الشاعر
السوري الشاعر السوري وليد الزوكاني في ضيافة
مجلة دار العرب :
الشعر
والأدب والفن عموماً مهموم بقضايا الإنسان في منطقتنا منذ أكثر من مئة عام
حاورته
– رانيا بخاري
ضيفنا شاعر وكاتب وصحفي من بلاد الشام سوريا
وطن الشعر والأدب والجمال ، له محطات عمل عديدة
ولعل ابرزها : كاتب مقال في جريدة "الراي" الكويتية خلال أعوام 1998 –
2002 ، وكتب العديد من المقالات والدراسات في المجلات والصحف الكويتية مثل : صحيفة
القبس – صحيفة الراي - صحيفة الطليعة – مجلة الكويت – وغيرها، وله العديد من المقالات
والقصائد في المواقع الثقافية على شبكة الانترنت ، لديه عدد من الكتب والإصدارات
/ "ثلاث ليال لقمر أريحا" ديوان
شعر صدر عن دار الطليعة الجديدة في دمشق – 1995 .... "مرايا منحنية" ديوان شعر صدر عن دار
اسكندرون في دمشق – 2007 ... "منذ ماء كثير" ديوان شعر صدر عن دار اسكندرون
في دمشق - 2007..."لا تثق بالجهات" ديوان شعر صدر عن دار "أفاتار"
في القاهرة – 2019.... : ( مجلة دار العرب الثقافية ) وعبر
أثير الفضاء الأزرق ضيفت الشاعر السوري وليد الزوكاني وحاورته لتخرج بالمحصلة التالية:
*لا
تثق بالجهات عنوان يفتح باب تأويل القارئ للتكهن والاستفهام، وكذلك يشي بقلق وريبة
الذات الشاعرة هل لك ان تضئ لنا خطاب العنونة؟
-عنوان
الكتاب هو عنوان إحدى القصائد المنشورة في الكتاب، ومن يقرأ هذه القصيدة يدرك لماذا
وضعت عنوانها على غلاف الكتاب، في الحقيقة لقد اختلف المشهد واختلفت الرؤية كثيراً
منذ انطلاقة الربيع العربي، قبل ذلك كنا مليئين بالأمل فأصبحنا مليئين بالخيبة، فحين
لا تنبت حقول القمح، وتتكاثر المنابر الدينية كالفطر، وحين نكون مشغولين إلى هذه الدرجة
بمفردات المخيال الجمعي القديم، وبالموت وبأفلام العراة، وحين يتحول العقل إلى صندوق
لقمامة البلاغة، ويصبح البيان والتبيين مجرد زركشة قروسطية، وحين يمكن أن يموت الإنسان
لمجرد أنه يعبّر عن رأيه، أو يعبر الطريق، وحين يتفرغ جزء كبير من المثقفين لحراسة
المقابر والأفكار البالية، عندها من حقنا أن نقول: لم نعد نثق بالجهات على هذه الأرض.
إنه
ليس مجرد القلق، وبالتأكيد ليس ريبة ذاتية بل واقع حقيقي.
هل يستطيع
أن يتظاهر أحد اليوم من دون أن يكون عرضة للقتل؟ حسناً
يمكن أن نموت، وقد نجد أحداً يحتج على موتنا، لكن سنجد كثيرين من المثقفين المعلبين
في قنوات ديزني لاند تلومنا على موتنا، على طيشنا، على أحلامنا التي كنا ضحية لها. ببساطة
هذا هو خطاب العنونة، أردت أن أقول لكل شخص هنا: إياك أن تثق بالجهات.
** بروز
صوت الشاعر بدلاً من صوت الجماعة هل يعنى ذلك مغادرة الشاعر للوجدان الجمعي؟
-الشاعر
لا يغادر الوجدان الجمعي أبداً، ولم يكن صوت الجماهير في القصيدة يوما دلالة على تبنيها
للوجدان الجمعي، ما يشعر به الشاعر بصدق، والأديب عموماً، هو شكل من أشكال الوجدان
الجمعي، غالبية الشعراء العرب لا يكتبون لمجرد وصف وردة، أو غيمة، أو عيني حبيب، غالبيتهم
يكتبون عن آمال وأحلام وخيبات، والشعر الحديث لا يحتمل كثيرا الوصف المُترف، إنه طريقة
تفكير مختلفة، زاوية أخرى لرؤية العالم حولنا وتفكيكه وبنائه من جديد، وهذا صلب الوجدان
الجمعي.
مهمة
الشاعر قراءة الواقع والحلم بطريقة مختلفة، إنه التعبير العميق والمختلف عما يتوق إليه
الناس، كل شاعر مشروط بزمنه وبمجتمعه وقضاياه، وهو بشكل من الأشكال أحد حراس الحلم،
حلم الإنسان الحقيقي الذي نشكل بمجموعنا حكمته العميقة، وإرادته وتوقه.
