إقلاق راحة ... قصة / مصطفى الحاج حسين
استطعتُ أن أنجو ، انطلقتُ راكضاً ، بعدَ أن
تسللتُ على أطرافِ أصابعي ركضت،ُ بسرعة
جنونية ، يسبقني لهاثي ، يربكني قلبي بخفقانهِ ،
يعيقُ الظّلام من سرعتي ، خاصة وأنَّ أزقتنا مليئة
بالحفرِ وأكوامِالقمامة .
أخيرا وصلتُ ، على الفور أيقظتُ الشّرطة ،
تثاءبوا ، تمطّوا ، رمقوني بغضبٍ ، وحينَ شرحتُ
لهم ما أنا فيه ، أخذوا يتضاحكونَ ، سألني الرقيب :
ـ هل أنتَ تهذي ؟!..
أقسمتُ لهم بأنّي لاأهذي ، ولستُ في حلم ، بل ما
أقوله حقيقة ، وإن كانوا لا يصدقونَ فعليهم أن
يذهبوا معي ، ليشاهدوا بأعينهم ، وليشنقوني في
حال كان كلامي كاذبا .
لكنَّ المساعد المناوب ، أخبرني ، بعد أن تظاهر
بالاقتناع :
ـ نحن لا نستطيع تشكيل دورية للذهاب معك ،
إلاً بعد أن يأتي سيادة النقيب .
وحينَ سألته ، عن موعدِ مجيءِ سيادة رئيس
المخفر ، أجاب :
ـ صباحا .. بعد التاسعة .
ولولا خوفي الشّديد من رجالِ الشّرطة ، لكنتُ
صرختُ بوجههِ :
ـ لكنّي لا أستطيع الإنتظار ، إنّ الأمرَ غاية في
الخطورة .
كبحتُ انفعالي ، وسألته برقةٍ واحترام :
ـ ألا يوجد هاتف في منزل سيادته ؟ ..
صاح المساعد ذو الكرش المنتفخة :
ـ أتريد أن نزعج سيادته ، من أجلك أيّها
الصعلوك ؟.!.
وتمنيت أن أرد :
ـ أنا لست صعلوكاً ، بل مواطناً ، أتمتع
بالجّنسية ، والحقوق كافة ، ولكنّي همست :
ـ حسناً يا سيدي ، هل لك أن تدلّني على منزل
سيادته ، وأنا أتعهد لك بالذّهاب إليه ، والحصول
على موافقته بتشكيل الدّورية .
وما كدتُ أنهي كلامي ، وأنا في غايةِ التهذيبِ
والاحترام ، حتى قذفني المساعد بفردةِ حذائهِ
المركونِ قربَ سريره ، وبصراخهِ المخيف ، قائلاً :
ـ أنتَ لا تفهم ؟!.. وحقّ الله إنّكَ "جحِش " ..
أتريد أن تذهبَ إلى بيته ؟!!.. يالشجاعتكَ !!!..
انقلع .. وانتظر ، وإياكَ أن تعاود ازعاجنا .. قسماً "
لأحشرنك " بالمنفردة .
جلستُ أنتظر ، لم أستطع الثّبات ، أخذتُ
أتمشى بهدوءٍ شديدٍ ، عبرَ الممرّ الضّيق ، وأنا أراقب
عقاربَ السّاعة .. الدقيقة ، كانت أطول من يوم
كامل .. وعناصر الشّرطة عادوا يغطّونَ في نومٍ
عميقٍ ، اكتشفت أنّ جميعهم مصابونَ بداءِ الشّخيرِ ،
صوتُ شخير المساعد أعلى الأصوات ، رحتُ أتخيّل
مقدار قوّة الشّخير عند سيادة النّقيب .
تململتُ ، ضجرتُ ، يئستُ ، فقدتُ قدرتي على
الصّبرِ ، فصرختُ :
ـ يا ناس أنا في عرضكم ....
رفعَ الشّرطي رأسه ، حدجني بعينينِ ناعستينِ ،
وزعقَ :
ـ اخرس يا عديمَ الذّوق .
خرستُ ، وانتظرتُ ، عاودتُ المشي في الممرِّ ،
ومراقبةِ الثّواني ، دخّنتُ مالا يحصى من السجائرِ ،
أحصيتُ عددَ بلاط الممرّ عشرات المرّات ، طالَ
انتظاري ، تجدّدَ وتمدّدَ ، ضقتُ ذرعاً ، نفذ صبري ،
وطلعت روحي ، اكتويتُ بنار الوقت ، قلقي
يتضاعف ، فمرور الوقت ليس من صالحي ، عليّ أن
أفعل شيئاَ .. هل أعود بمفردي ؟.. لكن ، يجب أن
يكون أحد معي ، شخص له صفة رسمية ،
لكن ما باليد حيلة .. فخطر لي أن ألجأ إلى أخي ،
فهو أقرب الناس إليّ .
خرجتُ من المخفرِ خلسة ، هرولتُ ، ركضتُ ،
وكنتُ أضاعف من سرعتي ، حتى أخذتُ الهث ،
العرقُ يتصبّب منّي غزيراً .
قالت زوجة أخي " عائشة " ، بعد أن رويت
حكايتي لأخي :
ـ نحنُ لا علاقة لنا بالمشاكلِ .. عد إلى
الشّرطة .
خرجتُ من بيتِ أخي " عبدو " ، والدّموعُ تترقرقُ
في عينيّ ، تذكّرت كلام المرحوم أبي :
ـ الرجل الذي تسيطر عليه زوجته لا ترج منه
خيراً .
توجهت إلى أبناء عمي ، طرقت عليهم
الأبواب ، وتوالت الأكاذيب :
ـ [ محمود ] .. ذهب إلى عمله باكرا .
