رحمن غرگان
فخر في زمن الادّعاء …
كتب : د . حسام الكوفي
من حسن حظي أنّني في أكثر من مرة أحضر مناقشات زملائي في اللغة العربية ،وأرى هناك فارسا فحلا يغرّد خارج سرب العادة ، ولا أكذّب حينما أقول إنني أصاب بالملل من طول اعتراض المناقشين وتكرار بعض الاعتراضات العابرة -بحسب نظرتي المتواضعة - أو التي لا تحتاج إلى تنبيه سوى الإشارة أو المرور السريع ولاسيما في أطاريح الدكتوراه .
وعلى الرغم من تخصصي اللغوي إلا إنّني شغوف بمعاني الشعر وتحليلات النقّاد المبنية على استعمالات المناهج الحديثة في خارج محيط المألوف ؛ ليُفجَأ الشاعر حينها بمعان لم تكن في مخيلته من جهة وليست غريبة عن التحليل اللغوي والنفسي والمقامي من جهة أخرى؛ لذلك نقل عن المتنبي بأنه يحيل مقاصد شعره إلى ابن جني كونه أدرى بشعره منه ؛ وهذه الحال أراها دوما في حوارات الغرگان الهادئة الدقيقة المبنية على دراية حقّة وليست ادعاء متكئا على ألقاب واهية أو مزاجات متقلّبة .
ومن مناقشاته البعيدة عن الأنا ما سمعت منه يوم أمس حينما أشكل على زميلة لنا لاستعمالها بعض الأبيات لشعراء لا يمكن وضعهم في دائرة الشعراء (المطبوعين) كونهم ينظّمون شعرا وليسوا بشعراء ؛ وأشار إلى نفسه قائلا : (وأنا لدي ديوانان ) ولا أقول إنّني شاعر ؛ وهذا القياس العلمي الدقيق ليس بغريب على عالم ناقد مثله لكن الغرابة أن يعلن هذا الأمر أمام الملأ متجاوزا خطوط الأنا التي يركبها كثير من المدّعين للعلم والمعرفة ؛ لأن أناهم لاتسمح لهم باقتطاع جزء من سعيهم لأية حجة مفترضة .
ولم تقف ذاكرتي مبتهجة عند هذا الموقف الغرگاني الوحيد بل هناك الكثير من المواقف التي تروى عن صدقه ومهنيته وتدريسه التي يضيق المقام لذكرها لكنها وسام محفور في قلوب القريبين والبعيدين .
وإذا عدت إلى مؤلفاته التي ملأت أروقة الجامعات العربية والعراقية سيكون للشعر والنقد معنى آخر ورؤية غرگانية مختلفة تأسر القارئ النابه وتثوّر تفكيره البحثي وتعيد تنظيم مقاصده الدلالية والتحليلية ؛ ليرتّبها بحسب متبنياته ويرص صفوف سطورها بما فرضته مراياه ومعانيها .
فأي فخر غير هذا الغرگان في النقد والشعر والأدب نطمح إليه ؟!.وأي تواضع بمعيّة ثقل العلم نرجوه سوى الغرگان وأضرابه من أساتيذ أجلّاء في زمن غابت فيه المقاييس واعتلت الدال بؤس الأسماء وأهلها ، واختلطت الألقاب غثها بسمينها النزر اليسير ؛ لذا لابد من أن نفخر بكل قامة علمية عراقية تؤثر على نفسها وتقدّم ما يثلج القلب وتسابق القاصي والداني لتكون في مقدمة الركب ؛ فلها ولجميع أمثالها دعاء خالص وحب .
حسام…