**
الصورة الشعرية كوجود بنيوي معقد كيف تتشكل في بنية خطابك الشعري. ؟
-قد
أكون من الشعراء الذين لا يهتمون بالصورة الشعرية بقدر اهتمامهم بسياقات مختلفة للتعبير،
فإذا كانت الرياضيات لغة مختلفة يمكن من خلالها رؤية الكون بطريقة أخرى، لدرجة أن ما
تراه هذه اللغة يبدو صادماً لما ألفناه وصدقناه، فالشعر كذلك لغة مختلفة، والتعبير
الشعري برأيي هو محاولة سبر الأشياء وإعادة الفهم بطرق أخرى أكثر التصاقاَ بجوهر الواقع
وأكثر تعبيراً عن التوق الإنساني، خذي لغة الأسطورة مثلاً، ليست واقعية، لا تقول الحقائق
التي نعرفها، لكنها تقدم بكثافة شديدة معرفة واسعة وأكثر عمقاً، هكذا هو الشعر.
تتشكل
الصورة في الشعر من خلال السعي للتعبير المختلف، الصورة المنحوتة والمكتوبة لذاتها
صورة فارغة، لكنها تصبح حية ومشعة عندما تولد في سياق التعبير، ليس بصفتها نوع من البلاغة
وزخرفة البيان بل بصفتها إحدى أدوات الكشف، لذلك من يقرأ نصوصي يجدها تنتقل ببساطة
من الشعر إلى النثر في فضاء قصيدة النثر، التي تطورت نتيجة التجارب التي أغنتها وابتعدت
عن شروطها الأولى، لتصبح مفتوحة أكثر على أفق واسع من الكتابة والتعبير.
* الشعر
ذاكرة فردية محمّلة بطابع أنوي، وصراع محتدم في اللاوعي بين الذات والواقع،هل هو محاولة
لخلق توازن من خلال إبراز الذات ومنح الأنا مساحة على متن الخطاب الشعري. ؟
-ليس
من وظيفة الشعر إبراز الذات أو تكريس الأنا، ولا ينجح بذلك، قليل من المال كفيل بإبراز
الذات إذا ما أراد صاحبه ذلك أكثر بكثير من كتابة الشعر، وأسهل بالطبع، لا يكتب الشعراء
لأنهم يريدون إبراز ذواتهم، بل لإبراز خصائص مجتمعاتهم وطموح الجماعات والأجيال التي
ينتمون إليها، الشعر أحياناً صرخة تعبر عن حلم مكسور، وهو حلم جماعي بالضرورة، القصيدة
التي تعبر عن حلم فردي فقيرة ولا تُقرأ إلا إذا لمس فيها الاخرون ذواتهم أيضاً، وهنا
تصبح معبرة عن حلم جماعي يتشارك فيه الكاتب والقارئ.
أما
مسألة الذاكرة فهي فردية بالتأكيد، فلا وجود لذاكرة جماعية إلا بصفتها ذاكرة يحملها
عدد كبير من الأفراد وهي بالنسبة لكل منهم ذاكرته الفردية، أما الصراع بين الذات والواقع
فهو حقيقي، لكنه ليس صراع الذات المفردة الواحدة، بل كل الذوات مع واقع متوحش معادي
للإنسان، ولك فيما يحدث حولنا في البلدان العربية خير دليل.
* الفكر
اليساري ساق كثيراً من الشعراء إلى أدلجة الكتابة، فهل كان ذلك محاولة قصدية إرادية
لتميز الشاعر كي يغدو مغردا خارج سرب الجماعة؟
-أولاً
الجماعة ليست قطيعاً، وليست رعية، وليست سرباً، ولا يوجد خروج عن هذا السرب، إلا إذا
كان المقصود خروج على وعي الجماعة، أي الوعي الموروث والمكرس، وهذا خروج محمود بل ضروري،
ولا يكون الشاعر شاعراً ولا المثقف مثقفاً إلا إذا غرد خارجه، فما معنى أن تكون مثقفا
إن لم تكن ناقداً؟
التغني
بالأطلال انتهى منذ أكثر من ألف عام، والتغني بالأمجاد ميزة المجتمعات الاستبدادية
والمتخلفة، وحده النقد هو التنوير، وكل الشعراء الكبار في تاريخ البشرية كانوا نقاد
عصرهم، وثائرين أمام العقول البالية.
