التجربة الإعتقالية في " سنة واحدة تكفي " لهاشم غرايبة
رائد محمد الحواري
عرفت هاشم غرايبة في العقد الثامن من القرن الماضي، عرفته كمناضل شيوعي، وكمسرحي، من خلال ثلاثيته" كان وما زال، الباب المسحور، مصرع مقبول ابن مقبول" والتي وضع مقدمتها عماد ملحم، وهي من أصدارات دار الافق الجديد الطبعة الثانية،1985، كان لهذه الثلاثية فضل علي، إذ كتبت عنها أول كتابة نقدية مسرحية لي، وقد ارسلت ما كتبته للرفاق في الحزب، لإيصاله لهاشم، بعدها لم يتاح لي مقابلته شخصيا حتى عام 2021 وتحديد في 18/8/2021 أثناء توقيع كتاب "زر في وسط القميص" للكاتب والفنان صالح حمدوني، في بيت عرار الثقافي في أربد، هذا هو هاشم غرايبة الذي عرفته، والذي كان بالنسبة لي منارة أدبية وسياسية ومثلا في العطاء، وهذا ما يجعلني أقول له أستاذي ومعلمي وقدوتي.
نأتي إلى كتابه "سنة أولى تكفي" والذي يتحدث فيها عن تجربته الاعتقالية، وبما ان الاعتقال موضوع قاسي ومؤلم، فكان عليه أن يستخدم (مخففات) أدبية، لغة، طريقة تقديم، صور أدبية، سخرية، تخيل، استحضار المرأة، لتمرير أحداث الاعتقال وما تحمله من ألم وقسوة.
السيرة جاءت من خلال ثلاثة اقسام، الأول جاء فيه السرد بصيغة "أنا" المتلكم، الثاني جاء بصيغة سرد خارجي، والثالث عاد فيه إلى أنا السارد، وهذا مغاير لغالبية السير التي تأتي بصيغة أنا، وهذا يعود إلى الموقف المحرج لهاشم مع "سامي" أثنا الحمام، فأراد أن يحرر نفسه من الضغط النفسي الذي يصيبه عندما يتحدث عن موقف صعب على مناضل، فختار صيغة السارد الخارجي كوسيلة يستطيع بها تجاوز ما كان منه، وهذا يحسب له، وليس عليه، وكأنه يقول لمتلقي أنه (يخجل/يندم/يتألم) عما بدر منه، ولشدة ندمة ها هو (يهرب) من ذاته ويجعل (أخر) يتحدث نيابه عنه ويروي تلك الحادثة المؤلمة.
التعذيب
بما أن الحديث متعلق بسجين سياسي، فإن هذا يستوجب الحديث عن التعذيب: " كان الضرب أهون من الشّبح، ربما لأن الخيبة كانت ترتسم على وجه الخصم بوضوحٍ أمام ناظري، أما "الشّبِح" فيضعني أمام جدار الزمن القاسي. إلى أن يفكّ قيدي حارسٌ لا يبدي شماتة، ولا يجرؤ على التعاطف." اللافت في هذ المقطع أن السارد يقدم اكثر من صورة للتعذيب، الجسدي: "الضرب والشبح" التعذيب بالوقت: "الزمن القاسي"، بالتعذيب بالعزلة عما هو إنساني: "حارس لا يبدي شماته ولا يجرؤ"، فالحارس هنا يفتقد لكل ما هو إنساني، وبدا وكأنه آلة أكثر منه بشري/إنسان.
ورغم أن المقطع يضم كل هذه القسوة، إلا ان الشكل الذي جاء فيه التعذيب لم يكن مؤلما للمتلقي، وذلك لوجود فكرة الصمود: "الخيبة ترتسم على وجه الخصم" وهذا يرفع من معنوية القارئ ويشد من ازره، ويجعله (يتعاطي) مع التعذيب على أنه حدث (تافه) يزيد من صلابة البطل، وعلى انه فعل عنيف يبن صلابة البطل وجلده، إذن، فلا بأس من تناوله، ما دام يرفع من مكانة البطل.
كما ان الصورة الأدبية التي جاءت من خلال: "أمام الزمن القاسي، حارسٌ لا يبدي شماتة، ولا يجرؤ على التعاطف" تضفي لمسة ناعمة على المشهد وهذا ما يخفف على المتلقي، من هنا نقول ان السارد يتفهم مشاعر القارئ، لهذا أوجد مجموعة عناصر تساهم في الخفيف عيله.
المشهد الثاني الذي تحدث فيه السارد عن التعذيب جاء فيه: "أخذوني إلى الساحة، كلبشوا يدي إلى الخلف. ربطوا إبهام رجلي إلى تمرة عضوي بخيط نايلون قصير، ووقفوا يتفرجون علي.
ساعتها لم أتذكّر شيئاً من حكاية الأمير الصغير، ولم أستطع التفكير بالياسمين. فقد داهمني ألمٌ لا يطاق يشعّ من سلسلة الظهر، ويصعد إلى الرأس مثل كرة من لهب. حاولت استحضار أحلام اليقظة التي برعت بها فلم أفلح.
