إشارات الاغتراب والهوية
قراءة بقلم الأديب / سيف بدوي
لنص * وصية *
للكاتبة: صديقة علي
..............
النص
وصيّة
تغبّ عيناي أحرف اسمه، مكتوبة بخط كوفيّ على لوحة البوابة، يصرّ على هذا في بلد امتصّ ضبابها كل اللغات.
أتردد بقرع الجرس.
يومها قال: كلما أمعن العمر في التوغل بالمجهول، واشتدت القباحة من حولي؛ شعرت بحاجتي للحديث مع الطيبين البسطاء، فلا أجد غيرها!
قلت : لا ترهق نفسك بالشرح فأنا أفهمك.
_مضى كل هذا الزمن وهي مصرّة على رفضها تعلّم لغتهم.
-ألأجلها هذه اللوحة؟
_لا... لأجل كل من غادرتهم هناك ، بل لأجل من تركوني هنا .
أشار بيده إلى جهتين، وطفرت دمعتان من مقلتيه.
تفتح البوابة وكموجة توقظني من تأملٍ بحري قالت:
-ترك لك هذا!
كانت تتشح بالسواد حتى صوتها، تمدّ يدها بمفتاح وورقة، تشير إلى مكتبه في أقصى يسار سور حديقة المنزل، ألج المكان برهبة كمن يدخل مكانا مقدسا.
قلت له ذات حنين: كلما اشتد الحنين ألوذ بكَ وكأنكَ وطني الصغير.
رد مبتسما: لعلمك لحاجتي الملحّة لك في افتقادي للجميع.
-الأولاد؟
-أخذهم الطوفان... قساة حتى مع أمهم.
كلمة السر لحاسوبه مدونة على الورقة بخط قلق، اسمي وتاريخ ميلادي.
أضاءت الشاشة على ملف حفظ باسم "صديق الطفولة "
/في هذه البلاد نادرا ما تسطع الشمس... في غربتها أريدك شمسها/
أقرأ وأبتسم وأبكي ... أتاني بوحه محمّلا برجاء خفي:
-لشد ما أخاف عليها من بعدي!
تضع على حافة النافذة الرخاميّ البارد فنجان شاي، يمتص الشمس الضنينة؛ فينكسر ضوءها وكأنه عبر موشورا.
تسند رأسها على الحافة الخارجية للنافذة، وتسألني بحزنها العذب: ماذا وجدت؟ ... طلب مني أن تراجع ما لم ينشره باللغتين.
-لا عليك وسأهتم بما نشر أيضا.
أكتشف لون عينيها وأغرق.
ترتبك، ترمش عيناها بسرعة:
- أو تخبرني ماذا وجدت؟
- الكثير من الملفات العالقة، تحتاج لحضور طويل الأمد، أهمها مغلق وبيدكِ المفتاح!
كطفلة تيتمت للتو وحُملّت مسؤولية البحث عن أشياء أمّها، تشهق:
- بيدي أنا؟!
وأفقنا على عصفة ريح تلعب بالبوابة، وتُسقط اللوحة.
------------
القراءة
يسير الزمن في النص في مسارين، الماضي/عبر التذكر، والآني/عبر سرد الحدث ، وما بين المسارين يتم بناء النص، غير أن المسار الماضوي التذكري لم يكن لسرد أحداث انقضت أو استمر أثرها في الآني ، بقدر ما كان مفتاحًا للشخصيات الثلاث في النص : ( الراوي/ الأرملة/ الكاتب الغائب المتوفي)
وفي شأن الغياب للشخصية الرئيسية (الكاتب الغائب)، يمكن القول إنه غياب بسمت الحضور، وربما الحضور الراسخ الذي أسسه ذلك الغائب ذاته قبل غيابه، سواء بحضوره الشخصي عبر وصيته الممتدة إلى ما بعد موته جاعلة من رغباته ووصاياه معني مجسداً لبقاء إرادته فاعلة في الواقع الذي غادره، أو حضوره (الثقافي/المنتمي) عبر تخليد اسمه على لوحة بخط كوفي يستمد حضوره من ترسيخ هوية محددة، وكذا الصورة التي وردت في الجملة الحوارية بينه وبين الراوي، والتي ضمنهاـ الصورةـ أولئك الذين غادرهم أو تركوه، بما يحمله ذلك من معني تتسع دلالتة لأكثر من شخصنة هؤلاء، فهم بهذه المثابة ليسوا آحادًا بقدر ما هم عنصر من تكوين هوية تجاهد لمقاومة معضلة الاغتراب في بلد معتم غاب فيه أولئك جميعا وغابت فيه لغتهم.
