فشّة خُلق ...
مابوسعِ المعلّم " عدنان " أن يفعلَ ، إذا كان بيته يبعد كثيراً عن المدرسة التي يعلّم ُفيها ؟! ..وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ الدّاخلي ! .. ثمَّ يتابع طريقه سيراً على الأقدام مدَّة دقائق ! .
وماذا يفعل إذا عَلِمنا بأنّ الحافلة الأولى ، التي سينحشر بداخلها ، لا تأتي قبل السّادسة والنّصف ؟! ، ولا يصل إلى محطّةِ المنشيّة إلّا بحدودِ السّابعة ، ثمّ عليهِ أن ينتظرَ الحافلة
الثّانية ! .. ولا وسيلةَ نقلٍ أخرى ، يمكنه أن يستعملها ، سوى " تكسي الأجرة " ويعجز راتبه بالتأكيد ، عن تغطية نفقاتها ! .
وما بيده إن حاول باستماتةٍ ، ورغم كلّ الواسطات التي لجأ إليها ، كي يعيّنهُ المُوجّه في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنهِ ، لكنّ المُوجّه يعتذرُ بحجّةِ أنّ لا شاغرَ لديهِ ؟! .
ثمّ نوّهَ بأنَّ نقل الأستاذ " عدنان " من منطقةِ " عين العرب " إلى حلب ، بعد، بحدِّ ذاته شيئاً عظيماً وغير قانوني ، لأنّ دفعة زملائه في التّعيينِ ، لم يصدر قرار نقلهم رغم أربع سنوات على غربتهم .
وما حيلته إن كان قد طلب من مديره ، أن يعفيه من إعطاء الحصّة الأولى ، كي لا يتأخّر على طلابه ؟! .. لكنَّ السّيد المدير اعتذر ، متذرعاً بالبرنامج المدرسي ، الذي لا يمكن تغييره .
فكرة أن ينقل مكان سكنه ، إلى منطقة أقرب ، مرفوضة بالتأكيد ، ذلك لأنّه يقيم وزوجته وابنتيه الصّغيرتينِ ، في غرفة خانقة وضيّقة عند أهله ، ولا مال لديه للإيجار أو غيره ، فقد تزوّج بالتقسيط ، ولم يزل يدفع من مرتبه ومرتب زوجته الأقساط المترتّبة على عنقيهما .
السّيد المدير غارق إلى شحمة أذنيه بالبيروقراطية والاستبدادية ، وهو في الحقيقة لا يصلح إلّا أن يكون محقّقاً ، بارعاً في الطّعن والانتقام ، ممّن يتجاسرون عليه ، وممّن ينصاعون إليه أيضاً ، فما من معلٌمٍ خدم في مدرسته ، إلّا وكتب بحقّه أكداساً من التّقارير ، واقترح بشأنه آلاف العقوبات والانذارات ، مستعيناً بالآذن " عبد الفتّاح " ، الذي أطلق العنان لأذنيه وعينيه ومنخاره ، لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها .
فما إن يصل المعلّم " عدنان " إلى المدرسة ، ويدخل الصّف ، حتّى يقتحم عليه الآذن الباب حاملاً استجواباً خطّياً من السّيد المدير :
- ( بيّن سببَ تأخرك المتكرّر يا أستاذ عدنان ؟! . ) .
كان يرتبك ويحمرّ وجهه خجلاً أمام طلّابه ، يجلس خلف طاولته ، ليردّ على الاستجواب ويقدّم اعتذاراته الشّديدة التّهذيب ، وكان ينسب تأخّره بالطبع إلى سوء تنظيم المواصلات ، لكنّ المدير لم يكن يقبل هذه الاعتذارات ، فيبادر إلى كتابة تقرير مفصّل ، بحقِّ المعلّم ويرسله برفقة الاستجواب ، إلى المديرية ، مع اقتراحات عديدة ، منها إعادة
الأستاذ " عدنان " إلى الخدمة في الرّيف ، إلى جانب الحسومات من راتبه .
وكان المدير الذي يتظاهر بعشقه للنظام، يسجّل ملاحظات التّأخير ، في دفتر الدّوام ، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه .
ضاق بمديره وتقاريره ذرعاً ، وفكّر بتقديم استقالته ، لكنّ دموع زوجته ، ومنظر ابنتاه الصّغيرتان منعاه من اتّخاذ القرار ، فماذا يمكن له أن يعمل إن استقال ؟! .