أما
مسألة الفكر اليساري واليميني فهذا من مخلفات الحرب الباردة، وهي تصنيفات سياسية استبدادية
تجاوزها الواقع، اليوم غالبية مثقفي العالم يتحدثون عن فكر إنساني جامع، يضع الإنسان
وهمومه وقضاياه في المركز، ولذلك فليسقط كل ما لا يقدم حلاً لمشاكل الإنسان، من المؤسف
أن يصنف الفنانون أو الشعراء أو العلماء انطلاقاً من ثنائية اليسار واليمين والتي هي
تصنيفات سياسية عابرة في أساسها. ولاحظي أننا غالياً لا نطلق على الأطباء هذه التصنيفات،
ربما لأن الناس لن تستمع لنا فهي بحاجة للطبيب، أو ربما نحسب حساباً لألم مفاجئ لا
يرحم!.
* مبدأ
استقلال القصيدة عن مبدعها يعد من أبرز خصائص الشعر الحديث، فهل تقنية القناع استطاع
الشاعر من خلالها التجرد من ذاتيته؟
-عموماً
الذاتية ليست تهمة، ولا أعتقد أن ثمة علاقة بين محاولة التجرد من الذاتية وبين ما يقصده
السؤال.
وفي
العموم، الرمزية أو تقنية القناع وجدت أساساً لمقاومة استبدادٍ متوحش، سواء استبداد
سياسي أو ديني أو استبداد فئة اجتماعية قد تعتبر التعبير عن الرأي نوعا من الكفر أو
التعدي عليها، ما نكتبه هنا لا يستعير أقنعة ولا رموزا، وفي حال بدا لبعض القراء كذلك
فسببه التكنيك الجمالي الفني، لا شعر بدون جمال، طبيعة الشعر الأساسية هي الجمال، ولذلك
قد تعد المباشرة أدباً إذا كانت كذلك لكن لا تعد شعراً، وعادة هؤلاء يدارون مباشرتهم
وسطحيتهم بأوزان وقواف لأنها آخر ما يتبقى لهم من تقنيات لإضفاء بعض من الجمال المصطنع.
أما
الشعر الحديث، وعلى الأخص قصيدة النثر فأدواتها الجمالية نابعة من داخلها، من طرائق
التعبير وعمقه، من قدرتها على البحث والمعالجة.
وبعض
القراء قد يرون النص على أنه يعاني من الترميز ووضع الأقنعة لأنهم لا يستسلمون للنص،
ولا يستطيعون مغادرة افتراضاتهم المسبقة، كأن يفترض القارئ أن المقصود هنا هو نظام
سياسي بعينه أو موقف عقائدي لا يريد الشاعر إيضاحه خوفاً من ردة فعل أو اتهامات معينة،
وهذا في حال حدث فهو مشكلة في القراءة وليست مشكلة النص، ما تريده القصيدة وما تقصد
إليه موجود فيها، وإن بدت تشير إلى جملة أشياء وليس إلى شيء بعينه فهي كذلك، الوعي
الشعري قد يرى الترابط بين أشياء بعيدة ويعبر عنها بلوحة تتداخل فيها هذه الأشياء.
الكل
عابرون، السياسيون وأفكار الطغيان والمتسلقون والطفيليون وحراس المقابر، الشعر يحاول
الوصول إلى العمق للتعبير عن الجوهر، عن توق الإنسان ووجده، وأرى أن كل الحواجز التي
تغلق الطرق في حقيقتها حاجز واحد أحاول أن أفهمه وأعبر عنه.
** هنالك
اتهام مفاده أن الشعر بات مجرد ملامسة للشعور الميتافيزيقي وليس غوصاً في أعماقه؟
-نعم
قد يكون ذلك صحيحاً، فالمريض الذي يعاني من آلامه في المستشفى لا ينتبه عادة إلى هندسة
بنائها وديكوراتها، وقد لا يرى لون الجدران حوله.
ما أريد
قوله أن الشعر والأدب والفن عموماً مهموم بقضايا الإنسان في منطقتنا منذ أكثر من مئة
عام، وفي العقود الأخيرة بات وجود هذا الإنسان مهدداً، وفي السنوات الأخيرة أصبحت الأوضاع
أكثر فداحة والآلام يومية وعميقة، وهنا تغيب الميتافيزيقا ولا تشغلنا، وفي أحسن أحوالها،
في حال ظهرت في النص تصبح واحدة من أدوات التعبير وليس موضوعاً له.
قد ينشغل
الأدب والشعر بالميتافيزيقا وبعلل الوجود حين يكون هذا الوجود آمناً، لكن حين يصبح
وجودنا المادي مهدداً ننشغل بالوجود نفسه، بوجودنا، ويغيب التفكير بالماورائيات، إنه
ترف لم يعد يقدر عليه الشعراء العرب.