كيف تحافظ قصيدة النثر على هيبتها
- نص أصوات عارية نموذجاً - للشاعرة القديرة نبيلة الوزاني
الناقد أ. هيثم رفعت
لاشك أن قصيدة النثر تعرضت وما زالت تتعرض لانتقادات واسعة بداية من مجرد وصفها بالقصيدة ومروراً بالاستخفاف بها وبأدواتها وعوالمها الشعرية ، إلا أنها رغم أنف اليمين العروضي المتطرف أثبتت وجودها ولن أبالغ إن قلت أنها النمط الكتابي الأشرس في غزو الساحة الأدبية بما لها من خصائص فنية أبسطها الكتابة في مساحات جديدة ومبتكرة وقابليتها للتطوير الدائم والتناغم مع الحالة الانسيانية والمجتمعية وفلسفتها العميقة ، في تقديم المنتج النصي الفاتن الذي يسلب قلب وعقل القارئ وبالتالي كانت خير معبّر عن الهموم الوطنية ومحنة الأرض و خير تطبيق أيضاً لوصف أن
الشاعر ابن بيئته.
والحقيقة أنها رغم هذا الثقل الفني إلا أنها تعاني من الندرة وعدم الإدراك والفهم الجيّدينِ لها ويتحقق فيها وصف المعارضين لها أنها مجرد خواطر ،وهنا يتحمل الكتاب مسؤولية هذا الوصف لأنهم غالباً لا يعرفون مقوماتها الفنية المعتبرة ومنها كسر حاجز اللغة والابتكار والدهشة والاختزال والعمق والفلسفة ووجود رسائل للنص وكذلك التقنية الشعرية الرمزية القابلة للفهم وهي من هم التقنيات التي تحافظ على هيبة قصيدة النثر
وهنا تظهر عبقرية الكتابة النثرية عبر الانعكاسات الدلالية للنص بما أسميتُه
( بكريستالية النص ) أو بما يعرف بقابلية تعدد التأويل وهنا سندحل مباشرة إلى قصيدة أصوات عارية لتطبيق هذه الأطروحات وحرصا على وقت القارئ الملول بطبعه.
النص :
{ أَصْواتٌ عارِيَة }
.... وَقْتمَا تَمكّنْتِ منَ الانصهارِ
في الصُّورةِ ،
تَموْقَعِي فيها بِتمامِ كُلِّكْ....
هكذا تَتغلغلُ داخلي
ذبذباتُ صَوتٍ كشلّالٍ مُنفَعِلْ
مُرتفعٌ جدّاً...
مُواظِبٌ كثيراً ....
حَريصٌ أكثرْ ....
هذا الصَّوتُ القديمُ الجديدُ
على أن أبْقى رهْنَ ... انتباهْ ...
لَطالما رافقَ أناملِي
كُلّما قرَّرَتِ القيامَ بِجولةٍ استِطلاعيةٍ
في الشوارعِ المَسحُوقَةِ مَصابيحُها
لأَقُصَّها على الوَرقْ ....
وبعيداً ما يَكونُ فِكري
عنِ التَّاريخِ وتأشيراتِهِ و سِجلّاتِهِ .
وأنا أتوغّلُ في الصُّورةِ
أبحثُ عن مكانٍ
يَسَعُني ... وَ ... صَوتِي
لأجدَني علَى قيدِ الحَياة ....
كلُّ الأشياءِ والصّوَرِ
تَستدْعينِي
بعيداً
عنِ اهتزازِ الأَلوانِ في عَينِي ،
رُبّما شَعَرَتْ أخيراً
أنّني بها ( شاعرِة )
أنا الآنَ ...
كُلّما نَشفَ المَطرُ
احتلَّتْني أسئلةٌ بحجمِ الهَلعْ :
كمْ للظّمأِ مِن حَناجِرْ؟
كيفَ يَعطشُ الموجُ
والبحرُ يطفحُ ماءً ؟
فهلِ المِلحُ شرِب الماءَ ،
أمْ ْما خَلْفَ البحرٍ
ابتلعَ النّوارسْ؟
أيّتها الرّمالُ....!
