"من الذي جر النهر إلى العطش"
زاويتي في العدد(١٧٣٩) من جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
من الذي جرَّ النهر إلى العطش ؟
منذ أيام جرى حوارٌ بيني وبين ناقد عربي حول الشعر والقصيدة الحالية. قال: ألا تلاحظين خفوت الشعر؟ لقد صدّع أنصافُ الشعراء رؤوسنا بما ينشرون على صفحاتهم ، ثم فجأة سكت معظمهم ، إن لم يكن كلّهم، انطفأوا مرّة واحدة.
قلتُ : هذا يؤكدُ أنَّ الشعر في أزمة.
قال: كتبَ الكثيرون القصائد، واعتلى الكثيرون المنابر،وتجمّع الكثيرون في ملتقيات، ولكن قلة هم الشعراء، فلو أردنا أن نستعيد أبيات قصيدة ما لشاعرٍ أو شاعرةٍ ، هل نستطيع؟
أجبتُ: الحقيقة لا يمكننا ذلك، لأنَّ ما يُكتب اليوم وأعني في السنوات العشر الأخيرة لا يُغري بتجذره في الذاكرة، على الرّغم مما يُطبع من مئات الدواوين في العام ، ولكن من يتذكر عنوان ديوانٍ لشاعر ما ، أو قصيدة تركت أثر خطوها في المشهد الشعري؟! ما إن نقرأها حتى تنطفئ على الفور وكأنها تحمل بذرة خفوتها معها!
هناك سرٌّ!
بل هناك أزمة حقيقية في الشعر العربي الحديث، فالذي ينشر الآن على الأغلب هو قصيدة نثر – على الرّغم من جماليتها-غدت مستهلكة، مكرورة، لا موضوع جديد، ولا معان لافتة ولا صور مبتكرة ولا.....
هل الشاعر هو السبب؟
بالتأكيد.. دعنا نطلق عليه مبدئياً صفة شاعر ، فهذا ال شاعر يزاحم ويخوض في نهر الإبداع بثقافة محدودة ، بينما الشعر يستوجب ثقافة عالية وتجربة حياتية وفكرية واجتماعية ، ناهيك عما يجبُ من امتلاك أدوات فنية ، وموهبة ولغة، وأفكار وإن كانت مطروقة سابقاً لكن يجب صياغتها بطريقة غير مطروقة.
منذ أربع سنوات أحصيت على "الفيس" الشويعرات اللواتي ظهرن فجأة خلال الحرب السورية بأسماء صريحة ممن كن واثقات زيادة عن اللزوم مما ينشرن، ومستعارة حيث يحسبن حساباً لل....
وبوجوه ظاهرة إن وجدت بعضهن مسحة جمال فيها، أو مقنعة لأنهن قبيحات.. المهم وصل عددهن إلى مائة واثنين وعشرين شاعرة.
ربكِ أعلم بثقافتهن وكيف ظهرن ومن ورائهن؟
قلت لنفسي : ليكن، الكتابة الرّديئة ربما أفضل من اللا كتابة ، والانشغال بالأدب خير من الانشغال باللا أدب، وذلك بعدما أقنعني د. تيسير مشارقة من خلال مقالة له إذ طالب بالكتابة الرديئة في السينما لأنها تفتحُ الباب أمام كتابة جيدة ، فأقنعت نفسي أنَّ ما ينطبق في الكتابة السينمائية قد ينطبقُ على الكتابة في كلِّ الأجناس الأدبية.
انحراف النهر يدلُّ على عملية تخريب بلا ريب.
هذا ما قاله عمر أبو ريشة منذ زمن بعيد، قال :" إنَّ الشعرَ العربيَّ خضعَ منذ خمسينيات القرن الفائت إلى تخريبٍ مقصود.
لم الشعر العربي تحديداً؟
هذا السؤال طرح على شاعرنا أبي ريشة فأجاب : لأنه من مقوّمات الأمة وأحد عناصرها الثقافية، وعملية التخريب هذه من شأنها فصل حاضر الأمة عن ماضيها وإضعاف هويتها الثقافية وإلهائها في معارك جانبية حول الأشكال الشعرية و....."
لسنا نخوض في أنواع الشعر، بل في يباسه.
وهذه هي أزمته كما قلتِ.
تتشعبُ الأزمة إلى أزمات ؛ فكرية واستسهال وركاكة وسرقة، وأحياناً غموض فيه تكلف، وأزمة لغة وتلقٍّ.
والأنكى من ذلك كله هي أزمة ثقافة. لا أحد يقرأ ، لا أحد لديه الوقت ليطلع، فهل يأتي الشعرُ من فراغ؟ .
ضحك الناقد وقال: قرأتُ مرّة أنَّ أحمد شوقي شوهد وهو يحملُ ديواناً فيه شعر من العصر المملوكي، فأثار انتباهَ وفضولَ من رآه، فقال لهم موضحاً فعلته: على الشاعر أنْ يطلع على شعرِ كلِّ العصور، فلا يدري من أين تأتي الفائدة؟!
والآن وبعد كلِّ هذا الفيض من القصائد العابرة ، ييأس الشعراء والشواعر- سمّهم هكذا-من الاستمرار في نشر خواطرهم فيعلنون اليباس.
إنه التكرار والنمطية وسطحية ما يطرح، ولعلَّ السبب أيضاً هي اللغة العادية، وأحياناً الغامضة، والتطفل على الشعر دون موهبة ، كلّ هذا أدى إلى نفور المتلقي وبالتالي انحراف النهر عن مسراه وجرّه إلى العطش.
الحوار في هذا الشأن يطول، لكن السؤال الذي
يشرئب الآن: هل رأيت نهراً يعطش؟!
" البقية تأتي"