قراءة نقدية لنص سريالي للأديبة رجاء البقالي
النص
عازف الليل
عند منتصف الليل , ينزل من عليائه يلتحف الســواد .. يرمي نظراته في الفراغ
و يبدأ طقس الليلة .. طقس كل ليلة ..
بكفين طويلتين يمسك بالكمان القاني و يشرع في شق الســـــــــــكون المميت ..
نقرات ثلات على الأوتار تكفي لإيقاظهم ... تتزحزح الأســـــــــــرة الحجرية ..
تتعالى الأيدي في السماء .. تتشابك ، ثم تتقافز الأجســـاد ، تتراقص على أنغام
سحرية ، تسابق الزمن خوفا من أزوف الموعد اللعين .. .
بيد يمسح دمعتين ، و بالأخرى يلوِّح اليهم بالكمان و يعود إلى منصته الصخرية ..
يصيح الديك الأســـــود ، ينثر الصبح ضياءه على ذلك التمثال الحجري الحزين
و هو يتوســط المقبرة .. يحتضن الكمان في عناق أزلي ، و القبور مطبقة على
هياكلها بعد رقصة الليلة .. رقصة كل ليلة .
رجاء البقالى
القراءة
عندما تكتب أديبة مذهلة ،بقلم واع و موسوعي، بأدوات بارعة ،خارجة عن العادي والنمطي، فهي تستقطب عوالم القارئ الحسية في فراغ وجودي مطلق ممتد بلا حدود، غارق في رومانسية سوداوية عذبة، يتجرد فيه القارئ من وعيه وثوابته ويحلق في انسيابية اللغة وعمق الطرح و إطباق المشهد الفلسفي، و بين ذاتية العازف ذي الصفات الملحمية المبهمة فنراه نازلًا من عليائه،منبلجًا من سواد رمزي، حاملًا كمانه الأحمر بكفيه الطويلتين، مطلقًا طقسه الثلاثي المبهم من منصته الحجرية، غارقًا في الحزن بين عالمه السماوي، وبين عالم البرزخ الشهي بغموضه ولهفته وغيابه، ،حين تصبح الموسيقى نوعًا من التواطئ الصامت، بشغفها وقلقها وهواجسها،ينغمس فيه القابعون في العالم الآخر فيتسللون بوعيهم وهيئاتهم الشبحية إلى الحياة بخجل،لتفاجئنا الكاتبة بتلك النهاية المبهرة و السريالية،حين تنتهي أسطورة لقاء العوالم، تبقى روح خلاقة آسرة تقطن جمادًا تليدًاخلدها إبداعها،خارج هياكل المقابر وبرزخ الراحلين ،خارج مفهوم الزمن الهلامي الذي لا يملك إلا أن يتكرر (الموعد اللعين)، فتطلق بألحانها الخرافية امتدادًا تتواشج فيه الكيانات التي صلبها الموت والانتقال
في عالم جديد مبتكر، خارجًا عن قوانين المعقول، محلقًا في توازٍ متكامل وساحر.
الإبداع في فلسفة الأستاذة رجاء البقالي،قادر على إذابة الزمن والعبث بالموازين و الخلود خارج منظومة الوجود الجسدي،خارج مفاهيم نسبية الموت كحقيقة تتحدى الحياة،وأرى عازف الكمان، بحزنه وتفرده ومشهدية وجوده الرمزي الوجداني، مثل (أورفيوس) الذي جاب الأرجاء بموسيقاه، مستعطفًا آلهة العالم السفلي، ليخرج زوجته الحبيبة يوريدس من عالم الأموات، ليفقدها مرة أخرى بين الشك واليقين حين ينظر للخلف، متأكدا من وجودها، ناسيًا انه سيفقدها مجددًا للأبد حين ينظر خلفه، محطما طقوس الآلهة وقوانينهم.
البطل هنا يكفر عن ذنب الأسطورة، فتتحول القيثارة لذلك الكمان الحي وكأنه ذو قلب خافق ودم( قاني) وإحساس إنساني شفيف، قادر على تخليد التوق لمن فقدناهم، وحدهم المبدعون (عازفو الليل)، الخارجون عن كل مألوف، قادرون على الخلود للأبد.
ياله من إذهال يا أستاذة رجاء.