث دون خوض تفاصيله المملة. يلقي بين يديك بكلّ وجعه فتحسّ بأنّ ما قرأته هو وجعك و لا بدّ من أن تكون في عين الحدث، في عين العاصفة لهذا تتألم .
من أي البلاد أتيت؟
من أي البلاد أتيت؟
هل يرفع بطل النصّ السردي (مازن) رأسه مفاخراً وينطق من أين أتى؟
أيقول :أتيت من بلد "الرصاص والماضي ومنظر الشهداء (الخلاب) الذي أبكاه دماً؟ " ص104
هذه هي البلاد التي أتى منها، البلاد التي لا تقدر أن تتخلص من سيمفونية الحروب، دائماً ثمّة حرب دائرة تخلفها حرب أخرى قبل أن تنتهي. فهل يقول: إنّ بلاده فيها بحر "ولا بحر هناك" ص104 بلاد حين سئل عن حال السياسة فيها قطع عبد الستار ناصر سرده ووضع نقطة ليبدأ بفصل جديد.
ومع ذلك.....
فالبيوت في بلاده مليئة بالكروم، والناس الذين لديهم أخلاق ودين، فالحقّ يعطى للجار وإن لم يكن له هذا الحق، بمعنى أنّ الكاتب يريد أن يقول عن الناس في بلاده يؤثرون الجار على أنفسهم .
أما مضمون "من أي البلاد أتيت؟ " فيطرح الكاتب فكرة العودة إلى الوطن مهما ابتعد الإنسان عنه، فثمة مسامير قد دقها في جسده المصلوب المتألم ولا شيء يغريه
ليبقى بعيداً، إنه يلاحق هاجساً يتملكه. فمازن شاب من العراق، سافر إلى اسبانيا لمتابعة تحصيله العلمي، ماجستير في الفيزياء، وقد هاجر مضطراً بسبب الحرب القائمة في بلاده .كان مصيره السجن ثم الهروب إلى أصقاع أخرى.
في بلد الاغتراب توهم مازن بأنه شاعر ويستحق أن يشار إليه بالبنان، ولعل هذا نقص أراد أن يرمّم به الذات المضطربة المقهورة .في مدريد عشق امرأة ادعت أنها من أصول عربية، وحين أراد العودة إلى وطنه حار كيف سينقل إليها رغبته الملحة .على الرّغم من أنه قد أعلمها ذات يوم أنه لن يتركها أبداً .فبعد ليلة مجنونة من الرقص والجنون –هذا حال العربي في المغترب- علمت بشكل ما، فكانت ردّة فعلها ليست كما توقعها، كان أولى بها من وجهة نظره طبعاً أن تصرخ وتولول، بينما ظلت المرأة هادئة، ثمّ نطقت كامرأة حكيمة :" لست لعبة بين يديك تحطمها، ثم تفكر في إصلاح ما عطب منها، أنا لست رخيصة "ص115بعدئذ أغلقت الباب دون ضجة ومضت.
ونتساءل :هل في تصرفها ما يُدهش، أو يدعو إلى تصرف مبتكر كما توقع بطل الرواية؟ بخروجها بهذا الشكل أيقظ فيه شعور الفقد، فظنّ أنه فقد امرأة لا تعوّض، أخذ يبحث عنها في كلّ مكان يرتاده بيد أنه لم يفلح وحين أزف موعد الرحيل التقى مصادفة بعراف قال له: " إنها تنتظرك، وقبل انقضاء الليلة الأخيرة من الشهر الحالي ستكون لك، لا تبحث عنها، هي التي تأتي عنك."ص120
ويمضي بناء على هذه القراءة، يعود على متن باخرة تعبر المتوسط إلى بيروت فدمشق، بينما لا يصدق :" إنني سأعود وبيروتا غائبة لا تعرف ما جرى ولا أعرف عنها وطنه، وحين تركته مهددة أخذ يبحث عنها ! ترى هل كانت تمثل جزءاً من وطنه الذي لا يمكن أن يتخلى عنه العربي؟ أم أنّ العربي بطبعه يعشق العذاب، وإن افتقده اخترعه ليبقى ملتاعاً معذباً، وهذا ما ردّده مازن بطل الرواية.
هاهو ذا يتمنى لو تحصل معجزة، وذلك بعد أن وصلت إليه رسالة منها ليس عليها طابع بريد ولا ختم ينمّ على مكان وهو على الباخرة .والسؤال كيف ومتى تمّ ذلك؟ وكيف عرفت مكانه وهو متراحل؟ ! وهل للمتراحل مكان؟ !
