راسة نقدية ثقافية لنص#صفقة العمر.
النص:
صفقة العمر
ـ طيب، والحل؟
فتح السمسار كفيه: صاحبه طلب ثلاثة ملايين، كما ترى، قريب للباب والموقع ممتاز.
ـ لاحول ولاقوة إلا بالله. نفضت ثيابي، غادرت وأنا أرمق تلك المتاهة الرخامية بأسف.
جمعت الكبار مساءً، تحلقنا حول فناجين القهوة وسحب الدخان وقرقرة النراجيل.
ـ هذا ماحصل ياجماعة.. أحتاج لمعونتكم.
ـ نفث أبو اليسر سحابة من فمه أشاعت في الجو رائحة التفاح: ابني..بكل صراحة..كما ترى الأحوال متعثرة، مهما جمعنا الفارق سيبقى كبيراً
يعني أنت لاتملك إلا نصف مليون، الفارق شاسع ونحن كما ترى؛ مؤخراتنا تطقطق.
ـ طيب، دبروني، جاوبته باستعطاف ويأس، وضعت رأسي بين يدي بذل.
بشهامة يحسد عليها قال موفق: اخي ادفنه فوق والدي، الأمر لله.
ـ لا لا صاح سعيد العجيب: لم يكونا يطيقان بعضهما، حتى في الورق لم يكونا يتشاركان.
هز الجمع رؤوسهم بالموافقة كأنهم في مجلس الشعب.
ـ والدك كان يشاكس دائماً ويغش في لعب الورق لن يتفقا، أضاف الحاج بكري.
ـ على حد علمي الجهة الغربية أرخص، نبه وسيم.
ـ ياعمي: الجهة الغربية خدماتها سيئة، تقنين الكهرباء فيها أطول وتغطية المحمول رديئة ومتقطعة، وهي أيضاً فوق طاقتي، أجبته.
ـ نعم..نعم معك حق، حتى إطلالاتها بائسة.
ـ المشكلة، عاد أبو اليسر لنشر غماماته التفاحية:
بسبب هذا الوباء اللعين صارت الناس تضن بقبورها على الأقارب، وزاد الموت وارتفعت الأسعار كثيراً.
عاد مجلس الرؤوس المهتزة للانعقاد وحصل المتحدث على الموافقة التامة.
ـ طيب، عمي أبو اليسر قبر علي شقيقك من أبيك.
ـ والله، ياليت يابن العم، اخت المرحوم لها فيه ربع متر وقضيتنا في المحاكم، لاتؤاخذني.
ـ عمي عجيب قبر اختك عا...
ـ لا..كله إلا هذا، رمى فنجان القهوة بعصبية على الطاولة، ترنح الفنجان قليلاً ثم وقع على جنبه: اخي يكفينا مانالنا من كلام الناس والفضائح في حياتهما، والدك كان يعشق عائشة ويعرض بها
ثم ذهب وتزوج غيرها، وأصلاً ربما عائشة ماتت قهراً بسبب تلك القصة، لن تقبله معها بعد فعلته تلك،ثم إنهم دفنوا الشيخ العلامة نجيب الحلو
قريباً منها وكلام العشق والمسخرة سيؤذيه، لست مستعداً بعد حكي الناس في الدنيا لسماع تعريض أهل البرزخ، خله في مكانه وهي في مكانها.
ـ حسناً، قلت: سأقبل باقتراح اخي موفق، ندفنه في قبر والده ومعهما وقت طويل، سيتصالحان وربما تشاركا أيضاً في لعب الورق.
ابتسم الجميع ابتسامة رضى، إلا أن موفق بدأ بحك ذقنه: كنت أفكر، بما أنهما سيتشاركان القبر عليك أن تدفع لي، الوضع كما ترى.
قلت مندفعاً: أكيد اخي موفق سأدفع لك النصف مليون التي أملكها.
ـ رد بلؤم: بصراحة..قليل، تعرف القبر عند سبيل الماء، يعني ونس ومرغوب.
ـ طيب عندي اسطوانة غاز مليئة خذها مع المبلغ.
بقي صامتاً يحك ذقنه العريضة.
ـ ولدي أيضاً حذاء جديد ورثته عن المرحوم صدقني كنت أدخره للعيد، خذه أيضاً.
رفع حاجبيه، فأسقط في يدي، فاضت دموع اليأس
من عيني: أيرضيكم أن يبقى في ثلاجة المشفى لثلاثة أسابيع، والله كل مااتصلوا بي أتهرب منهم.