في لحظةٍ بالغة القسوة شعرت كأن مسنّنات دماغي تتفكك، وتدور عارضة صوراً وأفكاراً خارج السيطرة. فزعت فزعاً شديداً، ورفرفت راية الاستسلام غائمة في خاطري." نلاحظ أن الفعل الذي قام به الجلاد فعل قاسي ومؤلم، كمضمون وكشكل، حتى ان اللغة المستخدمة تحلو من الأدب، لهذا هو مشهد منفر ومزعج لمتلقي.
لكن عندما يتحدث السارد عن نفسه يستخدم الصيغة الأدبية: "الم يشع من سلسة ظهري، كرة من لهب، مسننات دماغي تتفكك، راية الاستسلام غائمة في خاطري" وهذا ما يزيد من وحشية الجلاد، ويخدم صورة الأديب/الإنسان ـ الذي حتى وهو في التعذيب ـ يتحدث بلغة أدبية ناعمة تمتع القارئ، فالسارد الذي يتعرض للتعذيب، يخفي ما به من ألم، ويتحدث بهذه اللغة، هو فعلا إنسان لا يستحق ما يجري له، وهنا تكتمل صورة الجلاد، وتتضح صورة الضحية.
السجن
تقول عائشة عودة في ثنائيتها "أحلام بالحرية، ثمنا للشمس" الحديث عن الأم هو ألم أضافي" لهذا نجد "هاشم غريبة" يحجم عن تناول المزيد مما تعرض له، ويدخلنا إلى السجن، الذي يعد (ترفيها) إذا ما قورن بمرحلة التعذيب: "فالخروج من مبنى المخابرات إلى السجن يعدّ فرجاً بعد التحقيق، والشّبْح، والفلقة، والإضاءة الساطعة على مدار الساعة." وهذا يتوافق مع كل أدب السجون، فمرحة التحقيق هم الأكثر ألما ووجعا.
لكن السجن كمكان لا يتناسب وطبيعة الأنسان الذي يتوق للحرية والحركة والتنقل، لا هذا دائما يوصف كمان مؤلم واقاسي: "شعرت كأني أدخل مغارة. المكان معتم تفوح منه رائحة عطنٍ عتيق، وأمونيا حادّة مختلطة برائحة بصل مقلي." فكرة قسوة المكان واضحة، لكن الأضافة التي تزيد من قسوته، الأفاظ التي استخدمها السارد: "مغارة، معتم، عطن/(عفن)، أمونيا، بصل" وهذا ما يجعله لا يوافق مع ابسط متطلبات البشر، فهو كمكان/مغارة لا يصلح للحياة الإنسانية، كما أن رائحته كريهة/ عطن، بصل، أمونيا، ويخلو من الأنارة/معتم.
"القَاووشْ ليس فيه ميزات تذكر سوى باب حديد عريض، أما في الدّاخل فالأرضيّة كلّها مفروشة بالنزلاء. رأيت خيطاً من البراغيث يتسلّق إطاراً خشبياً خرّمه التسوّس لنافذة نصف نافذة، تتدلّى عليها عنكبوت ترثو نسيجها بصبر وأناة." دائما عندما يستخدم الأديب ذكر الحشرات فهذا مؤشر على حالىة الضغط التي يتعرض لها، "البراغيث" توصل فكرة عدم صلاحية المكان لحياة البشرية، "وعنكبوت" توصل فكرة الخرب للمكان.
المحكمة
على كاتب السيرة أن يقدم الأحداث والواقع التي تهمه، والتي تركت اثرت عيله، من هنا يحدثنا هاشم غريبة" عن محاكمته بهذه الطريقة: " محاكمتي التي تقررت في 26-4-1977
كانت المحاكمة أسرع مما توقعت.
دخلت قاعة المحكمة حيث كان المحامي عدي مدانات بانتظاري هناك.
قال الأستاذ: حكمك تقريباً جاهز، ولكن سأترافع عنك."
رغم أن الحدث حقيقي، "حكمك جاهز" إلا أنه يحمل السخرية من المحكة، فكيف يتم الحكم على المتهم قبل تقديمه للمحاكة؟، وقبل مرافعة محاميه؟، بمعنى أن السرد يقول: أنها محكمة شكلية، تظهر أنها محكة، لكنها في حقيقتها مؤسسة تنفذ القرارات وما يطلب منها، دون ان تنظر بحقيقة الإنسان، وبحقيقة التهم الموجهة له.
أما عن اجراءات المحكمة وكيف تمت:
" دخل القاضي ومعه عضوا اليمين واليسار، ووقفوا خلف المنصة، وكان الأستاذ المحامي يشير بيده هاتفاً:
- انهض. قف.
لكني تنّحت.
وانقلبت المحكة!
خرج القاضي يتبعه العضوان غاضبين، واختلط الحابل بالنابل: المحامي يوضّح لي تقاليد المحكمة. وضابط المخابرات يتوعّد. المدعي العام يمسح جبينه، وينظر من النافذة. حيدر يرجوني أن أمتثل للمحكمة. يونس يرتجف..
فجأة أحسست بخطورة ما فعلت، وهبّت في روحي نشوة الياسمين، فاستمرأت التحدّي.
- محكمة.
دخل القاضي وتابعاه.