أراد الكاتب أن تكون رسالتها تشبه الحلم المفتقد لدى هذا العربي، أو المعجزة التي يتمنى أن تقلب حاله.
ومع ذلك فإنه لا يحتمل البقاء ليلة واحدة في ميناء بيروت، يريد العودة إلى وطنه الذي يفتقد:" لا أريد سوى العودة، ولا أتحسس نفسي بعد هذا الغياب إلا في أحضان أزقتي وبلاد طفولتي."ص133
ومع اقتراب حلم العودة إلى الوطن نجده يرغب في لقاء من خلف وراءه "بيروتا" التي بقيت في الذاكرة على الرغم من محاولته أن ينسى ويذهب بعيداً كل ما تختزنه الذاكرة من ذكريات مؤلمة تتدفق في المغترب كلما كان سعيداً أو طالته بعض سعادة" أتذكر من رحلوا، كيف أغفر انطلاق روح في العشرين يسحقها قزم يتكلم كالببغاء؟ كم قلب رفرف حولي بجناحين من الدموع والكتمان؟ كم وكر وكم جب وكم ملجأ مررنا عليه؟ كم فتشنا وكم اخترقنا وكم فوجئنا وكم طال الوقت علينا..؟ "ص106
هاهو الطريق البري إلى دمشق، حيث لا شيء سوى شعاع من الشمس، لهذا "أسدلت الستار على ملامحي، على شبح "بيروتا" الذي يلاحقني."ص134
لماذا أراد مازن أن تختفي ملامحه وقد أشرف على الوصول إلى وطنه الذي لم يعد بعيداً عنه؟ أهو الخوف ممن سيلاقونه هناك؟ الخوف من النفوس الذي لا يعرف على ماذا تطوى.؟
إن إنسان عبد الستار ناصر دائماً هو مقهور ومعذب ومطارد، إنسان ينزف قهراً وألماً وتشظياً ورغبة في العودة وإن زادته هذه الرغبة اغتراباً وعذاباً ..إنه إنسان على الرغم من بلواه وعذاباته يفيض حلماً.
في " من أي البلاد أتيت؟ " يضحي المكان ركيزة أساسية في النص السردي، يتلقف الأحداث التي تجري فوق مداه. فالكاتب يبتدئ سرده تحت سماء مدريد، يلتقي بامرأة أحبها في مقهى "فبس" وجعلنا نتابع ونتعقب مشاويرهما على امتداد العاصمة الاسبانية .فمن "بلاثامايو" إلى "غوليامو " إلى " برشلونة إلى فندق كوثلو إلى ....
أما ذكرياته فكانت تعود به وبنا إلى مكان لا يفارقه البتة حيث العراق على الرغم من الأحداث الموجعة والبقاع المنتشية بالدم والقتل، تلح تلك المشاهد على حضور مكان ثري بذكريات مؤلمة.
ومع ذلك فهو يريده وطناً بلا حروب ولا ذئاب ولا ضباع ولا ثعالب، يريده وطناً خالياً من كل ذلك وحين يعود إليه تنتهي الرواية عند حدوده كأنه لا يتقبل البطل أن يعود إلى مرأى الدم والقتل والتشظي . يريده وهو على بعد خطوة منه أن يكون وطناً ساحراً، جميلاً ولكن ثمة غصة تبقى في الحلق:" من أين يأتي بمثل هكذا وطن؟ !"
يفتخر بوطنه ولكنه لا يجرؤ في الوقت الحالي على أن يشهر المفاخرة ؛ لما يحصل فوق أرضه من دمار وخراب ودم مسفوح وكرامة مهدورة.
في رواية " من أي البلاد أتيت؟ " لا نقرأ حواراً أو اصطداماً، أو لقاء حوارياً بين رجل وامرأة فحسب وإنما حوارا بين الشرق والغرب، بين قيمهما، عاداتهما، وكيف يتمّ قضاء الوقت في كلّ منهما.
الرّواية تضيف بُعداً آخر يعمق في واقع الأمر الدلالة الإنسانية، ف مازن، الذي عاش على وهم أنه شاعر، لم يرفعه أحد من مستواه، يفاجئنا في نهاية المطاف أن ثمة أمارات في قصائده الأخيرة التي تتجلى فيها نبوءة الشاعر. لهذا نقرأ في عالم شخصياته، الأوضاع، وما في هذا العالم من تناقضات وصراعات، انتصارات آتية وانكسارات تحفر في العمق. عالم فيه دلالة وجمالية مدهشة. وهذا ليس غريباً على كاتب مثل عبد الستار ناصر، يشدّك سرده سواء كان سرداً قصصياً أم روائياً، فهو كاتب ذو رؤية إنسانية وفنية، يتميز بقدرة فائقة على خلق حدث، يكتبه بشكل آخر، حدث قد لا يكون جديداً، بيد أنه إذا ما كتبه فإنه يصبح مختلفاً ومغايراً، ليثير فيك انفعالات شتى كلما قرأت نصه، فله لغته الخاصة به نشم رائحتها ونتذوق طعمها في كل أعماله الأدبية، تترفنا شاعرية اللغة وتبهرنا توليداتها وتأخذنا استعاراتها وكناياتها غير المألوفة لدى الكتاب الآخرين .
