يتبع..
للكاتب الروائي قدري المصلح
رواية : أحاديث امرأة ثائرة ورسائلها الخاصة .
الجزء الأول :
أسباب الثورة .
لا يولد فجر دون حرج لليل.
على جسد الليل دم وتراب ومشيمة
اعتراف
في آخر زيارة إلى بيت صديقتي في عمان أخبرتها بأنني لا أحب زوجي أبدا، ولا يعجبني بأي شيء يفعله لكي يلفت نظري إليه ويجعلني أحبه، ولكنني أحترم مشاعره، ولأنني أخاف أن أموت أنا إذا مات الاحترام فيّ. كانت صور أطفالها معلقة على جدار من جدران الغرفة التي كنت أجلس معها فيها. وشاهدت صورة طفلا منهم وخُيل لي من علامات وجهه بأنني شعرت بنذير سوء فسألتها عن اسمه وبقيت تجلس أمامي بصمت وإلى أن ضحكت وقالت:
لن يعجبكَ اسمه ولا أريد أن تكون هذه زيارتك الأخيرة لي، فأنا أحبكِ وأنت أجمل وأروع صديقة لا أريد خسارتها.
قلت: ماذا يعني ذلك يا صاحبتي؟
قالت: يعني أن العلاج قد يفشل في وجه طفل شبيه برجل كبير يحمل نفس الاسم.
ضحكت وقلت: والآن ماذا سنفعل؟
ردت: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا في عالم الرجال ولا تنفع التجربة أبدا.
وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قالت: عليكِ القبول.
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.
ردّت: للأسف... مضى التاريخ وأنتِ الآن موظفة عند رجل بوظيفة زوجة.
قبل أن أغادرها قالت: هذه آخر مرة تأتي فيها إلى بيتي تحملين هذا الحزن في داخلكِ، المرة القادمة تعالي إلى مبتسمة، وكأنك في إجازة.
وصلت إلى مجمع الشمال، حصلت على تذكرة حافلة حجازي، وثم جلست على مقعدي ولا أعلم لماذا تذكرت أبي وقلت أحدث نفسي:
ليس لي أحد بعدكَ أبي يَفْهَمنِي
لا الليل يزفُّ لي حلما جيداً،
ويوم يبدأ مسكون بنوايا لا أعرفها
كلما مررت بشارعٍ أشعر بخوف وأرى على جوانبه
عيوناً تلمع
وأروح كأنها شتاء بارداً،
لكن هؤلاء في الشوارع ليسوا أعداء شخصيين،
مثلما هو زوجي جعلني موظفة قبول لكل سجلات طلباته
فكيف وأنا من عشتُ على جبلٍ أسفله وادي، وبعد الوادي شارع المدرسة، وخلف المدرسة حقل قمح، وأخ يمازحني، وأحيانا يضربني على خلفي بلطف ويقول:
ما هذا.... ومن نصيب من يا ترى؟
ويأتي يوم رجل ويتسلل إلى بيت العائلة ويسأل عنّي ليأخذ منّي الجبل والوادي والمدرسة وحقل القمح، وليعطيني جدية غريبة عنّي جدا، وأنفاس يُسمح لي بالتنفس منها عندما يغيب عن البيت.
والآن
ما مشكلتكَ معي، وإن كنت رجلا أعطني استقالتي وتعال نكتب ورقة نهاية العقد الذي بيني وبينك ونلتقي في أي محكمة تريد وجهاً لوجهٍ، ولسوف ألقنك درسا لن تنساه أبدا،
كما لقنتني درسا عندما أخذت منّي طريق الجبل والوادي والمدرسة وحقل القمح.
أرني وجهك قبل أن نكتب نهاية العقد، وسوف أعطيك قناعك الذي يجب أن يكون على وجهك خيالا يستر حالك المتهالك، وما أسميه أنا عقاباً إلهياً لرجل ولرجال يجعلون المرأة موظفة لسجلات طلباتهم.
ابن الجيران
(إلى قدري)
أيها الحر
لم تنطفئ شعلتك رغم الريح التي تهب في غير موعدها، رغم الأيام الجافة روحك كأنها الأيام الماطرة، وكلما مرت ليلة ماطرة كأنها كانت تكتب الأغاني من أجلك، وكلما غسل المطر وجهك صار بيتي الكبير عليّ ضيقا فأنت تعيش، وأنا يا صاحبي موظفة عند رجل لا أكثر يكتب أوقاتا للصلاة، وللطعام، ويختار لي ملابسي وكلماتي أمام غيري، ولا يسألني إذا أحببت يوما حتى جاء يوم صرت أرى النجوم صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني.