لم أقف.
خرج القضاة.
أعجبتني اللعبة، وركبت رأسي.
باسم الملك، تلا القاضي الحكم بعشر سنوات سجن. بموجب قانون مكافحة الشيوعيّة رقم 92 لسنة 1953م." مشهد كومدي أكثر منه جدي/حقيقي، فالشخصيات التي قامت بدورها في محاكمة "هاشم" بمجملها كانت سخيفة، ولا تتماثل مع المحاكم الحقيقية. وأيضا نجد السخرية مما جرى في المحكمة، الحكم الجائر الذي أصدراته، عشر سنوات سجن لتهمة سياسية!، والجميل في المشهد أنه قدم بطريقة مسرحية هزلية، القاضي (يحرد)، وضابط المخبارات يتوعد، المتهم راكب راسه، يا لها من محكمة!، هل هذه هي المحكمة التي يرهبون بها كل من يتعاطى السياسة؟، بهذا (الاستضراط) يقدم "هاشم غرابية" الغولة التي يستخدمونها لإرهاب السياسيين، وكأنه يقول للقارئ لا تخاف منها، أنها محكمة كروتنية، تمثيلة، لا تقدم ولا تأخر، لأنها تنفذ ما يطلب منها، وقراراتها جاهزة سلفا، فأدخل إلى قاعة المسرح وشاهد المسرحية، التمثيلة، لتضحك منها وعلى القائمين عليها.
منطق السياسي المنتمي ومنطق رجال النظام
رغم التباين الفكري والإختلاف العقائدي، يبقى المبدئي يحرم لموقفه ومنطقه: "ذات مساء جاء المحقق المناوب لتفقد الزنازين.
قال للتحريري: انصحه لزميلك. شيوعي متيّس. بده نصير مثل روسيا. الناس هناك يحلموا ببنطلون جينز ما يطولوه. الستات هناك يشرمطن مشان علكة. همبرغر ما عندهم. هأ هأ هأ. وبالصين الشيوعية ما يعرفوا الخبز.
ردّ التحريري بنجابة: خذوا الجينز والعلكة والهمبرغر. والخبز كمان. مقابل أن أنتمي لأمة عظيمة، ودولة صاحبة قرار." بهذه الروح يتم مواجهة النظام، الروح التي تبحث عن الكرامة والعزة، الروح التي تتخلى عن حاجاتها الأساسيبة مقابل ان تعيش حرة وبكرامة، فالسارد هنا يلغي الفوارق الأيدولوجية والعقائدة، ويؤكد على أن الهدف المتمثل بالكرامة والعزة يجمع كل من هو مبدئي مؤمن بأفكار حزبه.
الفكر يواجه بفكر يماثله، والمنطق يواجه بمنطق، الحوار الذي تم بين "هاشم" ووالده يمثل أهم مواجهة فكرية/منطقية" بين فكرتين:
"لما سمحوا لأبي بزيارتي في مكتب مدير المخابرات، هتف بي حانقاً: انت مجنون ولك، تقبل يحكموك عشر سنين بدل التوقيع على سطرين حكي، لا يزيدوا بملك سيدنا شبر، ولا ينقصوا من طولك فتر.
ضحكت مبدياً خفّة دمٍ راقت لوالدي: يابه أنا واحد مجنون زي ما بتقول، لكن الحكومة مجنونة تسجن واحد عشر سنين من شان سطرين حكي؟
أطرق والدي متمتماً: خرا على هيك حكومة.
وتظاهر المحقق بأنه لم يسمع." الجميل في هذا الحوار التماثل بين المنطقين، بمعنى إذا كان رفض كتابة سطرين ينهيان حكم عشر سنوات، فالأولى أن تبادر الحكومة (الكبيرة/الوعاية/الفهمانة) إلى إلغاء كتابة هذين السطرين ـ لتكون عادلة ولا تظلم الناس ـ لمجرد عدم كتابة سطرين.
نلاحظ أن الأب استخدم صيغة التكبير للحكومة "شبر" والتصغير لهاشم "فتر" وهذه اشارة غير مباشر إلى أن الكبير/المسؤول (لا يعي/لا يفهم) دوره، لهذا يطلب طلب (تافهة) كتابة سطرين حتى لا يقوم بسجن "هاشم" عشر سنوات.
ولكي لا يكون كلام السارد مبالغ فيه، وليس من خياله، يبين لنا ما في السطرين: "أنا الموقع أدناه، أستنكر الحزب الشيوعي الهدام، وأعلن ولائي وإخلاصي لجلالة الملك المفدى، ولحكومته الرشيدة." وهذا ما يجعل القارئ يتوقف أمام السجن والتحقيق والحكم، فهل يعقل أن تكون هناك حكم بهذه المدة الطويلة، يقابله فقط كتابة ما جاء في السطرين؟، وهل هناك حكومة تحرم نفسها وتقدوم بتعذيب وسجن شخص لمجرد عدم كتابته لهما؟، وهل هناك عدالة/علاقة/توازن بين السجن عشر سنوت وهاذين السطرين؟، اعتقد أن من يقرأ هذه السيرة يصل إلى (قرقوشية) الحكومة والنهج الذي استخدمته بحق كل من ينتمي للأحزاب أو الفصائل الفلسطينية، ويصل إلى مستوى القمع المستخدم من قبلها بحق المواطينين، وعلى انها حكومة أمن ومخابرات، وليس لها علاقة بأي بالقوانين ولا تعرف شيئا عنها.
