حين يحقق الصعود إلى الشعر بلوغ المدارج وسلوك ارتواء الفرادات .
قراءة في عتبات ديوان الشاعر المغربي الحسن الكامح ( صاعداً لا أرتوي )
* مقدمة :
هو الصعود حين يتشكل مختلفا لا يوازيه صعود آخر مخالف في بنائه، في معناه وحمولته ، وفي امتداده الدلالي والمعرفي في بحثه الفريد عن تماه مع ذات عارجة ترتقي في المدارج لتنهل من معين صاف، منهل الوجد الذي يجعلها سكرى في غمرة المحبوب. صعود لا يوازي ولا يشاكل بل يخالف ويتميز.قادرعلى حفر معناه المختلف قدرة الرجل على ترويض الحرف وتطويعه.
* الصعود تجميعا وتفكيكا :
- صاد الصعقة والصفعة :
هي الصاد في الصعود حين تحيل على صعقة الشعر. تلك الصعقة التي أريد لها أن تكون عند البعض صفقة للشعر أو صفعة له. وما بين الصفقة والصفعة ضاعت جمالية البوح وجلال القريض. فلا جمال غدا للحرف. ولا جلال للمعاني التي يحملها النص بين ثناياه.
وحين نتحدث عن الصعقة نراها هزة عند الشاعر ، مادام آثر لنفسه ذلك وخص أعماله بميسم الاهتزاز. هي صعقة حرف تجعل المبدع يهتز. يهتز ليربو ، ليتحرك ، ليرتعش وفي هذه المعاني كلها يجتمع الإبداع ويتجمل. فما الشعر إلا اهتزاز الأرواح وسموها فوق ربوة الجسد ، لتنظر من عل بعيدا عن درن الشهوة وسفاسف الجسد. وحينها فقط نعود إلى التحرك ، فهو هذا المسلك نفسه الذي ينبغي أن يسلكه الأدب والإبداع. أن يحرك الضمائر ، أن يدفع الآخر إلى التحرك من أجل الذات ، ومن أجل الآخر ، لن يخرج الأدب عموما عن مقصديته الكبرى ، إلا وهو يسلك مسلك الإنسانية. بحثا عن الأفضل تسييدا للعدل والإنصاف ، أ لم يقل هيجل يوما :"إن غاية الفن تهذيب النفس وتلطيف الهمجية ".
- عين الشعر بصيرة لا بصر :
العين : عين الشعر وعين الشاعر التي يرى بها ، ما لا يراه الآخرون بعيونهم ، فتغدو بصيرة لا بصرا ، لأنه لا يبصر لنفسه فقط ، بل حكم عليه القدر أن يبصر من أجل الآخر ، أن يعبر ويشعر من أجل الآخر ، هذا التعبير وهذا الشعر ، يكون امتاعا كما قد يكون اقناعا ، ولكنه لا ينبغي أن يكون قناعا ، يوضع تخفيا وتقية ، ساعتها يحل القناع مكان الاقتناع. وهو ما لا يؤمن به المثقف الشاعر ، الذي يحمل هم الأمة دما وغما في دواخل قلبه. وبهذا الطرح الأخير نجد أنفسنا اجبارا نعود إلى المنحى الأول الذي سبق أن توقفنا عنده : الشعر صفقة أو صفعة.
عين الصعود لا ينبغي أن تكون عين نحلة فقط لا ترى إلا الجمال ولا تقع إلا على رياحين الورود ، ومسك الأقاحي ، هي عين ترى المساوئ ايضا كما ترى المحاسن. ترسم الجمال والحبور في نفوس القراء ، كما تمتلك قدرة كبرى على تجييش الخواطر ، وتفييض الوجدان ، تملك الدربة والدراية لتجعل من المتلقي يخزن الحزن والكمد ، ويفعل دوره الإنساني الذي يدفعه إلى الاحساس بالآخر ، تمثل معاناته وأجرأة هذا التمثل إلى "الفعل " ليتجاوز المثقف دور المثالية والطوباوية التي تبيعك وهما لا يليق بك "إنسانا ".
هذه العين نفسها هي التي باتت في وقت من الأوقات غير قادرة على تمييز صالح من طالح. أو معرفة غث من سمين. مما أدى إلى انحدار إبداع ، غدا بعدها اندحارا للقيم والمثل ، فصار القريض بضاعة من لا بضاعة له يركبه من لا يحسن الركوب ، بل صار ركوب من لا مركوب له أصلا.
- واو وجد وعر وويل للمبدع :
واو الصعود لن تحمل في الصعود إلى الشعر والحب إلا وجدا وعرا وويلا للمبدع ، فمن الطبيعي أن يكابد المبدع ويجاهد ويصارع الويلات في معراجه ، صاعدا نحو حبه الأثير ، ويجد وجدا بين أضلاعه ، يمنحه ترياق صبر ، وبلسم جراح لويلاته التي تتربص به ، وبسيره الحثيت نحو أهدافه المثلى وقيمه العليا ، حق له أن يلاقي ويلات من ذويه وأهله ومحبيه إما جهلا أو حسدا وغيظا وكمدا ، ولعلها ويلات من أشباهه ومتطفلي صنعته تكبرا وتبغيضا ، تنقيصا أو تسفيها ، وقد تكون ويلات من تمترسوا ضده إنسانا راقيا ينشر المحبة والسلام وقيم الحب والخير ، أو ويلات من تأدجلوا واستكانوا لأدجلتهم وظنوها حصونا مانعتهم من دحر الغير ، مسوغة لهم قصف نقيضهم الذي عدوه نقيصا ، والتنقيص ممن خالفهم منهجا واستبدل بضاعتهم ببضاعة غيرهم.