إذن، وقد قادنا الحديث عن الشخصية الرئيسية إلى (معضلة الاغتراب)، فإنه والحال كذلك يتعين الوقوف هنا برهة متعجلة بالقدر الكافي في هذا المقام، لأقول: ومنذ الأسطر الأولى في النص يشخص أمامنا (الاغتراب) كأزمة أساسية لدى الشخوص جميعًا ـ وإن اختلف تعاطيهم معهاـ سواء أكان الاغتراب أزمة يمكن التعاطي معها ومراوغتها مثلما فعلت الشخصية الرئيسية حال حياتها وبعد مماتها، أو (راديكالياً) كحال الأرملة التي تجسد اغترابها في رفضها الجذري لتعلم لغتهم( اللغة صنو الهوية وأداتها الحية)، أو في المثال الثالث وهو الراوي التي كانت أزمة اغترابه مضببة، تشي بـ "براجماتية" على المستويين العام والخاص.
ومثلما كان للزمن مسارات في النص، كذلك العلاقة الشخصانية كانت كذلك، وما يثير الدهشة أن يتضمن النص القصير هذا، كل هذه المسارات العلائقية بين الشخوص، وأن تأتي دون غموض او ارتباك، ويمكن رصدها على نحو عام في: -علاقة الراوي بالشخصية الرئيسية/علاقة الشخصية الرئيسية بالراوي
-علاقة الأرملة بالشخصية الرئيسية/علاقة الشخصية الرئيسية بالأرملة
-علاقة الراوي بالأرملة/علاقة الأرملة بالراوي.
حقيقة أجدني مدفوعًا ومفتونًا بتحليل وتفكيك تلك العلاقات واستكناه دلالاتها، وعلاقتها وصيرورتها في ضوء (مفهوم الاغتراب) الذي يمثل الأفق المسيطر على النص، ولكن سأكتفي بالإشارات السريعة في هذا الشأن إلى النمط الأول، لأقول:
ـ أفصح النص بكل وضوح عن عمق العلاقة بين الشخصية الرئيسية وبين الراوي، ودلل عليها على لسان الشخصية الرئيسية وكذا الأرملة، واستطاعت الكاتبة أن تخلقها في هدوء كعلاقة أعمق وأدق مما تجسدت فيه من كلمات أو وقائع مروية، ويكفي أن نقول أن "الشخصية الرئيسية" قد ارتضي أن يكون الراوي هو امتداده فأوصاه على أرملته مثلما أوصاه على كتاباته حتى التي سبق نشرها، حتى في اختياره لكلمة السر لحاسوبه فكانت اسم وتاريخ ميلاد الراوي، وفي اسم المجلد الالكتروني (صديق الطفولة)
أما علاقة الراوي بالشخصية الرئيسية فقد جاءت مضببة هي الأخرى كعلاقته بأزمة الاغتراب مثلما أشرنا سابقًا، فلم يتضمن النص ثمة إشارة إلى تلك العلاقة من ناحية الراوي، أو ربما نقول أن الراوي لم يتحدث عن نفسه (داخليًا أو خارجيًا) لا في هذا الجانب ولا في غيره، ولم يكشف لنا إفصاحًا عن أية خفايا، ولكن اكتفي (أواكتفت الكاتبة) بأن يظل الراوي في هذه الصورة التي تشي فقط دون إفصاح .
يكاد يكون النص بنائياـ وحتى على المستوى البصري الطباعي ـ معادلاً لفكرة الحياة/ الموت، النهار/ الليل، الحضور/ الغياب، النور/ الظلمة ، فأتي في قسمين أولهما :المتضمن حوار الراوي مع الشخصية الرئيسية عبر التذكر، وما استدعاه ذلك من مفردات اختيرت بعناية لهذا الغياب، الموت، الضباب، الفقد..، وثانيهما: المتضمن حوار الراوي مع الأرملة بما استدعاه من مفردات تشي بالحضور، بالحياة، بالتفتح، والأستقبال، والبزوغ، حيث تنلك العلاقة التي تتفتح دون فجاجة أو إفصاح محض ما بين الطرفين.
وما يجب الإشارة إليه أن هذا الانقسام البنائي لم يفصم عرى النص أو يقوض تماسكه، إذا استطاعت الكاتبة خلق العلائق والوشائج التي كفلت أن يكون القسمان البنائيان مشكلان لكل واحد، ولم لا وقد تضمن النصف الأول منابت العلاقة التي بزغت في النصف الثاني، وكان النصف الثاني ثمرة لإشارات وتضمينات اشتملها النص الأول.