سحر أمادي
قصة قصيرة
أميمة الحسن
فتحت عينا واحدة، مقاوما النعاس الشديد وثقل رأسي عندما شعرت بشيء ما يعبث بقدمي، فرأيت صغير بابون يتقافز ثم فر راكضا. نظرت حولي وجدتني في غرفة مبنية من الطوب اللبن، أنام على سرير منحوت من خشب التك ذي قوائم أربع مرتفعة، متؤسدا حقيبة،
_ ترى أين أنا؟
مرّرت يدي على جسدي وملابسي المبللة، فتعثرت بالهاتف ونظرت للساعة في معصمي، يبدو أنني مازلت أنتمي لهذا العصر، استغرق الأمر ثوان قبل أن أفيق تماما وأدرك ما يحدث، سمعت صوت أمادي من الخارج تدعوني للاستيقاظ، فتحت عينيّ على وسعهما.
سألتني إن كنت أود التجوال و التسلق، اعتذرت لها، ابتسمت قائلة:
- يبدو أنك متعب من السهر أو ربما بسبب إسرافك في الشرب البارحة، سأتركك ترتاح،
ثم انصرفت.
جلست على حافة السرير بعيدا عن مكان البلل والمياه المنسالة من سقف القش، سرت متمهلا في ممرات ذاكرتي، تدافعت الذكريات كشلال منهمرة علي.
كانت بعثتنا قد وصلت قبل المؤتمر بأسبوع، حملت حقيبة ظهر، وهاتفي بينما تركت بقية متعلقاتي الشخصية في الفندق، مسافرا لغير وجهة.
بتُّ في أول نزل قابلني في طريقي ليلا؛ وفي الصباح تجولت راجل مستكشفاً للمنطقة ثم عدت.
تعرفت على أمادي عاملة النزل اللطيفة، تعانقت عينانا عندما تلاقت نظراتنا أول مرة، وكأننا ظفرنا بشيء مشترك، لا أدري إن كانت شدتني بسمرتها الأقرب للبرونز أم ابتسامتها الغامضة الملغزة، فقط أدري أنه قد انزلق بيننا ود.
جمعتنا جلسة أنس وضحت لها سبب حضوري للعاصمة وكذلك أسباب تجوالي.
أثناء انشغالنا بالحديث وضعت حقيبتها في المقعد، فتناثرت بعض محتوياتها، من بينها تميمة بيضاء شكلها بديع سألتها عنها،
فقالت:
- هى تميمة ورثتها عن أبي الذي ورثها عن أبيه، الآن أنا الوريث الوحيد بعد وفاة ابي. ثم قربتها مني وقالت: ألمسها هى من العاج الأبيض، سرت في رعشة حين تلامسنا، فسحبت يدي وقلت لها:
- دعيني ألبسها.
ضحكت وقالت:
- ليس من السهل ذلك. هناك طقس خاص بها قبل ارتدائها،إن كنت تريدها عليك أن تتجشم عناء السفر، و الذهاب معي لقبيلتي، نلبسك إياها بعد أن نقيم لك هذا الطقس. يصادف غدا موعد إجازتي السنوية، ستستمتع إذا رافقتني.
لا أعلم إن كانت تتحدث ببراءة، أم تستدرجني لشيء في نفسها، على أي حال تحمست للفكرة، فلدي فضول وحب اسكتشاف المجهول، كذلك أود تجربة التحرر من القيود ومن زيف المدينة والارتياح قليلاً من تبديل الوجوه .
اغتسلت ولبست بلهفة، بعد أن تناولت وجبة خفيفة على عجل، وغادرنا صباحاً على متن سيارة أجرة.
بعد عني النزل، وحلت محله السحب الركامية، مقرونة بشريط ممتد من أشجار المهوقني و النال ذوات العبق المميز، بالرغم من وعورة الدروب فقد استمتعت بمشهد الزرافات، والوعول،ووحيد القرن، و هى متناثرة على طول الطريق.
وصلنا عند منتصف الليل مرهقين، فنمنا، بينما قفل السائق عائدا بعربة الأجرة.
في الصباح تمرغت في السرير، يشدني نعاس وتعب نحوه، صحوت منه على صوت أمادي تترنم، رغم أنني لم أميز الكلمات، لكن اللحن كان مليئاً بالشجن،عرفتني أمادي على أهلها، حدثتني مترجمة لي حبهم لحياة القرية كذلك خوفهم من الغرباء.
قضيت جل وقتي معها بحانب اﻷنس في التجوال وتسلق الهضاب، عرفتني كذلك على أنواع الأشجار والعادات و أنواع الطعام، وخلال ذلك توثقت علاقتي بجدتها لأمها، ذات الشعر الخشن القصير، والتجاعيد الممزوجة بماء الأساطير، في البدء رفضت الجدة فكرة إعطائي التميمة بشدة، ثم حدثتها أمادي بلهجتهم، فأذعنت.