لمْ تَزلْ تَغُطُّ في عمقكِ الأحلامْ ،
أيّها الأُفُقُ ...!
كَيفَ تتحوّلُ المَسافةُ
إلى سنواتٍ َضوئيةٍ
بينَ الْ هُنا .....و.... الْ هُناكَ
والعالَمُ كَفٌّ صغيرْ...! ؟
.........
تِلكَ السَّنابِلُ التي مَزّقَها الصَّقيعُ
في بيادرِ الغُربةِ
تذرفُ سُكَّرَها
تصنعُ حلْوَى بِعرقِ النَّبضِ
لأَفْواهٍ خاليةٍ
مِن أبْجديةِ التُّرابِ
و تَعبرُ المَجهولَ
بِابتسامةٍ فارغةٍ
مِن ذاكرةِ الفرح...
الطّينُ المُبلَّلُ بالأُمنياتِ
أَضاعَ لهفةَ الحقائبِ
والخُطُواتُ تبْكي
علَى الحواجزْ ...
..........
أيّتُها الحُدودُ...!
مَن يَحكِي للرّيشِ
عنِ انْكسارِ العَصافيرِ
والأجنِحةُ خاويةٌ مِنَ الهَواءْ؟
أيّها الصّوتُ الجَليُّ ، رَفيقِي...!
هُوَ الأَلمُ المَمتَدُّ
في أوردةِ الأيّامْ
هُوَ هُطولُ الدَّمعِ
مِن عُيونِ الشّمسِ
وهيَ تَدَّعي الضَّحِكَ
مُنذُ شّهقةِ الرّبيعِ الأَخيرَة ...
أَخبِرْني أيُّها الصّوتُ !
مَتى يَلدُ الفجرُ جَنينَهُ
وترتدِي الأَصواتُ
ألْوانَ الصَّباحْ؟ ....
،،،
نبيلة الوزّاني
--------------------------------------------------------------------
التعقيب الفني : نلاحظ أن النص بدأ بعتبة رمزية ( أصوات عارية ) بلمسة انزياحية رائعة فالصوت كيان معنوي تم توظيفه في مساحة مادية وهي الجسد والتعري ، وبهذه البداية المبتكرة والتي عبرت عن توجه النص وأنه يسير في المسار الرمزي القابل للقراءات المختلفة ، فالقارئ هنا بداهة سيسأل نفسه ماذا قصدت الشاعرة بهذا العنوان ؟
وهنا تتوافر عناصر التشويق والإثارة ومنذ استهلاليته – ولكي يجيب على هذا السؤال لابد أن من القراءة العميقة والمتأنية التي تعتمد على ربط محطات النص ببعضها البعض وكذلك متابعة القاموس اللغوي والدلالي وكذلك معرفة من هو المخاطب شعرياً في النص وماهي الرسائل التي قصدتها الشاعرة :
.... وَقْتمَا تَمكّنْتِ منَ الانصهارِ
في الصُّورةِ ،
تَموْقَعِي فيها ( بِتمامِ كُلِّكْ )....
هنا كانت المحطة النصية الأولى وظهرت فيها الأسلوبية الشعرية للنص حيث بدأ النص من الذات أو من الداخل إلى الخارج فبدأت الساردة بمشهدية مجازية وهي تقف متأملة لصورة ما وهذا التأمل كان حطب القصيدة فكأنها هنا تعلن عن إعادة ترجمة لأحداث سابقة مرت بها ليظهر بعد ذلك أحد شخوص النص ( بتمام كلك ) أوربما هو محوره الرئيسي ، فمن هو المخاطب شعرياً هنا ؟
هل هي الذات العليا ، أم شخص ما ( الحبيب ، الأب ، الأخ ، الصديق ) ؟
هكذا تَتغلغلُ داخلي
ذبذباتُ صَوتٍ كشلّالٍ مُنفَعِلْ
مُرتفعٌ جدّاً...
مُواظِبٌ كثيراً ....
حَريصٌ أكثرْ ....