واليوم وصل متأخراً كعادته ، يبدو منزعجاً بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتبه الذي قبضه أمس ، وما كاد يدلف إلى صفّه ، حتّى اقتحمه الآذن " عبد الفتاح " ، حاملاً الاستجواب الأزلي :
- ( بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان ؟! ...) .
تناولَ الورقة بعصبيّةٍ واضحةٍ ، ولم تُخفَ هذهِ الحركة على " عبد الفتّاح " بالطبع ، فقد تمكّنَ من رصدها وحفظها ، جلس المعلّم خلف طاولته ، وشرع في الإجابة ، بعد أن تجرّأ وأشعلَ سيكارة ، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه الآذن وعلى
عينيهِ الثّعلبيّتينِ ، ولم يعرف ما يفعل .. هل يهرع إلى السّيد المدير ، ويطلعه على ما يحدث ؟!.. أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه ، لكنّه في النّهاية فطنَ إلى ضرورةِ البقاء ، كي لا تفوتهُ أيَّة حركة من تعابيرِ وجهِ المعلّم ، الذي شرع في الرّد :
- السّيد مدير المدرسة ، المحترم :
نعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم ...
أيقظتني زوجتي كالعادةِ ، كان الفطور جاهزاً إلى جواري ، ازدردتُ لقمتينِ على عجلٍ ، ثمّ أشعلتُ سيكارة ، لأنفثَ دخّنها على رشفاتِ الشّاي السّاخنة ، كانت زوجتي تهمُّ بارتداءِ ملابسها ، لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى ، وقعت عيناي عليها ،
فأثارتني ، مددّتُ يدي وشددّتُها ، طوّقتها بذراعيّ ،حاولت أن تتملّصَ منّي ، جذبتها بقوّةٍ ، قالت :
- سنتأخّر .
قلتُ :
- طُز .
- سيقطعونَ عنّا الرّاتب .
هتفتُ :
- طُز .
صاحت :
- ومديركَ .. ومديرتي !!! .
أجبتُ :
- طُز .
- سترتفع بنا التّقارير .
- طُز .
احتضنتها وصراخها ينبعث :
- مديركَ يا عدنان .. ومديرتي .. لن يرحمانا اليوم .
وكنتُ أهمسُ كالمحمومِ :
- طُز منهم .. واللعنة عليهم .. وعلى مدارسهم ، وتقاريرهم ، وأذانهم .. فليطردونا ، وليقطعوا عنّا الرّاتب ، بل ليقطعوا أعناقنا.. لكنّي لن أترككِ تفلتينَ منّي .
وهكذا ياسعادة المدير المبجٌل ، أمضينا ربع ساعة من أروع لحظات العمر ، استرجعنا خلالها تلكَ الأيّام الجّميلة ، فأنا يا جناب المدير ، كثيراً ما كنتُ أغفو ، قبل أن تتفرّغ إليّ زوجتي بسببِ طفلتينا ، أغفو وأنا على جمرِ الانتظار ، لأنّكَ
يا جناب المدير ، سرعانَ ما تبرز أمامي لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً ، والاستيقاظ باكراً ، لألهث خلف الحافلات .
أعترفُ بأنَّ سبب تأخّري اليوم ، هو الاستهتار منّي واستسلامي لشهوتي ، ويمكنكَ يا جناب المدير ، أن تفعل ما تراه مناسباً ، وليس بإمكاني سوى أن أردّد لجنابكم :
- طُز .. والسٌلام .
وقرأ المعلّم " عدنان " الكلمة الأخيرة بتلذّذ عالي النّبرة. ففتحَ الآذن " عبد الفتّاح" باب الصّفّ بقوّةٍ ، وخرجَ مذعوراً ، مسرعاً ، راكضاً ، لاهثاً ، وكان الممرّ الضّيق الطّويل ، وبوابات الصّفوف ، والدّرج المؤدي إلى الإدارة ، وسائر جدران المدرسة
والمقاعد ، وقطع الطّباشير ، وكلّ مافي المدرسة من أثاثٍ ، تهتفُ خلفَ الآذن ، وبصوتٍ جماعي ، قويّ ، يشقُّ عنان الصّمت ، تلك الكلمة التي ارتفعت ، حتّى ارتطمت بعيون السّيد المدير، وهو يقرأها فاغراً فمه على مصراعيه :
- طُز .. طُز .. طُز .