ـ هز أبو اليسر رأسه بأسى: يابن اخي دعه عندهم، أريح لك ولنا..الحكومة تدفنه بمعرفتها، دعهم مرة يدبرون موتنا بعدما فشلوا في تدبير معيشتنا، والفاتحة يابن اخي تصل الميت أينما كان، اسمعونا الفاتحة.
نبيل نجار
الدراسة
رمزية توظيف الحوار في السرد الواقعي
تحية كبيرة لمبدع النص السوداوي الكوميدي المذهل ،الأستاذ نبيل نجار الذي عودنا على قراءة الواقع بلغة ساخرة،تهكمية، موغلة في الحقيقة لاتخلو من حس الفكاهة والتصوير الكاريكتوري النفسي، والتشويه المتعمد للطبائع البشرية كنوع من الجاذب القبيح الصامت، الذي ينطق بدلًا عن المتلقي كل أحكامه و مبرّراته ويتركه وحيدًا أمام حقائق قد لا يقبلها الحياد ولا يدركها القارئ الخارجي(اللامنتمي لبيئة الحدث) ، ولا تنصَف إلا بوصفها كعينٍ رقيبة على واقع مرير ترك ندباته في أرواح أبنائه كذاكرة موقوتة لن ينساها التاريخ أبدًا.
ولنعلن بكل مرارة هذا ما يحدث في أوطاننا، (القبور سلعة طازجة تتقاذفها المحاكم).
توظيف الحوار الدرامي
يبدأ الكاتب النص باستهلال حواري مفاجئ ليشد انتباه المتلقي لبؤرة الحدث دون خيارات بديلة،حيث عامل الزمكان مهمش وضمني، وعنصر الزمنوجداني ساطع ومبهر ،فالقارئ جزء من المشهد، غارق في المشكلة كسارد المتن، مصغٍ بانتباه للشخصيات النمطية التي ارتبطت بمفاهيم المجتمع القاهرة المستحدثة المجردة، إذ يكمن ذكاء الكاتب في إظهار الأبعاد العاطفية والنفسية للشخصيات الرمزية في المجتمع الراهن من خلال تراكم الحكائية المجتمعية في الحوار وحده. ليستمد شرعيته الفنية وطابعه المسرحي دون الخروج عن فضاء المتن القصصي. فنرى كل شخصية مرتبطة برمزية دلالية تهكمية مدهشة:
سعيد العجيب: (ذاكرة المكان الوجدانية)
السمسار: لغة السوق، (شايلوك العصر)
أبو اليسر الشخصية الإنهزامية صاحبة الحلول المعلبة:(طبقة الأكثرية)
الحاج بكري: (الطبقة الهامشية السطحية)
موفق الانتهازي الجشع:(ذاكرة الموتى التوثيقية)
وسيم العالم بالقوانين( المتحذلق) : (المثقفون المهمشون)
السارد (المواطن الحقيقي) :الطبقةالمسحوقة
ويغيب عن النص الشخص المتمرد(حس الثورة) حيث لن يسمح الكاتب في مجتمع غارق بالخيبات بالنهوض.
إلا على أكتاف الرمز المبطن في السرد.
قائمة السخرية المعلبة
نجح الكاتب في خلق مسار متكافئ بين وعي نقدي شمولي لمعاناة الفرد وبين بنية المجتمع الجزئية الطبقية، فنرى استراتيجية خفية تنتقد الوجه الآخر للمجتمع المنهك بالعوز والفقر والجائحة، مثل؛
معايير عالم الموت أهم من ضروريات الحياة، الرومانسية الفضائحية لا يمحوها الموت في مجتمعاتنا ، عالِم الدين( ما زال في موته محصَّنًا بالقداسة بعيداً عن الشبهات) ، الموقع الطبوغرافي والجغرافي يمنح الموتى ميزة احتلال مساكن الأحياء.النّزعات العدائية الفردية المتطرفة والتافهة في مجتمعاتنا (لعب الورق)، بارزة رغم كل شيء.
رغم أنّ النص يبدو كلاسيكي اللغة والأسلوب إلا أنّ التجديد طال عناصر البناء السردي بمضمونه وبناء شخصياته، ليطرح إيديولوجية ثقافية مجتمعية واضحة المعالم، تظهِر إلحاحًا قاهرًا وحّدَ أفكار النص الساخرة المتفردة في همٍّ شمولي واحد يتكئ على الرومانسية الدينية كنهاية تراجيدية، تشير بإصبع الإتهام لمنظومة السلطة التي تتقن لغة الموت أكثر من وهم الحياة.
هناك بعض الهنات البسيطة المتعلقة بالمسافات بين الكلمات وغياب الهمزات،لكنها لم تؤثر على جمالية النص وتفرده كما أرى
كنانة عيسى