ـ [ حسن ] .. مريض ، لم يذق النوم .
وبخشونة .. قال [ ناجي ] :
ـ أنت لا تأتي إلينا ، إلاّ ووراءك المصائب .
[ يونس ] ابن عمتي ، أرغى وأزبد ، أقسم وتوعد ،
لكنه في النهاية ، نصحني أن أعود للمخفر ، حتى لا
نخرج على القانون .
قررت أن أعود إلى حارتي ، هناك سألجأ إلى
الجيران ، قد تكون النخوة عندهم ، أشد حرارة من
نخوة أخي ، وأبناء عمي ، والشرطة ، ولمّا بلغت
الزقاق ، صرخت :
يا أهل النخوة الحقوني .. الله يستر على
أعراضكم .
فتحت الأبواب بعجلة ، خرج الناس فزعين ،
التفوا حولي ، يسألوني ، وأنا أشرح لهم من خلال
دموعي ، لكن جاري [ فؤاد ] ، أخرسني :
ـ نحن لا علاقة لنا بك وبزوجتك ... اذهب إلى
الشرطة .
عدت إلى المخفر ، وجدت المساعد ونفرا من
العناصر مستيقظين ، واستبشرت خيرا ، حين
ناداني :
ـ هل معك نقود أيها المواطن ؟.
ـ نعم سيدي .
ـ إذا اذهب وأحضر لنا فطورا على ذوقك ،
حتى ننظر في أمرك .
دفعت معظم ما أحمل في جيبي ، تناولوا جميعهم
فطورهم بشراهة ، تمنيت أن أشاركهم طعامي ،
فكرت أن أقترب دون استئذان ، أليست نقودي ثمن
طعامهم هذا ؟.!.. وحين دنوت خطوة ، لمحني
المساعد واللقمة الهائلة في فمه ، فأشار إلي أن
أقترب ، سعدت بإشارة يده ، واعتبرته طيب القلب ،
نسيت أنه ضربني ليلة أمس ، بحذائه الضخم ،
وحين دنوت منه ، أشار :
ـ خذ هذا الإبريق واملأه بالماء .
اشتعل حقدي من جديد ، اشتد نفوري منه ، ومن
عناصره .
ها هي الساعة تتجاوز الحادية عشرة ، ورئيس
المخفر لم يأت بعد ، ولما اقتربت من المساعد
مستوضحا :
ـ يا سيدي .. لقد تأخر سيادة النقيب .!
رمقني بغضب ، وصاح :
ـ لا تؤاخذه ياحضرة ، فهو لا يعرف أنك
بانتظاره .
في الثانية عشرة وسبع دقائق ، وصل النقيب ،
هرعت نحو مكتبه ، لكن الحاجب أوقفني :
ـ سيادة النقيب لايسمح لأحد بالدخول ، قبل
أن يشرب القهوة .
المدة التي وقفتها ، تكفي المرء أن يشرب عشرة
فناجين من القهوة .. ولما هممت بالدخول مرة
أخرى ، أوقفني الحاجب من جديد :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ، قبل أن
يوقع البريد .
انتظرت ... دخنت لفافتين قبل أن أتقد م ، لكن
الشرطي باغتني بصياحه :
ـ سيادته لا يقابل أحدا قبل أن يطلع على
جرائد اليوم .
لاحت بالباب فتاة .. شقراء .. ممشوقة القوام ،
لا تتجاوز العشرين ، عارية الفخذين ، والكتفين ،
والصدر ، والظهر .. تضع نظارة ، وتحمل حقيبة ،
تجر خلفها كلبا غزير الشعر ، مثل خاروف .. نبح
عليّ بوحشية ، راحت تخاطبه بلغة لم أفهمها ،
اتجهت نحو مكتب النقيب ، انحنى الشرطي ، فتح
لها الباب ، دلف الكلب للداخل ، ثم تبعته ، دوت في
أذنيّ عبارة حفظتها :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ...
لكنني مددت رأسي ، وحاولت الدخول خلفها ،
جذبني الحاجب من ياقة قميصي ، وثب الكلب
نحوي ، نابحا بعصبية واحتقار :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ، قبل أن
ينصرف ضيوفه .
أدخل الشرطي إليهم ثلاثة فناجين من القهوة ،
سألت نفسي :
ـ هل يشرب كلبها القهوة أيضاَ ؟؟؟!!!...
طال انتظاري ، الضحكات الشبقة تتسرب من
خلف الباب ، والشرطي في كل رنة جرس ، يدخل
حاملا كؤوس الشراب ، الشاي ، الزهورات ، المتة ،
الكازوز ، الميلو ، الكاكاو ، وإبريق ماء مثلج ،
وأخيرا .. دخل حاملا محارم [ هاي تكس ] ،
الضحكات تتعالى ، ونباح الكلب يزداد ، كلما نظرت
نحو الباب .
تمنيت أن يفتح الباب ، ويطل عليّ كلبها ،
حينها سأرتمي على قوائمه ، وأتوسل إليه ، ليكون
وسيطاّ لي ، عند سيادة رئيس المخفر ، لكنني
تذكرت ، فكلبها للأسف لا أفهم لغته .
وبدون وعي مني ، وجدتني أهجم نحو الباب
الموصد ، أدقه بعنف .. وأصرخ :
ـ أرجوك يا جناب الكلب ... أريد مقابلة
النقيب .
وما هي إلاّ لحظات ، حتى غامت الدنيا ، توالت
اللكمات ، الرفسات ، اللعنات .................
والنباح يتعالى ... ويتعالى .. ويتعالى .
وحين بدأ العالم يتراءى لي ، وجدت نفسي ..
ملقى في زاوية الزنزانة ، غارقا في دمي .