نفسية السارد
السارد إنسان، بمعنى أنه يتأثر بكل ما يجري له، يفكر بالمعادلة التي وضع فيها، كتابة سطرين مقابل الإفراح عنه، لهذا كانت كتابتهما هاجسه، فقد قابله مدير السجن أكثر من مرة وكان يطالبه بكتابتهما: " صرت أعرف ماذا سيقول المدير، وماذا سيفعل. وإلى أين ينظر.
سيخرج قلم BIC من جيب سترته العلوي. يخرجه.
سيدقّ الطاولة بأسفل القلم دقّات رتيبة. يدق.
سيسحب غطاء القلم، ويثبته على الجهة الأخرى. يثبته.
سينفخ في كفيه. ينفخ.
سيقرأ الورقة التي أمامه. يقرأ:
- إذن ستواجه المحكمة.
- إنها محكمة عسكريّة.
- لا تمييز ولا استئناف.
- عشر سنوات مقابل التوقيع على سطرين حكي!؟" فالمنطق لا يقبل أن يسجن شخص عشر سنوات مقابل كتابتهما، وبما ان السجين كان في بداية العشرينيات من عمره، فمن حقه أن ينظر إلى حياته، ويفكر بما يطلب منه وبحالته كسجين، لهذا كتبهما، وابقى الورقة في جيبه لتقديمها، وكانت تراوده نفسه بتقديمها، لكن كان دائما يؤجل تقديمها لمدير السجن، وجاءته أفكار عديدة وكثيرة تدفعه مرة هنا ومرة هناك: "(لا لن أتعوّد هذه المرارة. لن أستسلم لزمن السجن ورتابته. سأستنكر الحزب، وأعلن ولائي، وأستريح.)" من هنا تكمن أهمية "سنة واحدة تكفي"، فهي لا تقدم لنا شخصية سوبرمانية، بل شخصية بشرية/إنسانية، تقوى وتضعف، تتقدم وتتراجع، تفكر بالحياة العادية/السوية كأي شخص آخر، فالتفكير لم يقتصر على فكرة الخروج من السجن فحسب، بل طال جوانب الحياة المختلفة، فهناك أشخاص مهمين للسارد، وهناك حزب ينتمي له وينتظر منه الصمود، وهناك المخابرات التي تنتظر استسلامه وكتابة السطرين/الإستنكار، وهنال هموم "هاشم" ومتطلباته الشخصية: "- آه يا صديقاتي كم أضعت من الوقت في مدح الاشتراكية، وفاتني أن أقول كم أنتن جميلات.
هل الوطن سعيد لأني في السجن؟
المخابرات سعيدة بزجي في السجن، والحزب سعيد بصمودي، وأصدقائي سعداء لأني لم أشِ بهم.
الوطن سعيد جداً بدوني.
لكن أمي ليست سعيدة. لا أريد أن أصير بطلاً. فقط أريد أن أعيش مثل باقي خلق الله. طز بالحزب. طز بالحكومة. طز بالأصدقاء. سأستنكر و.. أصير حرا." كلما تحدث السارد عما في نفسه وبما يفكر، لكما أكد على إنسانيته، وعلى أنه بشري وليس رجل خارق، بمعنى أنه يؤكد على واقعية الحدث وعلى صدق وأمانة ما يكتبه، لهذا يحدثنا عما يجول في نفسه من هواجس وأفكار متضاربة.
حال الاضطراب/الصراع بين الصمود والاستسلام كانت على مدار العام الذي قضاه "هاشم" في سجن اربد، يحدثنا عن حالة الإرباك التي لازمته عندما فكر بتسيلم الورقة: " في المنام رأيت ورقة الاستنكار على هيئة عتبة على باب السجن بارتفاع شبر، أخطو فأجتازها إلى الخارج، لكني أجد نفسي في الداخل. أخطو مرة إثر مرة إلى الخارج وأجدني في مكاني. أستيقظ وأنا عبثاً أكرر المحاولة.
بكيت حتى بللت مخدتي." لو تتبعنا "سنة واحدة تكفي" لوجدنا تركيز السارد على فكرة التراجع التي مر بها، وهذا يشير إلى أنها كانت أحد عناصر الضغط التي تعرض لها، فرغم أنه تعدى مرحلة التعذيب الجسدي وتجاوزها بسلام، إلا أن الصراع النفسي استمر حضوره ومأثره على السارد.
يعرفنا أكثر على ما يمر به من صراع، ويطلعنا على الأفكار التي تراوده وكيف يفكر، موازيا بين الثمن الذي سيدفعه في حالة الصمود، والخسارة التي ستلحق به في حالة الانكسار" يا خسارة. وازنت بين مكسبي الذاتي، وخساراتي العامّة؛ أحترم حزبي، وأحب رفاقي. في الجامعة نافحت عن مبادئ حزبي، وزاودت على منتسبي التنظيمات الأخرى بمواقف قيادته الشجاعة، وتضحياتهم الباسلة في فلسطين والأردن.
