دراسة نقدية لنص (الثأر والليل)
قصة
مهاب حسين مصطفى
نـــــــــــــــــقد
كنانة حاتم عيس
في تلك النصوص السريالية المتأزمة، البعيدة عن الواقع والمجتثَّة منه والكشفية باحتدامها الرمزي و المثيرة للقلق بحيثياتها الدلالية والسياسية، نجد الكاتب الرائع الأستاذ مهاب مصطفى، قد استقطب قرّاءه الضمنيين لعرضٍ ما ورائيٍ، قطباه حسية المكان وتشابك الشخصيات، امتاز بلغة هجينة بين المتانة والشاعرية لينقل لنا سيطرة الزمكان النفسية على السارد وتقلباتها وقدرتها على استحضار التاريخ المشبوه وإسقاط شرعيته بوضوح وانبلاج ونخبوية.
أعلن لحظات الإيهام السائدة في النص كانبثاق طاغ لضبابية الأحداث و توهم السارد وتغلغل الموروث، وازدواجية كل شخصية على حدة ودورها الفاعل في خلق انسيابية الفكرة التي تلوكها شعوب مصر كبقية الشعوب العربية، من مآس وآلام وأحزان ووخيبات وانكسارات ومذابح وانقلاباتٍ منذ الأزل حتى هذه اللحظة.تلك العلاقة الآثمة واللامتكافئة بين الشعب والسلطة، بين المدني والعسكري، بين العسكر والخلق، بين رغبة الحياة لدى العامة وطغيان القادة وطموحاتهم. فالتاريخ هنا لن يتوقف عن مضغ نفسه،وتغيير قبعاته، واستبدال هيئته، طالما ستبقى السلطة متغيرة المظهر واضحة المعالم عصية إلا على الهيمنة واللاحياد.
مشاهد متواطئة ضد السارد وأبيه وجده ثم ابنه، لا فكاك ولا مهرب منها. أليس الشعب بأجياله المتعاقبة من يدفع ضريبة وجوده أمام مخططات الفتوحات والانقلابات وسقوط الدول وقيامها؟ وكما ورد على لسان السارد
لا أحد يريد إنبائي بالحقيقة
وكما ورد على شخصية صديق الأب
كنت أعلم بأنك ستأتي فلم ينج أحد
لا نجاة لشعب مقموع مهما تغيرت سلطته في النهاية.
يبدأ النص بحدس السارد الذي لا يفتأ يحذره من مواجهة ما، موعد مجهول مع رجل غامض، مرسال متنكر، ينبثق من اللامعلوم، ويبدو فرعوني المظهر ثم يرتدي جبة وقفطانا، و ويستمر بتغيير هيئته بتغير التاريخ ذاته، وبتبدل المكان، ويظهر ذكاء الكاتب في تحوير مشاهد التسلسل الزَّمني التاريخي، فتبدأ المواجهة المزعومة من من عصر الفراعنة، ينتقل المشهد لاعتراف السارد بأصوله الفاطمية ، وأصول جده السلطوية العثمانية ثم ينتقل ل (باب الفتوح) المفصل التاريخي بين انتهاء حكم الفاطمين( وبدء الدولة الأيوبية) ليعود للمقهى المقابل لقلعة صلاح الدين فيصور لنا انهيار الدولة الأيوبية أمام سطوة المماليك (ضمنياً) إلى حكم استنتاجي يستقرأه المتلقي بتعاقب الاحتلال العثماني بحكم (محمدعلي) ثم الانتداب الفرنسي والاحتلال البريطاني في النهاية.. حيث الشعب هو الخاسر الوحيد.
وكما ورد في النص
احترس فهو بارع في التنكر وتلك إحدى حيله للايقاع بغريمه.
توظيف الزمكان
نرى الكاتب الموسوعي ، يستخدم سطوة المكان كبعد وجداني رابع، أنسنهُ بشكلٍ غير مباشر، كأنّه الشخصية الهامشية الحاضرة والغائبة، التي تتبنّى عن السارد وصف وعيه المتوراث بشكل غامضٍ وتلقائي، لتقيم حوارًا صامتًا مع الحاضر ملتصقة بالشخصية الإنسانية المعذّبة، كأن العقل العربي الجمعي يعيد قراءة الوضع الراهن بلغة بديلة أتقنها الماضي وتبناها المستقبل تماثلت لاستحضار موسيقى التّخت الشرقي (الناي والقانون) وعذوبة اللغة الرصينة الموحيةوكما ورد في النص:
يلطم وجهي عبق زمان أبدي يترنح على البوابة القديمة
تذكرت هذا وأنا أدق بقدمي ذلك البناء العربي المظهر المعبق برائحة مسك عتيق، .. تدانت إلى سمعي أنغام عزف ناي قديم فجذبني حنين غامض وتوق للأيام الغارقة في الظلام،
تهافت إلى سمعي تقاسيم قانون غير بعيدة فتجابه روحي أنسام فضفاضة.