والآن تذكرت كل شيء، كنت عندما أعود من مدرستي أتناول طعامي وطعام أختي وأخي ولا أقابل إلا بابتسامة من جميعهم، وكنت أنام بجانب أخي، وأختي، وأبي وأمي، ولم يطلب منّي أبي يوما ألا أنام بجانب أمي في ليلة يريدها أن تنام معه، وتخيل بالله عليك كيف تشعر بنت شابة عندما تجد نفسها تنام بين أبيها وأمها، وليت تلك الليالي المرسومة الآن بالذاكرة لم تنتهي، ولكن لا بد من وظيفة زوجة لزوج.
كان عندي يا قدري الكثير من الذكريات، فأمي الفلاحة تسلق البيض بالماء صباحا، وهذا الطعام لم يكن يعجبني، ولكني كنت أقبل بالزيت والزعتر، وكنت أحصل على قطف عنب بالسرقة من سياج جارتنا، وتشاهدني ابنتها فتعطيني آخرا، وابنتها الثانية وتعطيني أيضا، وابنها الشاب الذي بسنين عمري فيعطيني أيضا فتسألني أختي:
هل تحبيه ويحبك؟
ولكنها لا تحدث أمي ولا أبي ولا أخي.
وأختي لم تعرف إلى اليوم هل كنت أحبه أم لا. بالله عليك كيف جعلني هذا الرجل موظفة الآن؟ وكم رغبت بركوب الحافلة من إربد إلى بيت صاحبتي في عمان لوحدي بين الناس الذاهبة إلى العاصمة ولكنه يضعني في سيارته، ويبقى طول الطريق يسألني:
هل لا بد من هذه الزيارة؟
ولا أعرف لماذا أشعر بالاختناق، فانزع السلاسل الذهبي الذي على رقبتي، فيصاب بالجنون، وصاحبتي مثلي لا يعجبها السلاسل الذهبية، ولا أعرف لماذا اضحك بداخلي كأن العنب الذي كنت أسرقه من سياج الجارة نبت فيّ الآن من جديد،
ولعلها هذه المرأة تحبك أنت مثلا، فلا تتكلف بالرد عليّ، فرغت كل ما فيّ من هم عليك، وأعرف أن عندك هموم تكفيك، ولكني أوصلتك بعد كل هذا الملل الذي أعيشه إلى العنب الذي نما بداخلي من جديد، أتمنى السلام لروحك، فتمنى لي النجاة من هذه الوظيفة التي سرقت منّي الجبل والوادي والمدرسة وحقل القمح.
البداية....
سلاسل الذهب لا تلمع على رقبتي، بل تطلع على رقبتي كحبل مشنقة، وأعرف أنك يا نادر تحبني، وتريد العظمة والمجد من أجلي، ولكني لا أقدر أن أرفع يدي، وإن فعلت ترتد خاسئة حسيرة كأني شاهدت ظلها ولم أرفعها.
نظر إلي نادر بنظرة حقد وسألني:
هل أنتِ جائعة اشتقت للجوع؟
فضحكت وقلت: تخيل وفرة الطعام كل لحظة، كان الخبز أيام الجوع أطيب من اللحم الذي يتوفر في بيتك كل لحظة، وكان لبن أبي الذي يفطر عليه كل يوم أطيب بكثير من البيض المسلوق بسخان كهرباء كل صباح، والطعام الجاهز من مطعم بلا طعم.
وسألني هل أنت عارية اشتقت للعري؟
وشعرت بأن عليّ الصمت، ولكني انفجرت وقلت له:
على الرغم من تلك الأيام، ومهما لبست بين أهلي كنت حرة أتنفس.
وضحك وقال:
لم يعد، هنا، للكلام معنى. وقد أودع الأيدي لكني لن أوقع على عقد النهاية.
يتبع..
للكاتب الروائي قدري المصلح
رواية : أحاديث امرأة ثائرة ورسائلها الخاصة .
الجزء الأول :
أسباب الثورة .