قراءة في نص " مرآة البوح " للشاعرة السورية أميرة إبراهيم
قراءة / الاستاذ حمد حاجي
مقدمة
=======
ينطلق تحليلنا من مركزية السؤال الشعري اذ ان ما يلفت الانتباه أن القصيدة تسير على حد فاصل ما بين ايقاع الشعر وجمال التصوير المشهدي اذ هو يستلهم معطيات كلا من (الايقاع وجمالية المشهد) في الصورة والمشهد واحداث اللقطات الشعورية، فينجم عنها مزيج تشعيري مدهش في المشهد والصورة معا
كيف أجادت الشاعرة القصيد بالمشهدية وكيف لفتت المشهد الى تجويد الصورة..؟
==============
أولا - البنية الشعرية للمشهد
===============
...........................ورد بالاستهلال ما يلي :
ياظلّ
وحيدة مثلكَ أتلمّسُ
مرآةَ البوحِ
أبكي أحلامًا
أخذتها رياحُ الغربة
منْ شدّةِ الوجدِ
تطايرتْ شظاياها
ومازالَ النبضُ
على قيدِ الشّوقِ
==========
أ- معمار الصورة والمشهد :
=========
حين نلاحظ المشاهد بهذا المقطع نرى انه:
تتعدد فيها أنظمة الوعي التصويري، ((الانا الغريبة: وحيدة مثلكَ أتلمّسُ ../ مرآةَ البوحِ )).
وتتكثف الصور وتتوسع نطاقات الايقاع مع استدعاء الطبيعة... (( الرياح/ : أخذتها رياحُ الغربة)).
لتشمل كيفيات تقديم تلك المشاهد شعريا.. (( الاستمرارية: مازالَ النبضُ)).
اذ تصبح كما لو كانت زومات لكاميرا.. ((تطايرتْ شظاياها )).
ويلعب النداء دورا هاما في تصوير المشاهد .. ((ياظلّ )).
تستقصي الشاعرة الصورة وتشكيلها من زوايا نظر، سواء حين لجأت الى الدات والى الطبيعة أو حين حاولت التركيز على إعطائها مدلولات متعددة متمثلة في ذلك التجاور السياقي الدلالي المختلف، أو بترديدها كما لو كانت لوحة من الزخرف او منمنمة من الأرابيسك تتواتر في خلفيته ذلك التركيب للمشاهد أوهو ألوان لتلك اللوحات اللفظية التي تبرز المشهد وما فيه من بهاء طبيعي تصويري..
..................................
ب - تجاوز الموجود المشهدي
..................................
هذا المساء
أجمعُ ودّ اشتياقي
ورعشة روح ...بحروف
أنتظرُ مرورَ عينيك
حينها..
يتنفسُ الوتينُ
ويذوبُ الفؤادُ
تتلمس الشاعرة تلك المشاهد بالبحث عن إيقاع ايقاع مغاير للوجود ذاته..( الشاعرة حينا تقتفي درامية المشهد بالانتباه الى رتابة الايقاع وحينا تبحث في تعدد أشكال هذا الايقاع وتمايزه...)
عبر الكشف الدائم عن الشعريات الكامنة في أشياء العالم..
حينا تقول:
أجمعُ ودّ اشتياقي
وحينا تردف قائلة: أنتظرُ مرورَ عينيك
==== من خلال المقطع ذاته
وقع صياغة المشهد الشعري صياغة بالدواخل الباطنية، كما لو كان حلميا.
لا تقف المشاهد هنا عند حدود العلاقات الأولى للأشياء(صورة غرييب ينتظر المساء ) بل تنبذ المعهود التصويري كلية وتسعي لحضور الايحاء الغائب (الحلمية في البوح [بوح عاشقة// استلهام بما تشَعَرْ يؤيده المقطع الشعري التالي: رعشة روح/يتنفسُ الوتينُ/ ويذوبُ الفؤادُ..])، بمعنى أن المشهد يتأسس من خلال النقاط الناقصة والافكار التي يكملها القارئ اي عبرذلك المشهد الموحى به ذلك الذي حذف( ما هو جدا محذوف، وعبر ما هو حقيقة مغيب) وليس عبر ما هو حاضر من تلك كلمات .. وبذلك أوجدت القصيدة شيئا من الادراك الحسي يقدر بجدوى ملامسات الوعي الداخلي للكلمات وما يثيره من قيمة قصوى في نقل مشاهد الوجود التي هي مشاهد الذات ومرئياتها،
يتنفسُ الوتينُ
ويذوبُ الفؤادُ
هكذا بلور المشهد المقدم تجاوزا واضحا للمشهد من ظاهر الى حلم مشهدي..
