قصة أمي:
بقلم خلود برهان من سوريا Kholoud Burhan
كانت أمي رسامة بارعة مولعة بالزخرفة .
تطرز وقتها بحبنا، تخطف تغاريد العصافير من الفضاء و شبابيك الجيران و أسطح البيوت الحجرية لتنسج منها ثوبا يليق بالصباح.
تمسك المكنسة صباحا لترسم على الأرض لوحةً خالية من الغبار، و تتناول الملعقة فترسم في قِدر الحساء دوائر لا نهاية لها، تستعمل السكين لتزخرف مكعبات البصل و البطاطا وسر خلطتها ابتسامة ،
عندما كان أبي يغادر للعمل؛ كانت أمي تتحول إلى ساحرة تغطّ أصابعها بالماء البارد فتحمر، وكلما زاد بردها و احمرارها ؛ زادت قدرة أصابعها على السحر، فتغمر قمصان أبي الملطخة بالطين ؛بالماء و الصابون ، ثم تخرجها فتختفي بقع الطين ، لم أكن أعرف أن الساحرات يتألمن عند قيامهن بالسحر والشعوذة إلا عندما رأيت أمي تعصر وجهها و تكزّ على أسنانها،و تخرج ملابسنا من الماء و أصابعها الباردة متورمة،
وعندما تنتهي تصنع من الحبل في فسحة الدار معرضا فنيا للوحاتها ،فتجمع شتات الأسرة الخارجة من البيت على ذاك الحبل ، وتعرض جواربنا المهترئة و القمصان والفساتين الصغيرة الملونة.
كانت امي تفرح بالربيع فتأخذنا في نزهات طويلة ثم نعود فترسم لنا على دفاترنا أزهارا و عصافير بيد مرتجفة.
ذات خريف طلب الزمن من أمي أن تزخرفه؛ فزينت له وجهه بملامحها ورسمت له خطوطا متعبة تحت عينيه، وعندما غادر تسللت إلى غرفتها و أغلقت الباب، أردنا أن نعرف ما بها و هرعنا إلى النافذة لنسترق النظر إليها،
كانت جالسة على السرير ممسكة بالمقص تقص أطراف الخريف و تحشوها بالمخدة، ثم صنعت في السماء ثقبا عميقا و نادتنا لتخبرنا بسرها .
يومها علمتنا كيف نصنع من الجوع خبزا لذيذا، ومن الفقر حبلا طويلا نشد به أرواحنا كي نتحمل وقالت لنا حافظوا على هذه الحبال إنها تسمى الصبر و بهذه الحبال فقط تجتازون رحلة الحياة .
تساقطت دموع ابي غزيرة كالمطر فوضع فوق رؤوسنا منديل أمي كي لا نتبلل ، وأخبرنا كم كان مبهورا بجمال أمي و لوحاتها .
قالت أمي هذا الجيب الذي قمت بخياطته في صدر السماء سأختبئ به لابتعد عنكم في مرضي ، كلما اشتقتم لي انتظروا الخريف حتى يعود وانظروا إلى السماء فأعود إليكم ،
ثم صلت أمي صلواتها ووزعت أدعيتها علينا بالتساوي وغطت في رحيل عميق .
في اليوم التالي جاء أبي بأمي تبتسم في إطار خشبي ، وإلى اليوم لازالت أمي شابة بينما نحن هرمنا ....