ومادام الحب يسكن أضلاع الشاعر ، ويجد لذة الحرف فيه متعة عامرة وسعادة غامرة ، فلن يضيره مصارعة الويلات على أنواعها ورغم تشعبها وعلاتها. فمن أجل ذلك يسلك مدارج السالكين لينال ، صاعدا ، وجده المرتجى .\
دال الديدن بلا دنية :
دال الصعود ديدن لا دنية فيه و دعوة ودعاء : وفي بحثه الديدني عن الرقي والسمو ، يبقى الشعر وحده وسيلة مثلى لتحقيق هذا الألق ، لتعمير القصائد بالخير والحب ، ولتزهر الأشعار ورود ياسمين تتغنى بغنج امرأة جميلة ، أو لتبني الحروف آفاق ممتدة ، حقولا وبساتين ، تمنح ضياء ونورا فريدا ، تنير دروب الحيارى والجياع ، تبني آمالا أكبر في عيش رغيد للمطرودين والمهمشين .
هو الشعر حين يصدق لا يغدو إلا رديفا للإنسان حاجة ضرورية لعيشه وسيره نحو إنسانيته ، وليس ترفا زائدا يستدعى وقت الحاجة ليكمل موائد الطعام الملأى أمام بطون قد تدلت يسحب أدناها أعلاها تدفقا وطفحا ، يبنما أخرى تعاني المخمصة والمسغبة وراء الجدر المظلمة المهمشة.
وتماشيا مع المنحى ذاته يقف الشاعر داعيا وداعية لهذه القيم ، ينشرها في غير خجل ولا حياء ، فيصير الشعر دعوة للحب ، دعوة للخير والعطاء ، دعوة للعدل والحرية ، بل هو جماع كل ذلك إن صدق ونقي من الشوائب وصدق أهله وصناعه.
لكل ذلك فرضت الذائقة على الشاعر ان يتبع متابع الخير وينبع الحرف من منابع القيم ، ولن يستقيم ذلك ، حسب زعمنا المتواضع ، إلا بمحاربة السفاسف والمثبطات ، و اتخاذ الديدن ودحر الدنية ، ساعتها لن يكون الإبداع إلا ميسما انسانيا خالصا من الانسان ومن أجله وإليه وحده دون غيره.
إن هذا المسلك وحده هو ما يجعل الشعر يمتد ضاربا في الآفاق يتجاوز الحدود والمتاريس ، لأنه يبحث عن الإنسان الجائع ، ينقب عن الإنسان المظلوم والمحروم ، لينشر أنينه ويترجم حزنه ، ينقل حرمانه وحنينه ، وهنا يأتي الدعاء مخلصا وخالصا لا سمعة فيه ولا رياء ، دعاء بظهر الغيب ، ينقل إلى الله خالصا وقت الحاجات وفي غياهب الظلمات. وسط الأنين والهم والكربات ، فكأن الشعر لا غيره حركه وزوده بأكسير حياة ، بأكسجين يبقيه حيا ويدفع الآمال إلى أبعد الآماد.
* الصعود بدون ارتواء
الارتواء نضارة وامتلاء وتنعم بعد تيبس العروق وتخشبها بعد تكلس الأمعاء وتصلبها. هو نور يغطي الوجوه ويملأ النفوس بالبشر بعد عطش وجواد قاتل.
ولن يتحقق الارتواء غاية وبغية مادام الشعر ساريا. لأن الارتواء الشعري لا يحقق اشباعا ابدا ، فكلما تحقق الاشباع توقف الشاعر ومات القريض. ومن ثمة حكم على الشاعر أن يظل صاديا ، لا يرتوي ابدا ، فالعطش يرقي ابداعه ويجعله فريدا يبحث عن حروف تطفئ لوعة الشرارة ، وكلما نهل من منهل القريض الزلال إلا وازداد عطشه ، وكأن الارتواء بهذا المفهوم صار عطشا بوجه آخر ، وهذا ما يجعل الشعر مستمرا لأنه يبحث عن ارتواء مثالي مفترض لن يتحقق أبدا .
هذا الارتواء المرغوب فيه قد يحققه القارئ استمتاعا أو هياما ، بل وحتى تماهيا مع نص عذب يجد فيه ذاته ، غير أن المبدع لن يحقق ارتواءه أبدا ، وحين يحققه فقد انتهى شعريا مهما طال مراسه ومرانه شاعرا ناظما.
إن ما يجعل الشعر متجددا في مسالكه ، متنوعا في ثيماته ، هو بحث صاحبه عن ارتواء يحقق فيه ذاته ، ويعطيه توازنه الشعري المفتقد ، فهذه الحالة من الاضطراب واللاتوازن هي التي تسمه بميسم "الفرادة " إن الشاعر إنسان مضطرب وغير متوازن ، ليس بمفهوم باتولوجي عصابي ، ولكن بمفهوم آخر يحيلنا على ارتباط الملكة بوضعية نفسية وداخلية خاصة ودقيقة جدا ، تبتعد بشكل كبير عن حالة الإنسان العادي الذي يجلس في وضعية بلاهة واسترخاء وهو يشاهد التلفاز غير آبه لما يدور حوله.
هذا اللاتوازن هو الذي كلما تجدد إلا وتجدد الإبداع ، وكلما دام إلا ودام الأبداع ، تعدد وتفردن.