(تلك الحلمية المشهدية من ذلك نذكر الحميمي منها ([مازالَ عطركَ ساهرًا في دمي]) والمأنوس من مشاهدها ([أسمعُ الهمسات]) والصغير في حجمها([لاصوتَ إلا صداك]) والثانوي في اعتبارها([رغمَ الضجيج حولي]) .
ذلك أنه كما يقول ادونيس الأشياء الصغيرة هي ايضا الأشياء الكبيرة في الاشتغال الشعري..
=================
ثانيا : تجويد الصورة الشعرية :
=================
أ- تجويد الصورة بالسؤال :
ا=================
قلّي بربك..
ماذا لو لملمتْ يداك
بعض نبضاتي..؟
أترانا نعزف لحن لقاء..؟
ا==========
الشاعرة بهذا المقطع تصهر القصيد في مسار شعري تصويري يحتفل بالسؤال الفلسفي
ذلك السؤال الباحث عن جوابه ليتجول الى سؤال من جديد ====
السؤال يبدا من([قلّي بربك.. ]) قد كان سافر السؤال وظل يدرج عبر أمكنة الروح بغاية أن يتجاوز المشهد المالوف لغاية الاتيان بالصورة ناصعة غير باهتة من خلال تلك الأمكنة المحسوسة ([ هذا المساء/ أدمنُ اللّيلَ]).
================
ب- التجويد بالاغراق بالتفاصيل :
================
تتجول البصيرة الشعرية عبر تفاصيل كانت الذاكرة والذهن تتفرسان في محسوسيتها فمن /النبض/ الى رعشة الروح ..تنقل الشاعرة ذلك المحسوس الى مجرد / الروح/ ، وتفاصيل الواقعي الى دلالات عقلية. انظر هذا المقطع
وداخل شرياني... (يمثل واقعا شريان باليد )
غمستُ هواك..( يتحول ليصير منقعا واناء يحوي طلك العظيم الهوى والغرام والصب والصبابة..)
وهذا كله من عمل شيطان الشعر انه شعرية الصورة .
ج - الدلالة والايحاء :
ــــــــــــــــ وذلك من خلال تشظي اللغة بالمتن النصي اذ تتوزع اللغة شظايا..عبر قنوات ابداعية...
فلئن كان النداء = يا ظل = يمثل الايقاع العتبة الأولى لفهم النص وتشظي اللغة بذاكرة المتلقي والتفاعل معه،
فانه كان بمثابة
محامل لذات الايقاع ودوزنة لموسيقى النص وشحناته الدلالية والإيحائية هي وحدها مفتاح المحتوى وبؤرة تركيز مخيلة القارئ ..
فما من اثارة لتوقعاته بسيطة كانت او كبيرة فانها فاعلة فيه محققة لوظيفة تواصلية .
وقد حرصت الشاعرة على تخير الصوت والايفاع والموسيقى بين الموجز والمكثف لمناشط النص..
خاتمة
=======
هكذا قدم القصيد مألوفا وفارقه لغير المألوف فكان رؤية شعرية وقدم مشهدا من تفاصيل بالحياة جديرة بأن نحياها فكان الموضوع بالشعري فينا.
وقدمت الشاعرة واقعا ليس نقلا، وليس جسرا او معبرا، وليس مجرد مرآة عاكسة. وانما افقا شعريا جديدا خلاقا نسجته تلك الحواس وصهرته بالبؤرة الشعرية لتؤسس تلك الذوات التي تصهر أشياء الوجود في محرقة المخيلة للتحاور والوفاق مع مجمل الكائنات والأشياء القصيد صورا ومشاهد عبارة عن محاورة جمالية، تتقصد في إيحاءاتها الأولى الوقوف على تفاصيل الوجود وادراك الكينونة .. وهذا مقصد الشعر الذي يختلف فيه عن النثر والنص السردي..
نص بديع راق لي شكرا للكاتبة الشاعرة
النص :
=======
ياظلّ
وحيدة مثلكَ أتلمّسُ
مرآةَ البوحِ
أبكي أحلامًا
أخذتها رياحُ الغربة
منْ شدّةِ الوجدِ
تطايرتْ شظاياها
ومازالَ النبضُ
على قيدِ الشّوقِ
هذا المساء
أجمعُ ودّ اشتياقي
ورعشة روح ...بحروف
أنتظرُ مرورَ عينيك
حينها..
يتنفسُ الوتينُ
ويذوبُ الفؤادُ
غائبا...؟ لاااا
مازالَ عطركَ ساهرًا في دمي
يشقُّ طريقه في أحلامي
أدمنُ اللّيلَ
أسمعُ الهمسات
تقتاتُ على سهري
أهرعُ إليك
رغمَ الضجيج حولي
لاصوتَ إلا صداك
وداخل شرياني
غمستُ هواك
قلّي بربك..
ماذا لو لملمتْ يداك
بعض نبضاتي..؟
أترانا نعزف لحن لقاء..؟