هذا الصَّوتُ القديمُ الجديدُ
على أن أبْقى رهْنَ ... انتباهْ ...
لَطالما رافقَ أناملِي
وهنا نقترب أكثر فأكثر لمعرفة المخاطب شعرياً في النص عبر الإحالات النصية بوصفها أنه صوت قديم يتغلل بداخلها رافق أناملها وكأنه شكل وعي ما بداخلها وبهذا يظل المسار المفتوح القابل لتعدد التأويل فقد يكون الذات العليا التي تتواصل معها بالدعاء وأكف التضرع وكذلك ربما الحبيب أو ألأخ أو الأب الذي يرزع القيم الإنسانية في نفس ابنته ، وأمام هذا التعدد الدلالي ستولد الحيرة المطلوبة في ذهن القارئ ليقرأ النص أكثر ليعرف أيهم قصدت الساردة .
لَطالما رافقَ أناملِي
كُلّما قرَّرَتِ القيامَ بِجولةٍ استِطلاعيةٍ
في الشوارعِ المَسحُوقَةِ مَصابيحُها
لأَقُصَّها على الوَرقْ ....
وبعيداً ما يَكونُ فِكري
عنِ التَّاريخِ وتأشيراتِهِ و سِجلّاتِهِ .
وأنا أتوغّلُ في الصُّورةِ
أبحثُ عن مكانٍ
يَسَعُني ... وَ ... صَوتِي
لأجدَني علَى قيدِ الحَياة ....
كلُّ الأشياءِ والصّوَرِ
تَستدْعينِي
بعيداً
عنِ اهتزازِ الأَلوانِ في عَينِي ،
رُبّما شَعَرَتْ أخيراً
أنّني بها ( شاعرة )
ونلاحظ هنا اتساع القاموس اللغوي والدلالي ليتناسب مع الحالة الذاتية وانطلاقها من الداخل إلى الخارج
( جولة استطلاعية ) ، ( الشوراع ) ،( التاريخ )، ( تأشيراته ) ، ( الورق )
وهنا تشير الساردة إلى بعض ملامح فكرة النص وهي تتحدث عن الغربة وهنا أيضاً تركت لنا شاعرتنا بعض المفاتيح الرمزية التي تمكننا من فهم أطروحتها الشعرية في قولها :
( الشوارع المسحوقة مصابيحها ) وهنا استهدفت الطبقة المثقفة وتلك المعاناة التي تتعرض لها من سحق أو قهر أوربما إذلال يصل حد القتل في ظل أنظمتنا العربية الاستبدادية - وبكل أسف – وهنا هي تشعر بما يشعرون به من غربة وعزلة فقالت في ختام هذا المحطة
( شعرتْ أخيراً أنني بهاشاعرة )
وهذا التوحد في الألم والوجع عبر الربط المبهر بينها وبينهم وفوق هذا تكشف للقارئ أهم أسرار القصيدة و كيف تكتب عبر الانصهار الذاتي وكأنه ما كتبته ماهو إلا رماد الروح وهذا أبلغ وصف للحالة التأملية التي يعيشها الشاعر من استغراق لما يحدث حوله وترجمته في نص يمثل رحلة أنينه ووجعه .
وتأتي المحطة النصية الثانية للـتأكيد على ما تحدثنا عنه مع الاحتفاظ بذات المسار الشعري وتوحد القاموس اللغوي معه :
أنا الآنَ ...
كُلّما نَشفَ المَطرُ
احتلَّتْني أسئلةٌ بحجمِ الهَلعْ :
كمْ للظّمأِ مِن حَناجِرْ؟
كيفَ يَعطشُ الموجُ
والبحرُ يطفحُ ماءً ؟
فهلِ المِلحُ شرِب الماءَ ،
أمْ ْما خَلْفَ البحرٍ
ابتلعَ النّوارسْ؟
أيّتها الرّمالُ....!
كيف تَغُطُّ في عمقكِ الأحلامُ
أيّها الأُفُقُ ...!