توظيف الرمز والشخصيات
استخدم الكاتب بمهارة شديدة الرَّمز في لغة خطاب المتن،فنرى الليل رمز الحاكم المستبد الذي يستمر بالتَّنكر، ونرى شخصية الأب الرافض والثائر ،ب(عريه و تردده و انهزامه) كما ورد في النص :
يا أبي إن كنت ضحية الرجل، فأنا بربك ضحية من؟
أرى الجمع يتكلمون عمن يبيعون أنفسهم للوالي، فما الخيانة يا أبتاه؟
ونرى الخروف المقطوع الرأس، رمزًا للترهيب والتهديد، و الجد هو رمز الحقيقة الساطعة التي يعمى عنها الشعب وكما ورد في النص
يرد جدي وهو يهرول مسرعا :
- الخيانة ياولدي أن يظهر الناس عكس مايبطنون
عن أي ثأر يحدثنا المبدع هنا؟ أهو الثأر الشخصي (ثأر هاملت الشكسبيري) الذي يتحول لمداه الجماعي ك(ناقة البسوس) ، أم أنه ثأر المبدعين والمثقفين حين يعودون للتاريخ ظنًا منهم أنهم يستدرجونه إلى راهنهم ومستقبلهم،أم هو احتواء كامل للثأر الشخصيِّ والعشائريِّ الذي سيمتدّ في تاريخ العرب إلى المذهبيّ والدينيّ؛لكأنَّ الزمانَ في هذا المجتمع دائرةٌ مُغلَقَةً على ذاتِهَا؛ تمضغ نفسِهَا فحسبُ؛ لتُعِيدَ إنتاجَ ماضيها في راهِنِهَا.. مراراً وتكراراً؛ وكأنّ الشعب محكومٌ بخيانته ممن يفترض أن يمثّله ويحميه.
جاءت النهاية المفتوحة كاستدراكٍ مستقبلي للسارد الباحث عن الحقيقة، ولابنه الذي يمثِّل الجيل القادم واقفًا أمام الليل المتنكر بهيئته الباذخة (السيارة الفارهة) ليعلن وأدًا لمستقبل خلاص الشعب أمام مثلث قاهر
أساسه السلطة المستبدة، والثائرون عليه والآخِذُون بالثأر. ليستمرّ الخراب الاجتماعي والمعنوي إلا مالا نهاية
إبداع مذهل.
قصة قصيرة
الثأر والليل
كنت أعلم أني أواجه مصيري بكل ضراوته وعنفه، وأعلم أيضا أني مدفوع إلى تلك المواجهة دفعا لاأستطيع منه فكاكا، لكنه قدري أنا وحدي !.
كانت الساعة الثانية ظهرا والميدان مكتظ والموعد تلقيته دون أي تفسير.
"عند توهج الزحام وذروة الصخب ". وبينما أتجول على الطوار اقترب مني شخص يرتدي زيا فرعونيا.. لأعلم من أين جاء ؟..
كأن الأرض انشقت عنه للتو واللحظة، وبقدر ما أخذتني غرابة ملبسه، شدني إليه بوجهه الهادئ:
-الموعد قد تأجل.
-لماذا؟.
-لن يستطيع الحضور وعليك ملاقاته في سكنه الخاص.
-لكن هذا ليس بعدل.
لاتنس العدل مبتغانا الأساسي.
وهو يولي ظهره ناحيتي مستقبلا هدير المارة والعربات .
- فلتكن متأهبا .
............................
"أخبرني أبي أني أتدرج من أسرة فاطمية وأن أحد أجدادي كان واليا في الباب العالي".
تذكرت هذا وأنا أدق بقدمي ذلك البناء العربي المظهر المعبق برائحة مسك عتيق، وبمجرد أن دنوت من نهاية الردهة التي انفسحت لحديقة ضخمة.. تدانت إلى سمعي أنغام عزف ناي قديم فجذبني حنين غامض وتوق للأيام الغارقة في الظلام، ونشوة أفقت منها على رجل يرتدي جبة وقفطانا وعمامة بيضاء يخبرني بأن الموعد قد تغير :
-أظن أن المزاح قد فاق الحد.
-لابد من التأني إن أردت الخلاص.
-لن أتركه.
-لاتخف هو أيضا لن يتركك.
كيف أخاف وأنا أول من بحثت عنه- في نسل العائلة- قبل أن يبدأ هو في البحث عني !!.
...........................
أوصافه في مخيلتي كما تلقيتها عن أبي الذي تلقاها بدوره عن جده.. وإن كان لم يره أحد منهما..
ملامح حادة، جبهة عريضة، أنف مدبب..وشعر داكن السواد.
-"احترس فهو بارع في التنكر وتلك إحدى حيله للايقاع بغريمه".
..................................
