قراءة في ديوان - ظمأ أزرق - للشاعرة حوراء الهميلي
اللّغة العُليا :
1-حكمة الشّيخ .
تلاشيتُ ضوءًا
في الفضاءات يسبحُ
هيولى من اللّغز السّديميّ أنضحُ
كثافةُ قلبي
بانفجار عواطفي تقلُّ !
كما كونٌ من الصعبِ يُشرحُ
على قدرِ ما يخفيه ، أُخفي مشاعري
و بالرّغمِ منّي
(فوق أفقيَ)
تَسفحُ
أسافرُ نحوَ (اللازمان)
يحدّني من الضوء ما يُعمي
و بالكاد يُلمحُ
أرى في انعكاسِ الضّوء ذاتي تجسّدت
لأنّ فضاء اللهِ للرّوحِ مسرحُ !
تتدرّج العوالم ، من الهيولانيّة إلى المجرّدة الصّرفة .. في الشيء ذاته ..
للشيء ذاته وُجهتان ، ثابتٌ و متحرّك ، موجةٌ و جُسيم ، جسدٌ و نفس .. ظاهرٌ و باطن .. بحسب انتباذك لزاوية المشهد . و لعلّ أحدَ أشدّ الأسئلة الفلسفية ضراوةً هو ذاك الباحث عن جدوى اللغة ، و موضعها بين أشياء العالم كلّه .. فمِن قائلٍ إلى أنّها كل شيء ، و لا وجود خارج اللّغة ، إلى قائل بعجزها ، و آخرٍ يُحيّدها تحييداً كاملاً خارج إطار المنظومة العقليّة بكونها أداة السفسطة المثلى ..
هنا ، يتساءل الواقف على هذا المشهد التكعيبي ، أيّة قطعة هي تلك المفقودة في كلّ هذه المحاولات لتوصيف الوظيفة الحقيقيّة للّغة .. أو حتّى تعريفها على الأقلّ .
للخروج من هذا المأزق ، يتوجّب على الرّائي تصنيف موضوعاته ، فثمة في هذا العالم ما هو قابل للتصنيف و التعريف ، كونه قابلاً لاتّخاذ شكلٍ و طابعٍ مادّي . فهذه سيّارة ، و هذه شجرة ، و تلك قبّعة .. لكن ماذا عن تلك الخارجة عن سلطان المادّة ، كتلك التي تشكّل ثلاثيّة السؤال الوجوديّ القديم .. الله ، العالم ، و الإنسان ؟
إن كان التعبير لغوّياً عن المادّيات ، و الرّتم اليوميّ لحياة الإنسان الأرضيّة سهلاً ، كونه يُعنى بشكل واضحٍ من تمثّلات الحياة (و أعني بالواضح ، ما يمكن رصده بحواس الإنسان الخمس) .. فماذا عن تلك المتعالية المرتبطة بالسؤال الوجوديّ القديم ؟
يغيب عن كثير ممّن حاول طرق باب اللّغة هذا ، عامل مهم مرتبط بطبيعة اللّغة و ظهوراتها . و هو العروة الوثقى بين اللّغة نفسها و محلّ وَعيها الأكبر ، أي الإنسان ..و هذا العامل الغائب دوماً عن الأذهان رغم شدّة سطوته و اتّساع سلطانه .. هو الزّمن ..
يكبر السّؤال الوجوديّ باتّساع وَعي صاحبه ، و هنا يلجأ لا محالةَ للغة عُليا ذات هامش تأويليّ كبير لتسعَ كلّ تلك التساؤلات الكبيرة حول الله ، و العالم ، و موضع الإنسان في هذه الثّلاثيّة باعتباره الوعاء الأكثر حضوراً لما تحمله هذه الثّلاثيّة من أفكار، و باعتباره (من زاوية أخرى ، لا تتضادّ مع الزوايا الأكثر شيوعاً) غايةَ الوُجهة المعرفيّة ، كما جاء في الأثر (كُنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف) .. كتفسيرٍ لخلق الإنسان . و ببلوغ الوعي هذا الطّور من التساؤل ، و هو طورٌ كبيرٌ عُمراً و حجماً .. إذ كان و لا يزال مصاحباً العقل البشرّي منذ فجر التّاريخ ، رغم تعاقب التيارات الفكريّة بشقّيها القداسيّ و الفلسفيّ عبر الزمان و إسهاماتها على طريق الإجابة . أقول ، بأنّه إذاً ، و لهذه الإعتبارات ، يمكن النظر إليه بعين الكهل الحكيم .. صاحب اللّغة العُليا ، و الهالة الذهبيّة .. أمّا الملفت في تجربتي مع هذا الديوان ، فتمثّلَ بأن صاحب هذه اللّغة العُليا .. امرأة من الإحساء .. بعدما اعتاد المتابع لمؤشّر المستوى اللّغوي كلّما بلغت لغةٌ ما هامشاً تأويليّاً متّسعاً متّخذةً شكلَ العارف الحكيم على الرّجال ، فهذا بوذا ، و ابن عربي ، و الخيّام و المعرّي و نيتشة و هيدجر ..