هنا لا أحد يحفل بهذه "الترهات"." إذا ما توقفنا عند هذا الأفكار نجدها تميل
إلى جانب الصمود والثبات وعدم الإنزلاق، هذا ما نجده في المضمون الذي يحمله المقطع، وأيضا في الألفاظ الإيجابية التي استخدمها: "أحترام، أحب" ونلاحظ أنه يستخدم ياء المتكلم، يا التوحد/الانتماء "حزبي (مكررة)، رفاقي" وهذا ما يؤكد على رجحان كفة الصمود على التراجع.
يمكن القول أن هاجس الاستنكار وعدمه كان أحد أهم مفاصل "سنة واحدو تكفي"، وذلك لأن السارد استمر يحدثنا عنها: " مع تسلل خيوط الفجر إلى المهجع كان قد اتخذ قراره.
- أنا شجاع. مثلما تحديت التحقيق وملحقاته، أستطيع تحدي الاستنكار وتبعاته.
كتب الاستنكار بخط جميل في وسط صفحة بيضاء حجم A4، وكتب اسمه كاملاً. ذيّله بتوقيعه، والتاريخ الهجري والميلادي. ونام قرير العين.
استيقظ منتصف النهار عند صفارة العد النهاري. سحب الورقة التي كتبها، قرأها على مهل. دسّها بين أوراقه. واقترح على نفسه أن يسلّم الاستنكار لادارة السجن صباح الغد.
ما الذي يعصمه من مغبة الاستنكار؟ هل هي جرأة امتلاك سلطة ما. ولو كانت مجرّد سلطة حقّهِ في قول لا.؟" وكأنه يريد القول أن هذه السنة كانت الأصعب عليه، لهذا لم يتناول بقية فترة اعتقاله، واختزلها بما تعرض له من (صراع) نفسي في السنة الأولى في سجن أربد تحديدا.
وبما أن السارد استخدم صيغة السرد الخرجي في هذا القسم، فهذا مؤشر على أنه كان يمر بمرحلة نفسية صعبة وقاسية، ونلاحظ ان أفكار كتابة الورقة وتسلمها، الإستنكار، تأخذ شكل الوسواس الشيطاني، الذي (يُجمل) الفكرة لصاحبها، رغم ما فيها من شرور، فهو يقنع نفسه بشجاعته، متخذا صموده في التعذيب كرافعة ليتقدم من الانزلاق دون خوف أو تردد.
يعرفنا السارد أكثر على ما يمر به من صراع، وكأنه حسم مسألة التسليم بالأمر والواقع، وعليه أن يجد مخرج من هذا المأزق، ليس السجن، بل العذاب الذي هو فيه، فصراعه الآن بين حريته الشخصية ووفاءه للحزب وللرفاق، حريته في أن يختار الطريقة التي تمنحه الراحة والسكينة، فالسجن لم يعد هو الهاجس بقدر فكرة الحرية الشخصية التي تلاحقه: "هي شعرة بين أن يسمي إعلان الاستنكار جرأة، وتوقاً للحريّة، أو أن يعتبره خسّة، وانهياراً، وضعفا.
- أنا من يقرر ذلك ليس الحزب، ولا المخابرات، وليس الأصدقاء، ولا الخصوم. فيم كل هذا العناء؟ سأستنكر، وأوالي، وأقرّ لحكومتنا بالرشاد."اااااااا وهذا ما يؤكد على أن القسم الثاني من "سنة واحدة تكفي" كان هو الأشد وقعا على "هاشم" فهو من خلال تحرر نفسه من السرد، يظهر وكأنه بداية التحرر من الإنتماء للحزب، ومن الانتماء أي جهة أخرى، فهو الآن ينتمي "لهاشم" فقط، هاشم الباحث عن حريته الشخصية، دون أي ضغوط من أيا كان، لا من الرفاق في الحزب ولا من ضباط المخابرات.
بهذا يكون السارد قد تحدث عن "هاشم" الحر الذي يفكر بحرية، ويرفض أن يكون تحت إمرة أيا كان، لكنه يكتشف أن وضعه في السجن له اثر على هذه الحرية، والسجن وهو الذيؤ يوحى له بهذه الشكل من التفكير: " لكنّه عندما قرّر ذلك رأى نفسه مثل حيوان السيرك الذي يخرج من ساحة الخيمة المسيّجة، ليدخل في قفص ثقيل يرافقه أينما ارتحل.
دسّ ورقة الاستنكار بين أوراقه. وظلّ يتقلب
ما هي الجرأة؟.
كتب بقلمه الكوبيا:
(ماذا يتبقى مني إذا سلبت الحق بقول لا.
الحرية هي أن يكون لنا الحق بقول لا.
لا؛ خصبة. نعم سهلة. خانعة. قاحلة.
لا؛ مفتاح الحرية.
