قراءة أ/ حنان ماهر لنص /شرود ..للقاصة أ/ صديقة علي
.........
دينامية السرد وتقنياته في قصة شرود
الكلام يعتبر نصًا حسب نوع هذا النص مقالة أو قصة أو رواية أو شعر او خاطرة. تتعدد أنواع النصوص حسب مواصفاتها وكذلك يعتبر الكلام نصًا إذا كتب داخل ثقافة معينة وفي بعض الأحيان يخلق النص ثقافته . فكل نص ابن ثقافته و كل كاتب ابن بيئته التي تربى ونشأ فيها وكذلك ما تأثر به فكره من دراسة أو أفكار أو خبرات وغير ذلك . وكل مبدع له أيديولوجيا والنص الأدبي المكتوب يمكن أن يكشف عن ايدلوجية الكاتب دون أن يخبرنا أحد. وعملية تحديد مفهوم النص والتصدي لنقده ينبغي أن يحترم وجهة نظر وثقافة النص . فما تعتبره ثقافة ما نصًا قد لا تعتبره ثقافة أخرى نص. الثقافة هنا هي كل ما يحمله النص من أفكار.
عندما نقرأ العنوان الذي هو مفتاح من مفاتيح فهم النص يأتي إلى ذهن المتلقي إحالة إلى حالة نفسية يعيشها أبطال أو بطل العمل أو الفكرة التي يريد الكاتب توصيلها لنا. العنوان يفتح أفق مختلف ويصدر شعور معين فهو تمهيد للمتلقي أن هناك أحداث ستؤدي إلى عدم اتزان فكري وهذا سيؤدي للشرود ويحاول المتلقي التوصل إلى أسباب ومظاهر هذا الشرود من وجهة نظر كاتبها والمتلقي كذلك سيبحث عن هذه الأسباب. وجاءت الكلمة نكرة للتعميم والشمول فهو شرود في المطلق.
رغم أن السرد يعتمد على تقنية النقلات الحادة في حالة من الارتباك والشرود إلا أن الكاتبة نجحت في شد القارئ إلى عالم النص ليظل طامحًا في الوصول إلى حالة الفهم والاطمئنان طوال حركة السرد وامتداده وعندما يجد نفسه قد مسك خيطًا لتكملة هذه الاحجية المكتوبة يجد الكاتبة قد نقلته إلى حدث آخر رغم أنه يبدو حدث مختلف إلا أن هذا الخيط متين واصل بين هذه النقلات. وكذلك ابقى على يقظة ذهن المتلقي في تلقيه.
يوضح لنا السرد سيدة يستحضرها النص كائن بشرى ليس له ما يميزه بسرد لا يقول غير أنها سيدة لم يذكر وصفها أو ملامحها دلالة انها أصبحت بلا ملامح مميزة وأنها نسيت كامرأة هذه الملامح وكذلك لشيوع احتمالية وجود هذه السيدة في كتير من الأماكن بما تتعرض له بعض السيدات من حالات قهر أو هجر أو زواج ليس به تفاهم أو ما شابه. فهي شخصية موجودة في المجتمعات. ورجل لا يهتم بها نقرأ في النص "فلا يرفع نظره إليَّ غارقاً في جريدته يرشف قهوته الباردة بهدوء مستفز ". بل ترى أن أفعاله مستفزه بدلًا من الرد على الهاتف القريب منه ينادي عليها لترد نقرأ "كعادته يستدعيني من المطبخ كي اجيب على هاتف يرن". في دلالة على فتور العلاقة بينهما وإن هذا الفتور يبدو منذ زمن في حالة من تغييب الحضور الإنساني التفاعلي بينهما بل يتجاوز إلى انفصال شعوري . نجد مفردات مثل" أرمقه بلوم.. لا يرفع نظره.. الباردة.. مستفز". وكذلك يستخدم مفردة امرأة في نهاية النص بلا نداء عليها باسمها مثل. ونجد الشخصية الأخرى التي سنكتشف فيما بعد انه حبيبها قبل الزواج وهو كذلك أبو صديق ابنها يقول لها "يا سيدتي " و في حوار آخر بينهما يقول " أنتِ ستبقين آلهة العشق قيثارة ليلي"
في لحظة رنين الهاتف تظهر دينامية النص ويتبدل إيقاع السرد الي سرعة ملحوظة ويظل المتلقي يلهث خلف التتابع السردي في محاولة للفهم. نقرأ في النص " تدفقت الدماء في وجهي يتسارع نبضي غمامة تشوش نظري جفاف يعيق كلماتي". في حالة من استخدام أفعال مضارعة مانحة الطاقة الدافقة للسرد وتنتقل هذه الطاقة إلى المتلقي في حالة من الترقب والبحث عن من المتصل وباقي أحداث النص.