أطأ بقدمي باب الفتوح..
يلطم وجهي عبق زمان أبدي يترنح على البوابة القديمة.. أعبرها ومن حولي تتقافز أنسمة فجر جديد أسعى للقائه.
وجدتني عند المكان المقصود كما تلقيت الرسالة، شهقت بعمق وزفرت طاردا كل مخاوفي..
رأيته مقبلا من بعيد يتلحف الظلام، ارتعدت مفاصلي، لم أصدق أني أول من يراه رأى العين من نسل العائلة المنحدر من عصور سحيقة.
وتجلت لي في نفس اللحظة كل عذابات الماضي فبدوت أكثر ثباتا .. بدأت ملامحه تحت ظلال القمر المنعكس خلف البنايات تتضح شيئا فشيئا.
رقبت نافذة تفتح في بيت قديم وطفلا يتبول بجانب حائط مرسوم عليه بالطباشير خروف بلا رأس.. وتقدمت نحوه.
............................
أستقبل وحدي كل الشياطين وتجابهني الخيالات، تنازعني ذكرى أبي ويهزني لقاء الرجل وعبق حكمته وصوفية حديثه..
فالرجل أوصافه مغايرة تماما لوصف أبي،
بل أخبرني بأن أبي هو الذي ظل يتعقبه فلم يجعل أمامه خيارا. ولايمكن أن يكون مثل هذا الرجل قاتلا أو لصا:
- إياك ياولدي أن يخدعك بتقواه وورعه المصطنع، فقدرته على التلون هي ماجعلته يحيا كل هذا العمر.
-"لا أريد أن أصيبك بسوء إلا إذا اخترت أنت".
يدق الليل بعصاته أرضية الغرفة، فأرى أبي يتيه عاريا في أرض خاوية مترامية خالية من كل أثر..
وأراني أرقبه من بعيد على قمة تل وهو يلهث، ولهاثه كأنه يضخ في قلبي ويسري كالخدر في عروقي. وأراني أتجرد من ثيابي أنا الآخر وأهبط التل، وأظل ألهث معه،
حتى يغمرنا الضباب.
...................................
-آنسيت وصية أبيك أيها الجاحد؟.
لابد أن أؤمن بجرم الرجل كي أنال منه، إذا تأكدت فلن أبالي بالعواقب وسأنفذ المطلوب مهما كان.
لكن أبي طالما راوغني كلما استنطقته عن سبب العداء، إنما كان يكتفي بإيداع بذرة الغل في صدري طوال مراحل عمري حتى كبرت الشجرة، وقبل أن تثمر وافاني الرجل بهيبته الوقورة وقطع الشجرة من الجذر، وتركني أتخبط !.
- يا أبي إن كنت ضحية الرجل، فأنا بربك ضحية من؟.
لو أستطيع إنطاق الموتى.
............................
فوق أرض طباشيرية تداهم الجنود أبواب القلعة وتسقط آخر حصون الدولة الأيوبية، وتجر النساء سبايا وتداهم العسس بيوت الآمنين، يسلبون الدفء من المخادع والأمن من النفوس، وتهرع الجمال إلى أعالي التلال وتلقي بنفسها منتحرة، ويغيض الماء من الآبار، ويرتع الليل بلا راد في الطرقات.
وأرى أبي طفلا فوق كتف جدي، يسأله عقب انصرافه من دار الوالي:
- أرى الجمع يتكلمون عمن يبيعون أنفسهم للوالي، فما الخيانة يا أبتاه؟.
يرد جدي وهو يهرول مسرعا :
- الخيانة ياولدي أن يظهر الناس عكس مايبطنون.
وأبصر الرجل يهبط من فوق جواده يقف أمام جدي وأبي متأملا ثم يشهر سيفه.
...............................
أخترق أكوام الناس والعربات، أمّثل في المقهى المواجه للقلعة حيث يقضي صديق أبي، أوقاته في لعب النرد :
- أهلا بالحبيب ابن الحبيب.
- فاض بي الكيل فلم أجد غيرك.
- كنت أعلم بأنك ستأتي فلم ينج أحد.
- لا أحد يريد إنبائي بالحقيقة.
تهافت إلى سمعي تقاسيم قانون غير بعيدة، فتجابه روحي أنسام فضفاضة.
وأنا أهم بمغادرة المقهي تعجبت، فرغم مرور الزمن مازال الليل يجيء تماما كما يجيء النهار.
..............................
أمضي أنا وطفلي وسط الميدان المزدان بالأضواء والصخب، بين الأضواء المنهمرة من نوافذ البنايات المتحلقة الميدان الواسع.
يطلب مني طفلي الصغير أن أحمله فوق كتفي لأنه تعب، فأحمله وأخترق الميدان في ثبات وإصرار.
يهبط الرجل من عربته الأنيقة الفارهة..يقف أمامي.. يتأملني انا وطفلي و...