لا شيء يهب الجرأة كنسيم الحرية.)" نلاحظ أن الاسئلة وطريقة تفكيره قلبت المعادية، وأظهرت ان داخل (الحرية) التي يتغنى بها حالة من الإجبار والإكراه والإستسلام لما هو فيه، كما أنه يربط الجرأة بالحرية. لهذا يحسم امر الإستنكار في القسم الثالث الذي جاء بصيغة أنا المتكلم: "أخرجت ورقة الاستنكار، قرأتها على مهل كأنما تخصّ شخصاً غيري. كعبلتها بلا اكتراث، وقذفت بها إلى سطل القمامة عند الباب." وكأنه فيه استعاد هاشم المبدئي/المنتمي حريتة، بعد أن تحرر من هواجس النفس الأمارة بالسوء، ومن الوسوسات الشيطانية التي لازمته.
هذه الهواجس تأخذينا إلى ما تعرض له المسيح أثناء الصلب، عندما جاءه الشيطان وهو قي ذروة الألم يدعوه ليسجد له، وكان هذا الأمر اشد عليه من الصلب وما فيه من الم، لكنه تخلص من ذلك الإغواء وتحرر منه، فتركيز "هاشم" على المراودة/الإغواء في "سنة أولى تكفي" أراد به إيصال فكرة أن النفس البشرية أمارة بالسوء، وأنها يمكن أن تأخذ صاحبها إلى الهاوية، إذا لم يلجمها ويفكر بطريقة عقلية حرة بعيدا أهواء النفس.
فنية التقديم/الصور الأدبية
إذن نحن أمام أحداث مؤلمة وقاسية، ليس على السارد فحسب، بل على المتلقي أيضا، فلو تم تقديم تلك الأحداث دون عناصر تجميلة ومقبلات لكانت عسيرة الهضم على القارئ، لهذا كانت فنية تقديم لهذه الأحداث تتوزاى أهميتها مع الفكرة المطروحة.
الصورة الأدبية تساهم في تخفيف صورة الألم، من خلال استمتاع القارئ بالصورة، فالمتعة التي تأتي بها الصورة تزيل/تمنع/تحجب شيئا من ثقل وقع الحدث، وهنا يكمن أبداع السارد، الذي يقدم أفكار قاسية ومؤلمة بأقل الأضرار النفسية على القارئ، وكأنه يقول له، أنا لا أريد ان ازعجك بما تعرضت له من عذاب وألم، لكن الفكرة تصل.
واللافت في "سنة واحدة تكفي" أن السارد ينثر الصور في كل اقسام الرواية، بحيث كلما كانت هناك نار مشتعلة أوجد لها ما يطفئها، من هذه الصور: " الوحدة صحراء تزحف إلى لبّ الروح. في العزلة يطير الطائر ما بين المنكبين أربعين خريفاً ولا يصل.
ليلة في العزلة كألفٍ مما تعدّون. ما أصعب معاشرة الزمن وجهاً لوجه بلا شريك. الزمن لا يُرى نهره في العتمة الساطعة، ولا تدرك ضفافه عبر التكرار الصارم لوجبات الطعام، ومواقيت الخروج إلى الحمّام." نلاحظ أن السارد يتناول العزلة وما يلازمها من يقل للوقت، فلا يقتصر أذيتها على مسالة بعينها، بل تطال مسأئل أخرى، الوقت، السواد/"العتمة"، لكن هناك جمال، وجمال استثنائي داخل هذه الظلمة الموحشة، "الوحدة صحراء تزحف إلى لبّ الروح، الزمن لا يُرى نهره في العتمة الساطعة" أليس هناك متعة بقراءة هذا المشاهد، فنحن أمام صيغ ادبية تكفي القارئ ليتقدم من الجحيم دون أن يصاب باي أذى/ألم.
يحدثنا عن مقابلته لمدير السجن الذي أراد تدجينه وتحوياه إلى شخص عادي، يرضخ للواقع: " قررنا تظل عندي. أقرب لأهلك.
راقبت خيطاً طرياً من القهوة على جانب الفنجان المشروم أمامي. رفعت فنجان القهوة بهدوء، فترك قعره دائرة سوداء مغلقة على الطربيزة. كان الفنجان ثقيلاً ثقل العشر سنوات القادمات." رغم أن الحدث عادي، لقاء وشرب قهوة، إلا أن ثقله كان هائلا على "هاشم" لهذا ماثل شرب الفنجان بالمدة التي سيقضيها في السجن. وهذا يأخذنا إلى شخصة السارد، فنحن امام شخص حساس، يحمل مشاعر مرهفة، يتأثر بأي شيء وبكل شيء، من هنا نفهم لماذا كان حديثه مفصلا عن حالته النفسية وما رافقها هواجس وصراع بين الصمود والاستنكار، بين حرية الشخصية والواجب تجاه رفاقه وتجاه الحزب.
السخرية والفكاهة
وجود "عساف" ابن عمي "هاشم" في السجن كان أحد عناصر القوة "لهاشم" حيث منحه روح المداعبة، فرغم انه سجين اميني وليس سياسي، إلا أنه أضفى روح مرحة على هاشم وعلى الأحداث وعلى القارئ، فكانت هو فاكهة "سنة واحدة تكفي.
من المشاهد الممتعة التي قام بها، مقابلته لعمه الباشا الذي أقنعه بأنه تاب وسيكون مواطن صالح، لكنه يقوم بخدعة ولا في الأفلام: "- ولكن بودّي أتوب عن جد يا عمي.