كسَرَت حوراء هذه القاعدة ..
و لمّا ارتكزت نصوص الفصل الأوّل من الديوان على ثلاثية السؤال الوجوديّ ، أطلقت عليه اسم (تأويل على وجه المرايا) .. و راحت تنقش رؤياها الكونيّة على جذع نخلة .
فترى الإنسان تارةً مرآة التّجلي الكبرى للحقيقة الواحدة كما في النّص الذي قدّمت فيه هذه القراءة ، و تارةً لا تراه سوى رهانٍ في كفّ القدَر :
على أيّ شيءٍ في الحياةِ
رهاني ؟؟
فلا الروحُ مُلكي
لا الزّمانُ زماني !
كأنّي
على لوحِ المقاديرِ
فكرةٌ
يقلّبها نردٌ
لبضعِ ثواني
فأعلنتُ عصياني عليه
و حينما تمرّدتُ
من أقصى الغيوب
رماني ..
***
2- حماسة الشاب .
على عكس الطور السالف المعنيّ بالفهم العميق لطبيعة العلاقة بين العناوين الثلاث للسؤال الوجوديّ حيث الحكمة المكتسبة نتيجة الخبرة و المران الروحيّين ، يأتي الطور الإجتماعيّ اليوميّ لحياة الانسان ، بيد أنّ من يحسب هذا الطور منفصلاً نقيضاً مغايراً لطور الشّيخ مخطئٌ لا محالة . إذ يرتبط هذا الطور بذاك في علاقة دائرية ، حيث يكون منه و إليه على طريقة التيّار الكهربيّ في العُقدة و المحوّل .. فهو و إن اختلفت طبيعته عن الأول ، إلاّ أنه بوابة عبور السالك إليه من جهةٍ ، كما أنّه مطبخُ تراكم الخبرات و التجارب من جهةٍ أخرى ، حيث تتشكّل حكمة الشيخ فيما يلي من الزمن ..
الحب قيمة ، إذا ما تم تناوله على طريقة المنهج الأفلاطونيّ ، فهو ضرب عاطفيٌّ تتأتّى منه لائحة منظومة قيمٍ أخلاقيّةٍ طويلة . و هو العجلة الثلاثيّة المتّجةِ بصاحبها نحو الكمال ..
فإن كان السؤال الوجوديّ قائماً على ثلاثيّة (الله ، العالم ، و الإنسان) فتجوز إذ ذاك رؤية ذات الثلاثية من بُعد آخرٍ ، فهذه العناصر المكوّنة للثلاثيّة شئنا أم أبينا هي ما بين عارفٍ و معروفٍ و معرفة .. هذا إذا تم النظر إلى الثلاثية من زاوية علاقة عناصرها الثلاث ..
الأمر نفسه ينسحب على الحب ، العجلة ذات العناصر الثلاث حيث لا يستوي بغيابها ..
فهي ثلاثيّة أخرى بين حُبٍّ ، و مُحبٍّ و محبوب .. تكون فيه الفضيلة الكبرى للمُحب . كما يرى أفلاطون في مأدبته الخالدة حينما أدرج قصة البطلين الأسطوريين أخيل و باتروكلوس (ابن عمّه الذي أحبه) حيث يقود مَقتل باتروكلوس على يد هيكتور الطرواديّ أخيلَ إلى طلب الثأر مضحياً بحياته بإرادة حرّةٍ وفاءً لابن عمّه باتروكلوس .. هو الذي كان يعدّ نفسه لترك ساحة القتال و العودة إلى طمأنينة الديار ..
الأمر نفسه نجده في النصّ الملحميّ المعروف (جلجاميش) ..
فجلجاميش الذي تصفه بداية الألواح بأنه :
لم يترك ابناً لأبيه
و لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
و لم يترك عذراءَ لحبيبها و لا ابنة المقاتل و لا خطيبة البطل
تقرر الآلهة تأديبه ، فيتقاطع طريقه بطريق شبيه له يدعى أنكيدو ، يملأ عقله و قلبه حبّاً .. فيموت أنكيدو ، و يقضي جلجاميش بقيّة حياته سعياً وراء فك شفرة الموت .. فيسافر إلى أقاصي الأرض و يتحوّل إلى حكيم أوروك .. و سيّد العالم السفليّ ، حيث حساب الناس بعد وفاتهم ..
قيل عند الشّوام ( يضرَب الحبّ شو بيذل) ، و أقول (يضرَب الحبّ شو بيربّي) ..
لكنّ حوراء في هذا الفصل الذي أسمته (من شدّ خاصرة الحنين) هرّبت شيخها الحكيم إلى حلبة الشبّان .. في محاولة منها للدّمج بين الطورين ، و هو أمرٌ يحسب لها من جهة أنها محاولة جرئية ، قلّ من نجح في رهانها الكبير .. إذ لم تذكر التجارب سوى شعراء العشق الإلهي كالبلخيّ الرّومي و حافظ الشيرازي .. و لم نرَ تجارب أخرى ناجحة في دمج العقل بالقلب ..
ثمّ تداركت سريعاً حجم الرّهان الكبير ليستقرّ قلقها على طور الحماسة الشّابة خالصاً :
عوّدتني كلّما أشتاقُ لا أجدك
غِب ..
