قصة قصيرة
قطرات
..........
لم يشغفني هذا المقهى الهادئ ولا زبائنه الذين يتهادون، كأنهم على موعد مع استرخاء أبدي، فطالما مررت به دون أن التفت إليه، وكأنه لم يكن قائما، لكن الذي أثار رغبتي في الوقوف أمامه: هذه المرأة التي تلاصق الزجاج ، بشعر كستنائي، ومعطف أسود، وحذاء عالٍ تحركه برتابة هادئة لذيذة، والبخار المتصاعد من قدح الشاي حيث كفها اللدنة تداعب قبضته، وقفت أرقبها..
ورغم أن وقفتي لم تكن مألوفة، إلا أنني بررتها: بأن من حقي الوقوف حيث أشاء، طالما لم أحدث لدى المارة أي حرج أو امتعاض. ترى هل إن وقوفي أمامها لفترة قد تطول دون مبرر مقبول أم ربما يعتبر تطفلاً وسذاجةً؟ أم أني لا أمثل لها أو لغيرها سوى شخص عابر؟
ماذا تقول لو علمت بأني أترصد كل حركة منها؟ وهل هي شاعرة بوجودي فعلا؟
إنها صامتة ساكنة، حالمة مطمئنة،دافئة. وأنا في شك أنها ستبادلني ما أخذ يمور به صدري من مرارة ولهفة.
ورغم برودة الطقس ونثيث المطر فإن الدفء بدأ يتسلل إلى مفاصلي، حتى أحسست أن البخار المتصاعد من القدح قد غمر أنفي ورأسي. وكم وددت أن أتبادل الدور مع النادل الجذل، وهو يتخطى أمامها ويدور برشاقة، إلا أنني اعتبرت ذلك من المحال.
لم يطل وقوفي إذ حانت منها التفاتة، التقت عيناي بلؤلؤتين تشعان فرحا، ولكني سرعان ما أحسست بانكسار تينك العينين دون أن أعرف لذلك سببا، فقد غمر وجهها حزن، وفسرته أنا على أنه اكتئاب مؤقت.
شعرت أن وقفتي البائسة لم تكن موضع ترحيب، بل مصدر نحس لها, ربما لهشاشة عذري في الوقوف هناك، أو لرثاثة ملابسي، خاصة حين تذكرت أن هناك شق في سروالي يكشف جزءا من لباسي الداخلي.
سارعت لإخفاء ذلك الشق، غير أن نظراتها المتتالية زادتني ربكة، وأشعرتني بالدونية والشذوذ. فقد أقحمت رأسي بمقارنات لا تنتهي بين معطفها الأنيق وسروالي المثقوب، بين فنجان قهوتها وزمهرير شارع لا يرحم. غير أني لم أستطع كبح جماح رغبتي في الابتسام، بعد أن لمحت انفراجا لشفتيها الرطبتين، سأبتسم ولتقل عني ما تقول، ليحدث ما يحدث !
تحركت شفتاي بارتباك أحسست بمرارته، ووددت أن لا تلحظ ارتباكي كي ألحقه بابتسامة أكثر ثقة ومرح، تليق بتلك الأنوثة الطافحة الطاغية ، وتعزز أحقيتي بالوقوف.
رفعت الفنجان، قربته من فمها بتأن، إنشغلت برشفه ما منحني وقتاً كي أتحسس فتحة السروال ثانية، فكانت كفم وحش مرعب، بل وكأن أنياب ذلك الوحش انغرست في فخذي تاركة سعيراً امتد إلى حنجرتي وأنفي. ترى هل لاحظت المرأة تلك الفتحة أم أن القطرات التي بدأت تسيل على الزجاج قد ساعدت على سترها؟
عادت لرفع الفنجان كما عاد وجهها إلى الانبساط. لم أعرف أن للمرأة فعل السحر، كما لم أدرك أن بإمكاني أن أجعل مخلوق ما يبتسم.
لمت نفسي كثيراً، فأين كنت مما انا فيه؟ لماذا لم أعر اهتماماً لهذا المقهى من قبل؟ والكون كله متألف بأطياره وناسه، بأشجاره وصخوره. أين كانت هذه العواطف التي دبت في جسدي كشلال دافئ …أين ؟
بدات في حوار مع المراة. أسالها فتجيب، أرسل إليها نظرات صادقة فتبادلني، أرفع يدي نحو راسي فتحرك اناملها، أحرك كفي فتعرض ابتسامتها.
لم يطل وقوفي وتبادل الاشارات معها، حتى حركت المرأة سبابتها مشيرة إلى النادل الذي مثل أمامها بحركة رشيقة، ووجه طافح بالسعادة. فتحت حقيبتها ثم دست بيده _ وهي تشير نحوى _ ورقة صفراء.
هتف صدري بكل قواه : (يا إلهي )!
ماذا قالت له؟ لماذا نظرت إلي تلك النظرة الحانية؟
احتشد رأسي بألاف الاحتمالات ، لم أستطع أن أرجح أي منها، لكن من المؤكد أن هناك شيئا ما يتعلق بي، خاصة وأني تلفت في كل الأرجاء فلم أجد إلاي.
ترى هل تود اخباري بانها ستغادر المقهى والبخار لم يزل يتصاعد من القدح؟!
ما الذي وضعته في كف هذا النادل النزق، الذي وضع حداً لأسئلتي حين خرج بزي الخدمة متجها نحوي مباشرة.
مد يده فمددت يداً مرتجفة لأصافحه، لكنه دس تلك الورقة الصفراء بكفي. تعلقت نظراتي في الورقة، ثم في وجه المرأة التي هزت راسها رجاءً، فيما تكدر خاطري، وحاولت أن أهدئ من روعي وخفقان قلبي وتوتري، لكن شيئا أشبه بالنحيب بدأ يتعالى داخلي، وثمة قطرات طفحت من عيني، ربما توافقا مع قطرات المطر التي شكلت خيطا على الزجاج، وأنا ألمح تلك الورقة تسقط من كف النادل، ووجهه الذي طافت عليه الحيرة،جرفتني موجة حزن إلى نهر الشارع، فيما تلاشى وجه المرأة خلف ضباب كثيف.