- دوّر شغل بالسوق، واثبت حسن سلوكك. بعدين يمكن نساعدك.
دفعاً للبلاء منحه الباشا عشرة دنانير، وأرسله مع سائقه الخاص ليوصله إلى باصات إربد. فما كان من عسّاف إلا أن طلب من السائق التوقف أمام محل أثاث فاخر.
- أنا فلان الفلاني. عمي الباشا. وهاي هويتي.
- أي خدمة يا بيك؟
- الباشا يجدد أثاث داره، بدنا ثلاجة وغسالة وتلفزيون و. و
صرف عسّاف بيك سائق الباشا، وحمل غنيمته في شاحنة، وذهب ليبيعها في السوق.
وصلت الفاتورة إلى الباشا بستة آلاف دينار. وسجن عسّاف.
سألت عسّاف: بكم بعتها يا عسّاف؟
- بألفين.
-. بعتها برخيص.
- أبداً. هيه هيك بالجملة، انت ما تعرف جشع التجار.
- شو عملت فيهم؟" بهذا الشكل كان "عساف" أحد عناصر الترفيه التي امتع القارئ كما امتع "هاشم"، وأعطت السيرة رونقا جماليا، ساعد على ابعاد القارئ عن مشاهد القسوة والالم.
لم يتوقف الأمر عند "عمه الباشا، بل طال ايضا مدير السجن: " نُقل عسّاف إلى سجن الزرقاء رغم أنه لم يبق من محبوسيّته إلاّ شهر لأنه نصب على مدير السجن نفسه.
كتب للنقيب عطا الله تقارير مبالغ بها عن وجود ذهب مع المساجين، وهذه حقيقة لكن بشكل قليل ومشروع: خاتم. سنسال. ليرة عصملي.
ثم وشوشه أن بإمكانه أن يلم له الذهب من المساجين بسعر بخس.
- لا يكون مسروق يا عسّاف؟
هنا كشف عسّاف نواياه لحضرة الضابط. رغرغ حرف الراء، وهمس: مسروق. منصوب. منهوب. انت يهمك تربح. القرش يرمي قرشين بأسبوع زمان.
وباعه كيلو ذهب فالصو !
الضابط لم يجرؤ على فتح قضيّة ومحاكم لعسّاف، وبكلّ ما عنده من صلاحيات استطاع نقل عساف إلى سجن آخر." بهذا يكون السارد قد أمتع القارئ، وفي الوقت ذاته قدم صورة سيئة عن مدير السجن، وفساد رجال الأمن.
البساطة
لم يكتفي "هاشم" بالحدث عن مغارمات "عساف" وما فيها من متعة، فيحدثنا عن احد الرفاق الذي أراد الحزب تزوجيه برفيقه لكنه رد عليهم قائلا: "أتذكر قصة تداولها الرفاق عن رفيق بدوي أراد أن يتزوج، فاقترحوا عليه فلانة، فقال لهم. اخسوا يا شينين هاذي رفيقة ما تجوز لي." وكأن السارد يعي قسوة الأحدي وانها ثقيلة الوقع عليه وعلى المتلقي، لهذا أوجد لنفسه وللقارئ ما يخفف عنهما، فكانت هذا المشاهد الناعمة والبسيطة بمثابة استراحة (مقاتل) يتقوى بها للاستمرار في حربه/معركته.
الأم
ومن عناصر التخفيف، استحضار الام، التي جاءت بصورة ناعمة وهادئة، تحمل بين يديها الحنان والعاطفة التي يحتاجها "هاشم" في حربه القاسيه مع السجن والسجان: "تفوح رائحة الياسمين ببساطتها المذهلة، ويحضر طيف أمي بجدائلها الخصبة المدلاّة كحبل نجاة.
- يمّه؛ روحي ترفرف مثل عصفورة منتوفة الريش تحنّ إلى دفئك.
أحنّ إلى صوتك، وأستعين على حبس دموعي باستعادة قصصك قبل النوم.
(كان ياما كان.
كان فيه حديدوان.
وكان فيه غولة." اختيار "هاشم" الأم في فترة الطفولة، يشير إلى الحاجة الملحة لها، وعلى قدرتها على تحريره من الالم الذي يمر فيه، حيث نجد حنان الأم، أيضا براءة الطفولة معا.
وإذا أضفنا وجود الطبيعة: "الياسمين، الخصبة، عصفور" ووجود الكتابة/الحكاية التي تقصها، نكون أمام ثلاثة عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها الأدباء وقت الشدة، ويبقى عنصر التمرد/الثورة غير مستخدم.
ونلاحظ ان السارد يستخدم للغة المحكية، تماما كما سمعها من امه، وهذا يؤكد على تماهيه مع الصورة/المشهد، وإلى حاجته الملحة لها ولما تحمله من عاطفة هو بأمس الحاجة إليها، فكان صوتها/لغتها/كلامها حاضرا كما هو دون أي تغيير أو تبديل.
السجين بحاجة إلى الدفء، الدفء المادي والدفء العاطفي، "هاشم غربية" يقدم صورة تجمع هاذين الدفئين معا: "صار من أصحاب العفش، استبدل برشه بفرشة صوف ولحاف ومخدّة جاءته من البيت.