السرد والحوار في النص يفصح عن باقي الأحداث والمسألة والامارات التي بدت واضحة على إحساس داخل هذه السيدة وهو احساس يمارس تأثيره على المتلقي. احساس خفي يكشف عن نفسه يتجه نحو الإحساس بالشرود مع شرود بطلة النص لما فيها من تفاعل إنساني وكذلك لاحتمالية حدوث نفس الحدث مع بعض المتلقين من عدم الارتباط بمن أحبه الشخص في فترات سابقة من حياتهم. ونجد البطلة أمام تساؤلات كثيرة منها ما سألتها لصديق ابنها ومنها ما لم تفصح عنه وشردت فيها. ويتضح أنها تعيش لحظات عذاب نفسي وتمزق داخلي وتريد الوصول إلى يقين مفقود أو استقرار.
وتستمر حالة من الشرود في نسق النص السردي ويظهر في ما كتبته الكاتبة نقرأ " توقظني يده وهو يربت على كتفي" وكأن يد الشخصية قد ربتت على وعي المتلقي لينتبه هو الآخر من حالة التوغل في النص وفي ذكريات البطلة بما ذهب فيه هو الآخر من ذكرياته المحتملة ويديم تأرجح الحالة المتبادلة في دينامية النص بين السرد المكتوب وانفعال وعي المتلقي به في جو من الشرود المتبادل في انتظار ما سيؤول إليه أمر السرد. فيستقبلها زوجها بجملة " الله لا يحرمك هذه العادة ذهنك شارد كعادتك أغلقي سماعة الهاتف جيدًا يا امرأة". حتى لم يهتم بغلق سماعة الهاتف في دلالة على صفات شخصية من عدم اكتراث بأي شيء حوله حتى أقل التفاصيل ودلالة الإهمال العام.
وكذلك جاء رنين الهاتف ووصف حالة الزوج متزامن مع اتصال حبيب البطلة السابق تزامن ساعد على دينامية وتنامي النص وحدث ملائم لبقية بنية النص المتخيل والمؤثر في تطور مجرى الأحداث ودلالتها من تعاطف إنساني مع البطلة وامتلاء النص بأحاسيس " النوستاليجا" اي الحنين إلى الماضي. ومن هنا تنمو بعض شخصيات النص مع الحدث
ظهر كذلك عبر تقنية السرد الدينامية إتاحة تمرير الحكي والإفصاح في بنية ثنائية الماضي /والحاضر من ماضي متمثل في الذكريات والواقع الحالي التي تعيشه شخصيات النص وترك المتلقي في حالة من التخمين عن رد فعل البطلة وماذا سوف تفعل في حالة من إطلاق الأحكام الذهنية. فنجد عنصر الماضي عنصرًا أساسيًا في بنية السرد وما به من جماليات الذكرى عن مشاعر البطلة السابقة واثر ذلك في زيادة دينامية السرد وكذلك ما للحاضر من أثر وما في كل هذا من تأثير على المشهد الكلي للنص. و يجد المتلقي نفسه في حالة تساؤل وهو لماذا تطاردنا الذكريات وتسير نحونا مهما ابتعدنا عنها؟ وتبحث عنا كأننا أبناءها التائهين في الحياة. ويأتي انسياب الذكري في الأحداث مؤشر عام ليقول لنا النص في دلالته أن الإنسان ابن ماضيه وأنه يجب أن ينتبه لما يفعل لأنه سيقابل هذا الماضي في حاضره. ونجد تقنية كتابة على مستويين الماضي والحاضر بلغ تداخلهما كبير
