للموت لحن
جنان الهلالي . العراق
أولئك العقلاء الذين ينعتوننا بالجنون؛ هم من رمتنا أفكارهم وعنجيتهم في هذه المصحة النتنة. شعار كتبه فتى الگمان على جدار عنبر المصحة النفسية منذ عام دخوله المشفى . الساعة تقترب من التاسعة مساءاً يترقب نزلاء العنبر نزول الفتى الأصهب حديقة المصحة للعزف. وهم يتهافتون على نوافذهم بجلجلة ومشادات كلامية ويتدافعون فيما بينهم.. حيث يمنع نزولهم لحديقة المصحة مثل هذا الوقت؛ إلا عمار سمح له الطبيب بذلك؛ بعد أن حاول إيذاء نفسه، عندما مُنِع في المرة الأخيرة... كل مساء عندما يتحسس ميل الساعة الجدارية ثانيته الأخيرة ويتوقف عند التاسعة مساءً بالتحديد. هدوء غريب يعم المكان، صمت يخرس أفواه النزلاء، فيما ترتفع فيه أصوات نقيق الضفادع القريبة من حافات الحديقة الرطبة. يمشي بخطوات مريبة، نسيم هواء نيسان يداعب خصلات شعرهُ المنسدلة على جبينه.لم تؤثر على مزاجهُ.. المشاجرة الأخيرة مع رفقاءه في العنبر؛ حيث ضربوه بشدة بعد اتهامهم له بسرقة الدواء، وكبه في بالوعة الحمام. بدّت عليه بعض الكدمات والخدوش التي تعود على رؤيتها بعد كل مشاجرة ثم يُنهيها بضحكة هستيرية... يراقبه الحارس بصمت دون تدخل مشفق على سنهِ الصغير، الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة ربيعاً.. سيقضيها في هذه المصحة أشبه بالقبر الكبير، حيث يكبر المرضى ويشيخون، وتتدهور حالتهم، ويتم نقلهم إلى مثواهم الأخير بدون رفيق أو قريب. وهو يعرف جيداً كَذب من أسماها مصحة نفسية، فلم يشاهد أحدا تشافىى أو عاد له عقله السليم، يمكن لأن المرضى فضلوا العيش بلا عقل في عالم مجنون... توسط عمار حديقة المصحة، يحتظنُ گمانه. يلتفت إلى نزلاء المصحة وقد شاحت ابصارهم نحوه، يفتح حدقة عينيه على وسعهما، أدخل اصابع كفه بين خصلات شعرهُ. اخذ نفساً عميقاً، وضع الكمان فوق كتفه.. دغدغ أوتاره بلطف، رفع رأسهُ نحو السماء قال صارخا :إلى روح أمي المتعبة.. أهديها هذا اللحن. شعر بحركة الحارس واقترابه الفضولي، طلب منه الجلوس في حلقة المسرح الذي تخيله دماغهُ، فتح ستار أحداث العرض، رفع عمار سبابته على فمهُ يحذر الحارس.. اش... اش...
هز برأسه الحارس مبيناً له الطاعة. وقبل أن يبدأ بالعزف فكر الحارس أن يستدرج أفكاره ويسحب منه ما يستطيع من قصته الغامضة، قال بصوت أبوي : بنّي لا ََتلم نفسك أنه قضاء الله وقدره، أنت لم تقتلها هي من طلبتْ ذلك، فتح عينيه، وقد بان احمرارهما، واسترجعت ذاكرته أَحْداثاً لم يرويها مذ دخوله المشفى، تحسس من جيب بنطاله، رتبَ رِباط عنقه الأحمر الأنيق عندما تذكر أمنية والدته؛ أنه سيصبح يوما ما عازف گمان مشهور.أشاح بوجه عن الحارس ثم قال بااستداره خاطفة.موجها كلامه له:
انها الليلة الأخيرة ليلة الموت. أنتم أيها العقلاء لا تشمون رائحة الموت نحن المجانين نشعر به، أنه يقترب.. يقترب...
ابتلع الحارس ريقه.. تلعثم أجابه وجلاً :يابني قلبي يكاد ينفطر لشبابك. لماذا كل هذا اللوم وتعذيب النفس؟! أنت فعلت ماامرتك به والدتك، هذا ما قاله والدك، عندما أحضرك للمصحة.
- نعم، والدي.. وماذا أخبرك أيضاً، هل أخبرك ذلك المجحف انه عشيق الممرضة التي أحضرها للمنزل بحجة خدمة والدتي؟!
نوع من الارتباك وحركات غير متناسقة بدت عليه، يتحسس جيب بنطاله بين الفينة والأخرى، رفع عينيه الجاحظتين نحو السماء هاتفاً: ماهذه الغربة التي أعيشها، هل حقا أنتمي لهذا العالم القاسي؟! ثم أكمل حديثهُ:وقد ساءت حالتها بسبب تبادلهما النظرات الغرامية. والكلام المعسول الذي كان يوصده بقضبان القسوة، طيلة السنوات الماضية لم تسمع منه سوى الكلام البذيء، ولومها في علاماتي السيئة في المدرسة، حتى أنها كانت تتحمل الضرب بدلاً مني بحزام بنطاله النتن.. بعد عودته من ورشة عمله في تبديل دهون سيارات الأثرياء الفارهة. وكأنه يفرز كل عقد فشله الدراسي بقبضة يده السليطة علينا. هي طلبت مني أن أَنْهَى معاناتها من ذلك المرض اللعين، وأناولها قنينة الدواء، ولكن لم أعرف أنها كانت تنوي الانتحار.. أنا قتلتها أنا.. شريكها في الجريمة. ياالهي كم كبير ذلك الذنب الذي اقترفته،
أين أجد بديلاً عن ذلك الحبّ الذي يبقي قلبي نابضاً، أي حياة مضنية ستتلقفني بعدها .. فقد غرقت في بحر الحيرة والضياع. لم أطلب شيئاً مستحيلا! لم أطلب سوى حبا صادقا أبديا خالدا. أعيش في كنفه كحال بقية الأولاد. لقد فقدت والدتي يا عمّ، وزوجة الأب أدعت جنوني واتهمتنّي بقتل والدتي بعد أنْ أعمت بصيرة والدي بإسم الحب. لماذا تظلمني القلوب؟! هل ما اطلبه ضرب من ضروبِ المستحيل أم من الجنون ؟!
توقف عن الكلام فجأة فتح عينيه حتى بانت خطوط جبينه اقترب من الحارس وهمس في أذنهِ إنها هنا تريد أن تسمع اللحن. اشاح الحارس برأسه وعيناه وهو يسمع تتم الحديث...
نعم عقلك هو السبب.. تحتاج صعقة كهربائية حتى ترى العالم الآخر ياعمّ. حبيبات من الدمع تجمدت في حدقة عين الحارس حاول أن يحضنه.. تراجع للخلف. عاد يتحسس جيب بنطاله الذي بدأ منتفخاً. بدأ بعزف ذلك اللحن الحزين .. توقف الوقت حداد وإشفاق على عقول لا تستطيع أن تكف عن الظلم . في انحناءة أخيرة رَمَى الگمان أرضاً انتبه الحارس لصوت تصفيق جمهور نزلاء العنبر.. اخرج الحبيبات التي سرقها، دفعها في فمه. تدحرج عقله صارخاً سألقاها في الجنة.