إنني لا أكاد اليوم أفتقدك !
فكم فرشتُ لك الأضلاع خارطةً
نقشتُها من دمٍ ما حدّهُ جسدك
و كم أرحتُ على زنديَّ أدمعك الحرّى
لتجذبَني نحو العناقِ يدك
يوماً تعود مع الذكرى و تسألني
: عودي
: و حقّ الحب لا أعِدُك !
و رغم الرهان الكبير الذي خاضته في هذه التجربة ، جدير بالذّكر أنها التفتت إلى كون الحبّ نافذة الخلاص من همّ المادة بأشرسِ تشكّلاتها من زمان و مكان و أحداث :
جليدٌ لا يذوب بحرّ ناري
كأنّ الرّيح
لم تفهم مداري
أوزّع في مهبّ الرّيح صوتي
فيخنقني
صدايَ مع المسارِ ..
3- فطرة الطفولة .
الحكمة لا تُعلّم ، هكذا يقول أفلاطون في محاورته (بروتاغوراس) ، و إنما تُفعّل بالتربية ، ويُصنّف الشّهاب السهرورديّ رسالة في الطفولة يحكي فيها تجربته مع شيخه أيّام كان طفلاً ، و هي التّجربة التي حملها قلبه عابراً بها تقادم السنين و الأيّام دون أن تتآكل بأسيد الزمن ..
فلماذا الطفولة ؟
لأنّها مطبخ الإنسان ، حيث تتشكّل التجارب الأولى بعجين الفطرة ، فهناك ، في مطبخ الذات الأصيلة ، يجد الإنسان نفسه محاطاً بكونٍ صغيرٍ قوامه الأب ، الأم ، الإخوة ، فالعائلة الكبيرة فأصدقاء الحيّ و المدرسة .. و كافّة متعلّقات تلك البيئة ..
كلّها تشكّل الطبقة الأولى في أرض النفس ، و هي ما سيحدد على الأغلب صفات المرء ، و تحكم عليه بالسّخاء أو البُخل ، الشجاعة أو الجُبن ، المحبّة أو الكراهية .. إلخ ..
يتقادم الزّمن بصاحبه وسط تكالب الظروف و تغيّر الأحوال ، لتستحيل تلك الأرض الأولى نقطةً بيضاء صغيرة على سبّورة أيّامه السوداء .. يدور في الفلك المظلم ، و عينه على النقطة ..
الفطرة هي أرض الحكمة الأولى ، الأب هو الشّيخ الأوّل .. و الأمّ هي العاطفة التّي لا تنضب ..
يقوم هذا الطّور على ثلاثيّة خاصة ، تتموضع علاقة عناصرها وفق ثلاثة خطوط :
الأبوّة ، الأمومة ، و البنوّة ..
خللٌ واحدٌ في أحد الأضلاع يكفي ليَدخلَ أوديب مخدع الأب بخنجر.. أو تضع أليكترا الحنظل في قهوة الأم !
أمّا حوراء فتجعل من النّخلة الاحسائيّة .. أيقونة الأمّ ..
تحكي الأسطورة بأنّ رجلاً عقيماً كان جلّ ما يتمنّاه أن لا ينقطع نسله ، وجدَ نسراً عالقاً في البرّية في أحد جحور الأفاعي فخلّصه .. و كردّ جميلٍ حمله النسر على ظهره إلى الأعالي حيث إنانا ، ربّة الجمال و الخصوبة ، و هناك أعطته إنانا بذرة نخلةٍ .. كعلاجٍ لعقمه ..
ليس قبل الفطرة سوى الخصوبة ، و ما بعدها هو الجمال ، و الجمال داعية الحبّ ، و الحب باب الحكمة .. منظومة مختزَلة في الأب و الأمّ و الأسرة ..
ألهذا كانت الأسرة .. المستهدَف الأكبر لمدافع الرأسمالية ؟!
أدرك صُنّاع الحضارة الحديثة هذا تمام الإدراك ، فبتنا أجساداً بلا رؤوس ، تتخبّط في العماء المُطلق و تحسب كلّ جدارٍ باباً .. أو أيادٍ بلا خطوط !
للنّخلة (أبوّةً و أمومةً) عدة أوجه :
فهي الطّبيعة ، الكون ، الرّوح ، الخصوبة و الحياة الجنسية ..
فأمّا الطبيعة فتم غزوها بجيوش الاسمنت ، و الكونُ لم نعدّ نراه ، حتّى بتنا نبحث عن مساحة برّيةٍ بعيدة عن إنارات الشّوارع ننتبذ منها زاوية الرّؤيا .. و الرّوح أُنكرت أمام الذّكاء التّقني .. و الخصوبة باتت رهن الرّاتب الشهري ..
ألهذا كلّه قررت حوراء تسمية هذا الفصل (نبوءة يد) ، و اختارت لغة الفطرة المحضة ؟
إنّ الأرضَ تشبه يا ابنتي رَحمي
و نحن براعمُ الزّيتون نكبر بانتماء الرّوح للكونِ ..