ووجود تقنية أخرى في السرد وهي الحوارات إذ يؤدى الحوار إلى الوقوف على الزمن السردي في وقت هذا الحوار وهذه الحوارات وما تبعها من وقفة سردية تجنب المتلقي الملل وكذلك يساعد على تكملة بناء النص وفهم الجوانب الخفية للشخصيات بما فيها من صفات وطباع ومواقفها بما فيها من دوافع. وساهم الحوار في ملء الكثير من فضاء السرد باستخدام أصوات عدة مما يؤدي إلى أن هناك أكثر من راوي في النص كل شخصية تروي عن نفسها وتشرح نفسها بلا تدخل من الكاتبة في حالة من حرية التعبير كل شخصية عن صفاتها الخاصة في دلالة عدم الحكم عليها وترك الحكم للمتلقي فالشخصيات تعرض نفسها أمامنا وعلي المتلقي أن يراها بوعيه الخاص.
ويبدو المعنى المباشر أن الكاتبة قد تركت الحكم للمتلقي لكن في المعنى الأعمق هي من تحرك دفة السرد في ديناميتة بأحداثه وتوجيه تفكير المتلقي لما تريد بطريقة غير مباشرة. و ذلك برسم الشخصيات كما رأت واوحت إلى المتلقي انها وقفت موقف محايد باستخدام تقنيات وأساليب لغوية من ألفاظ ومفردات موحية تعزز تعاطف المتلقي مع البطلة. ونقرأ عن كسل وإهمال الزوج بل وأنه يقول لها يا امرأة في دلالة تقليل شأنها ولكن الشخص الآخر يقول سيدتي في حالة من التقدير. والزوج لا يحرك ساكناً في الرد على الهاتف أو حتى تعديل سماعته بل ينهرها في نهاية النص على شرودها وعندما تتذكر حبيبها تتذكر كيف كان وسيم وتصفه وصفًا دقيقًا وماذا كان يقول لها وماذا كان يحب ويكره.
النهاية لها اتصال ببداية النص تعتبر نهاية دائرية في دلالة أخرى على أن الماضي لن يتركنا سيظل معنا وهى نهاية منطقية لسيدة تعلم أن الماضي سيعيش معنا في ذاكرتنا لكن علينا أن نعيش الحاضر بما فيه ونتعايش ونحاول إسعاد أنفسنا وكذلك هي سيدة مخلصة ومحترمة قالت " المتصل هو.. هو شخص أخطأ الرقم" عندما سألها زوجها من كان المتصل في دلالة على أن مهما كان حال العلاقة بينها وبين زوجها فهي تحترم هذا البيت وهذه الأسرة وهذا الكيان الذي تعيش فيه وهي نهاية تكمل وترسخ تعاطف المتلقي مع البطلة وامتداد لتفهمه لها ولمشاعرها. و بذلك ننهي حالة الشرود ومتاهة السرد الذي وضعت فيه الكاتبة المتلقي مع بطلة النص.
في النهاية هو نص ذات تقنية مختلفة مميزة تكشف عن قدرة الكاتبة على اختزال أحداث كثيرة وكتابة القليل مع دلالة كبيرة وإشراك المتلقي في ملء فراغات كبيرة في النص مع عدم الإخلال بانسياب وإحكام سرده وتحميل أحداث هذا النص القصير الكثير من الواقعية ويكشف مستويات الشخصية ومعاناتها.