- ما ألذ رائحة الأم الكامنة في الشراشف المغسولة.
اختنق بعبرات الحنين.
- أحبك يمّه. دموعي تسحّ حنيناً لدفئك. سامحيني يمّه، وحدك تحتسبين جحودي وفاء مؤجلاً، وترين في نقصي كمالاً. وتلهجين باسمي مع تسابيح الفجر." جمالية هذه الصورة لم أجدها سوى في رواية "سجن السجن" لعصمت منصور، الذي تناول فيه ثنائية الدفء بطريقة لافته.
وللمقارنه استعين بصورة أم عصمت منصور: "طويت نفسي داخل الحرام وانكمشت دون أن أعرف حقًا هل أحتمي به من البرد أو أضمه إلي بحب لما يختزنه من أثر يذكرني بأمي ويحمل رائحتها وصلواتها ..إن حرام أمي فجر دفعة واحدة كل ما يكتنز في داخلي من دفء" ص69. " رغم تباعد الحدثين والمكانين والشخصين إلى أنهما تحدثنا الروح واحدة، فالجمالية المزدوجة لم تاتي من الكاتب، بل مما تركته الأم فيه، لهذا كان حضورها يحمل هذه الثنائية.
وهناك صورة الأم البكر، تلك التي ما زالت تقوم بكل أعمال بيت، من كنس وتنظيف، وتحضير الماء للإغتسال، والخبيز لأطفالها وعائلتها: "يرى وجه أمه يتموج بين زهر الياسمينة وهي تكنس باب الدار في ضوء الفجر الأبيض.
يسمع خرير ماء. هل قام أبي إلى وضوئه؟
يشم رائحة خبز. هل هي أقراص العيد تخبزها أمي؟" عندما يكون المقطع خالي من الألفاظ القاسية/السوداء، فهذا تأكيد على تماهي السارد/الكاتب مع الحدث/الشخص الذي يتناوله.
فالألفاظ المستخدمه بمجملها بيضاء وناعمة: "يرى، وجه، أمه يتموج، زهر، الياسمينة، باب، الدار، أبي، ضوء، الفجر، الأبيض، يسمع، خرير، ماء، وضوئه، يشم، رائحة، خبز، أقراص، العيد، تخبزها، أمي؟ " بحيث لا نجد فيها ما يعكر صفوتها، أو يشوه جمالها، فهي نقيلة كنقاء الأم، وناعمة كنعومتها، وجمكيلة كجمالها، وهذا ما يجعل المقطع مضمونا وشكلا وألفاظا منسجم مع ما تحمله/تعنيه الأم.
في حالة الخوف تأتي الأم لتكون المنقذ/المخلص، فهي الملاذ الأهم بالنسبة لأولادها، يحدثنا "هاشم" عن هذا الأمر من خلال: "انفتح الباب0 ياه ما أوسع السماء!
لمع البرق كأنما يشق صدعاً في جدار الأفق. لمحت وجه أمي بين ضفيرتين من زهر الياسمين تفتح ذراعيها. عبرت الباب. السماء ترمي نتفاً من الثلج تتطاير مثل الريش0خفير ملتصق بكوخه الخشبي يطلق صفارته. أتجمّد مذعوراً0" نلاحظ أن السارد يركز على فصل الشتاء وهو فصل الأقتراب أكثر من الأم، حيث تكون مدقأتها متقدة وحضورها يمنح الدفء.
في المقطع السابق، نجد ألفاظ قاسبة: "يشق، صدعا، ترمي، أتجمد، مذعورا" وهذا يعود إلى الطبعة الخارجية وأثرها على السارد، من هنا نجده يشير إلى حاجته إليها، لتخلصه من قسوة الطبيعة، "ضفيرتين، ذراعيها" فاستخدام السارد لصيغة المثنى يحمل بين ثناياه حاجه للقاءها، وكأنه يستعين ب"الضفيرتين، ذراعيها" ليتخلص من شدة البرد والذعر.
المشاهد السابقة تتناول الأثرالمعنوي الذي تتركه الأم على "هاشم" لكن هذا لم يمنع من وجود حدث حقيقي/واقعي: يحدثنا عن المقابلة التي تمت بينهما في السجن: "أختك خلّفت ولد سمته على اسمك. تلمع عيناها بفرح طفولي وهي تقول: صاروا سبعة بحواره على اسمك.
لا تتكلّم كثيراً، لكنّها تشد أزري بطريقة لذيذة لا تجيدها إلا الأمهات:
- ما يقطع الراس غير اللي ركبّه." هكذا تكتمل صورة الأم، الأم ومت تتكره من أثر، والأم الحاضرة الآن، التي تمنح القوة والعزيمة.
وإذا اخذنا مغامرات "عساف" الذي اضحكنا وأفرحنان أملئنا بالنشوة، وأخذنا الحنان والعطفة التي لازمت الأم، نكون بين أمرين رائعين، الفرح من جدعة، والحنان من جهة أخرى، هكذا ـقوى "هاشم" يتجاوز السنة الأصعب في السجن.
الكتاب ملف وورد.