لقد لفتت قراءة هذا النص السردي القصير نظرنا إلى عدم مقارنة عبد الستار ناصر بين المرأة في الغرب ومثيلتها في الشرق لأننا اعتدنا من كتابنا العرب إجراء هذه المقارنة حين يتناولون ثنائية الشرق والغرب ؛ ولكن الكاتب أغفل ذلك أو تجاوزه على الرغم من الدافع القوي له حين خلعت "بيروتا" ملابسها أمام المشاهدين المخمورين الشبقين وراحت ترقص. بينما خلت ذاكرة الكاتب من مشهد حياء المرأة العربية التي تحبذ الموت على أن يرى أحد طرف ثوبها، امرأة تستميت لتبقى عفيفة في وطن ينحدر كل حين.
حاول الكاتب أن يسبغ على بطلته شيئاً من جنون ساحر يشد انتباه قارئه حين ذكر على لسانه :" إذا بقينا دقيقة واحدة أمام "غوليالمو" ترى سوف المستحيل الذي لن تصدقه أبداً، أشعر أن ثيابي تريد أن تسقط عني." ص 107
الجنون الذي أسبغه عليها هو التعري من ثيابها أمام مئات الرجال بعدما أخذ العزف من أصابع "غوليالمو" يزعزع جسدها ويكهربها، ويسلب منها إرادتها..؟ !
ونتساءل: أهذا هو الجنون اللافت؟ والعري أليس هو شيء اعتاد الغربيون على رؤيته؟ ثم لماذا عند سماعها عزفاً رائعاً لم يدفعها ذلك إلى أن تغني بحنجرة تدعو إلى الإبهار؟ ! أو يدفعها إلى رقص اسباني مختلط بالرقص العربي المدهش؟ أليست حسب اعترافها تنتمي إلى العرب أو إلى قبيلة ما، أو هوية وثنية؟
لم تقنعنا الرسالة التي وصلت إليه من "بيروتا" دون عنوان أو طابع أو شيء يدل على أنها هي من أرسلتها، والتي قالت فيها:" إذا كنت تحبني حقاً فسوف تراني أمامك ذات يوم، شكراً على انتظارك في مقهى "فبس" هكذا هي الحياة، إما الجنون، وإما الفراق."ص120
سمعنا بالجنون ولكننا لم نره أو نلمس في شخصية "بيروتا" ما يدعو إلى الجنون، هناك ثمة امرأة عشقت عربياً خائباً، تعرت أمامه وأمام غيره ثم اختفت كأنها طعنت في كرامتها! وراحت تتقافز افتراضياً أمام البطل العائد إلى وطنه والذي تخلى عنها ثم استمات في رؤيتها .
كم كنا سندهش لو أن" بيروتا" هي من خلقت شخصية العراف وقذفته في طريق مازن لتنتقم منه هي القائلة :" اسمع يا مازن أنا لا أنكسر بسهولة ولن أسمح لنفسي أن تكسرني ."ص114
ومع ذلك فإن وراء كتابات عبد الستار ناصر مغزى وهدفاً ورؤية بالغة الوعي بقضايا وطنه العراق، كما سبق أن أشرنا في البداية، وهي بالغة الاهتمام بقضايا مجتمعه، ما يجعلنا نشعر بأنّ الكاتب شديد الإحساس بالمسؤولية يحمل همّاً مؤرقاً إزاء المظلومين سياسياً والمنفيين، فكتاباته تشير بقوّة إلى الهجرة من جديد إلى الوطن الذي لا يمكن العيش من دونه .كتابات تنفي السكونية والاستسلام و تدعو إلى فعل شيء ما، إنها دائماً مشغوفة بغدٍ أفضل، ووطن حرّ وليس مصلوباً على الأحزان والآهات والندوب..
لهذا فهو يرفع فيها أنشودة مخملية متألقة .
"الدراسة موجودة ضمن كتابي النقدي" شهريار" الصادر في الامارات عن دار ملهمون عام ٢٠١٧