في المساء قاموا بايقاد النار والتفوا حولها وهم يتراقصون، بعدها أجلسوني بالأرض، كما وضعية الفلامنجو في الماء، ألبستني بعدها الجدة التميمة وسط همسات وغمزات أهل القبيلة، ثم تلت بعض التعاويذ، أثناء تناولي لمشروب له لسعة لاذعة، بعدها وقفوا للحظات صامتين، كما لو أنهم بهدف الصلاة. حينما انتهت الطقوس أحسست بسكينة عميقة تسكن روحي،
رجعت من رحلة التذكر والتسكع الشهي على صوت التهاطل الذي ازداد، أنتابني قلق وخفت من تأخر السيارة عن موعدها، سألت أمادي ملحا عن وسيلة أخرى للمغادرة فقالت :
- الحافلة تأتي كل أسبوع عند مفترق نهاية طريق القرية مع الغابات على بعد بضعة كيلومترات. توجست من أن يفوتني المؤتمر، فودعتها، وهى تتابعني بعينيها الضاحكتين وتلقي علي نصائحها وتحذيراتها بلكنتها المحببة حتى أطراف القرية، ثم رحلت، ترافقني ذبذبات دافئة من قلبها تحيط بي كسياج أمان.
سرت وحيدا لمسافة طويلة كأنني الشاهد الوحيد على اشتعال الطبيعة وتقلباتها، متجنبا الأشجار المتعانقة، تبللت سترتي من الرذاذ، ففردت المظلة التي منحتني إياها أمادي. رغم رهبتي من المكان، إلا أن هذا بجانب آخر أيقظ في حب اﻷكتشاف وبعض المتعة، فتخيرت المناطق المرتفعة لاقدامي ولحسن حظي لم أصادف إلا بعض الفيلة تبعد عني بمسافة ضبابية. تنفست الصعداء عندما وصلت مفترق الطرق ذاك، فجاءت الحافلة بعد وصولي بزمن يسير. جلست في أقرب مقعد وأرجعت رأسي للوراء مستندا على المقعد، تحركت الحافلة، مهلا لم تتحرك الحافلة، أدار سائق الحافلة المفتاح، ولم يستجب له المحرك. ظل لفترة طويلة من الزمن يعبث باحثا عن العطل دون جدوى، ظهرت على وجهه علامات الحيرة، وفي محاولة يائسة منه طلب منا الترجل، ودفع الحافلة، قبل أن ينزل آخر راكب دار المحرك فطلب منا الصعود، توقف المحرك مرة أخرى ريثما ركب جميع الركاب، فطلب منا على استحياء معاودة النزول مرة أخرى.
تتكرر الأمر فساد هرج ومرج وسط الركاب، صادف أنني كنت آخر الراكبين في المرة الأخيرة وزامن ذلك تعطل المحرك، فالتفت إلى الركاب وحدقوا في بعضهم، ثم وجهوا حديثهم للسائق وهم يتهامسون ويشيرون إلي، توجست خيفة، لأنني أعرف إيمان أهل تلك البقاع بالنحس، أشار إلينا السائق بالنزول، ثم طلب منا الصعود فردا فردا، حين أتى دوري، توقفت الحافلة على الفور. وفي محاولة عادلة كرر الأمر، وتكرر العطل، أحسست باندفاع موجة من الأدرينالين في جسمي لما أومأ لي السائق برأسه معتذرا، بعد أن صعد جميع الركاب، أغلق الباب ثم شقت الحافلة الدروب مبتعدة.
عدت ادراجي بعد حلول
أم قام بالإرسال اليوم، الساعة 4:30 م
الظلام لقبيلة أمادي، بعد معاناة كبيرة مع الأرض الزلقة و الحشرات القارصة .
ظهر على وجه أمادي مزيج من الفرحة وابتسامة ظفر على عكس الجدة، عندما تلاقت نظراتنا، لا أدري لمَ أحسست بنظرة لؤم في عينيها.
ظللت منتظرا لأيام عدة أخرى أتقلب بين الاحتمالات، كانت أمادي تبذل فيها جهدها لاستبقائي، حسمت أمري بعد حضور سيارة الأجرة والسائق يتعلل بسوء الطقس والوحل... لم أتركه يكمل، ركبت السيارة، فحدث نفس الأمر السابق. وبعد حيرى جاءتني أمادي ولحقت بها الجدة وأشارت للتميمة، فهمت من أمادي معنى حديثها.
وبين نهنهاتها حدثتني؛ لأول مرة قائلة:
-أنها تميمة البقاء من يلبسها لايغادر هذا المكان.
خلعتها ببطء شديد والبستها أمادي. مسحت عنها دموعها، وركبت. والرغبة السابقة مازالت تسيطر علي. علمت أنني ابتعدت حين عملت الشبكة وتواردت الرسائل لجوجة، بعضها قلقة عن سبب اختفائي غير المبرر، بعضها من منظمي المؤتمر، كان آخرها من السفارة تطالبني بالاتصال بها.
في الطريق التفت إلى السائق وقلت له: أدرك أن هذه الرحلة سيترتب عليها الكثير، بما فيها خسارتي لأمادي، لكن! أحس بأنني قد عدت خفيفا متحررا من أثقال الحياة، وهناك في مكانٍ قصي بقلبي حققت ذاك الشعور الكامن في، والذي سعيت في الحصول عليه بشتى الطرق ولم أفلح، إلا في رحلتي مع أمادي...
أومأ السائق موافقا، الذي أجزم أنه لم يفهم أي كلمة مما استرسلت فيه . حينما أوشكت بوضع حقيبتي في كتفي مغادرا السيارة، تدلت التميمة منها، كلسان يمتد هازئا.
أميمة الحسن/السودان