كَيفَ تتحوّلُ المَسافةُ
إلى سنواتٍ َضوئيةٍ
بينَ الْ هُنا .....و.... الْ هُناكَ
والعالَمُ كَفٌّ صغيرْ...! ؟
ونلاحظ هنا في الأسلوبية الشعرية لشاعرتنا التحكم في الايقاع الدلالي والتدرج النصي فهي لم تكشف من البداية عن توجه النص ولم تفسد على القارئ رحلة خياله في فهمها لتأتي المواجهة على الورقة بين ذات الشاعرة
( أنا الآن ) مع عالمها الخارجي أكثر لتجسد لنا الساردة رحلة اغتراب المواطن العربي وقامت باستدعاء بيئة السفر إلى المجهول وكأنها هنا تشير بشكل ضمني إلى الهجرة غير الشرعية ( المطر ، الظمأ ، الحناجر ،البحر ، الموج ، الرمال ، المسافة ......)
المطر عادة في اللغة نذير هلاك وشؤم وهو الحال كذلك عند مواجهة الحقائق المرعبة لما يعيشه العالم العربي الذي أبدعت في وصفه شعرياً بقولها : ( احتلتني أسئلة بحجم الهلع ) ثم عبر الجمل الإستفهامية :
كم للظمأ من حناجر ؟ ) ، ( كيف يعطش الموج والبحر يطفح ماء ؟ ) وهنا هو مربط القصيدة أو نهب ثروات العالم العربي واستباحت الأرض والعرض وهنا تسأل كيف لعالمنا العربي بكل خيراته وثرواته الكبيرة ألّا ينعم بها الفقراء ،
وهنا تشير إلى طبقات المجتمع المهمشة والمسحوقة أيضاً إ- كما اشارت اليها في بداية النص – وهذه اشارة - أيضا - الى لصوص الأوطان وغياب الديمقراطية والمثل الانسانية وحق الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية وهنا يركب العرب أمواج البحر والهلاك هروباً من جحيم الاستبداد وما أجمل وصفها الشعري هنا في سؤال ساخر و عميق ومرعب : ( هل الملح شرب الماء ؟)
هكذا استمر الإيقاع الدلالي حتى نهاية النص ولن نشير إليه منعا للتكرار ولكي نترك للقارئ بعضاً من غابات الكلام ليكتشف جمالها وعباراتها المتوحشة ولكننا سنشير فقط إلى المخاطب شعريا في النص والذي طرحنا السؤال عنه في مستهل هذه الإطلالة فقد أشارت إليه الساردة في محطتها الختامية بقولها :
( أيها الصوت الجلي ، رفيقي ) وهنا يقبل التأويل أنه الذات العليا وكذلك صوت الحق والضمير الإنساني صوت الغد أو المستقبل
وهنا ليس لنا إلا نرفع أكف التضرع إلى الله كي تتحرر شعوبنا عبر ربيع الثورات العربية الذي يعيش حقيقة في محنة كبيرة وشيطنة له من الخارج والداخل :
مُنذُ شّهقةِ الرّبيعِ الأَخيرَة ...
أَخبِرْني أيُّها الصّوتُ !
مَتى يَلدُ الفجرُ جَنينَهُ
وترتدِي الأَصواتُ
ألْوانَ الصَّباحْ؟ ....
وختاماً ومن هذا كله نكتشف الأسلوبية الشعرية لشاعرتنا التي تعتمد على الخلط بين السرد الومضي والسياقي وبراعة وجمال التدرج النصي والتحكم فيه وكذلك اختيار مدخل وجداني ذكي للتعبير عن الذات و الاختزال والتكثيف اللغوي ولا ارتخاء أو ترهلات لغوية وكذلك والمفارقات الشعرية المبهرة والأهم من هذا كله براعة المقادير الرمزية بوضع مفاتيح للفهم في كل محطة دون الشطط الفكري أو الطلسمة الشعرية مما مكنها من رسم هذه اللوحة برمزية قابلة لتعدد التأويل حيث أننا لايمكننا حصر النص في كونه نص وجداني أو سياسي ..إلخ
وهكذا تحافظ قصيدة النثر على هيبتها .