الزَّود والساباط
عبداللّه عبّاس خضيّر
(1)
من أوّل صيحةِ ديكٍ
تنهضُ قريتُنا ، تنزلُ من ساباطِ القصبِ
المبتلِّ بنكهةِ ريحِ الشرجيِّ الغارقِ بالماءِ
وتخبزُ أو تبتاعُ القيمرَ من فاتنةِ القريةِ ،
ذاتِ الصدرِ المتهدّلِ للأرضِ كعذقِ البرحيّةِ،
أو تشربُ أكوابَ الشايِ المنقوعِ بتحنانِ الأمِّ
دخانُ الأكواخِ ، ثغاءُ الأطفالِ ،
الموقدُ بالمُطّال تؤجّجه الرّيحُ ،
الأنهارُ تجوبُ بساتينَ النّخلِ تجيءُ
بدجلةَ حتى أقدامِ الخصِّ المتهالكِ
فوقَ نهيراتِ القرنةِ ، كانت قريتُنا
تفتحُ أبوابَ الفجرِ وتعلنُ حفلاتِ الرّقصِ
مع السمكِ الطيرِ المشحوفِ الهورِ...
الخنزيرُ يجوبُ بساتينَ القريةِ منذ الفجرِ ،
وجدّي الآنَ يحدُّ بمبردِ جلدٍ خنجرَهُ المعقوفَ
ليُخرجَ حين يحاصرُهُ في الشطِّ مرارتَهُ،
قيل دواءٌ لعيونِ المرضى...
المكبسُ عند الجرفِ ، شراعٌ ، ملاّحونَ ،
صناديقُ التمرِ المصفوفِ، النسوةُ والصبيةُ
والسُّفرةُ بالتمرِ ، النّخلُ يظلّلُ أطرافَ المكبسِ
صيهودُ وصوتُ الناعورِ يصبُّ الماءَ ليرتويَ الجَزَرُ
الخَسُّ العنبُ النخلُ الطيرُ ، الفرهةُ تفتحُ
في بابِ الهورِ مضيفاً للناسِ وللبطِّ ،
صبايا الهورِ تعودُ ترافقُها موّالاتُ العشقِ ،
(عبرتَ بعيداً كيفَ عبرتَ إلى أينْ
عن عُلبتِكَ الإسمنتيّةِ ، عن شارعِكَ الإسفلتيِّ
وعن حاويةٍ يأكلُ منها البشرُ القططُ الكلبُ ،
وعن مجرى الماءِ الآسنِ حينَ يسدُّ دروبَ الماشينْ)
كيف عبرتَ بطرفةِ عينْ
كلَّ الأزمانِ أبا زيدٍ
ثمّ رجعتَ بلا خُفّينْ ...
يا ليتَ أبا زيدٍ
كنتَ رجعتَ بخُفِّ حُنَينْ
كان النهرُ يجيؤكَ حتى بابِ الدارِ ، تمدُّ إليكَ
النخلةُ عند الصبحِ عذوقَ الرّطبِ ،
البلبلُ فجراً كان يزوركَ والفاختُ والبطُّ
ليستكملَ ترتيلَ الدّيكِ وحفلَ التلحينْ...
( تدخلُ مخدعَكَ اليومَ السياراتُ
الدرّاجاتُ العرباتُ بغيرِ حياءٍ تأتيكَ ،
تؤرّقُ ليلَكَ تملأ صبحَكَ بالسمِّ ،
دخانًا أسودَ أو أبيضَ يغزو الرئتينْ) ...
كيف عبرتَ بطرفةِ عينْ
كلَّ الأزمانِ أبا زيدٍ
ثم رجعتَ بلا خُفّينْ
يا ليتَ أبا زيدٍ
كنتَ رجعتَ بخُفِّ حُنَينْ...
جدّتُنا وهي تعلّقُ حبلَ السّمكِ المشرورِ
على بابِ الشمسِ ، تناغي الأطفالَ وتعجنُ
أو تفتحُ خصّافَ التّمرِ الديريِّ السيّالِ بدبسِ
الدمعةِ ، أمّي تُرضعُ في ظلِّ السّدرةِ ، أختي
الصغرى ، جارتُنا تفتحُ شبّاكاً في الخصِّ ،
أ تطلبُ شيئاً؟ خبزاً أو قدرَ طحينْ...
(لا أعرفُ عن جاري اليومَ سوى لونِ البابِ المغلقِ ،
ماذا يأكلُ أو يشربُ ، قد نتلاقى يوماً حين أموتُ ،
وحين يموتُ سأقرأ نعياً في النتِّ ، أعزّي لا أدري
شبحاً في صفحةِ موتٍ وعزاءٍ للناعينَ ،
أأنت المتوفّى أم أنت من الناجينْ)
كيف عبرتَ بطرفةِ عينْ
كلَّ الأزمانِ أبا زيدٍ
ثمَّ رجعتَ بلا خُفّينْ
يا ليتَ أبا زيدٍ
كنتَ رجعتَ بخُفِّ حُنَينْ
(2)
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
نستيقظ فجراً فرحينَ
نجسُّ مداخلَ أنهار القريةِ
قال الآتون الفجرَ من الهور
بأنّ الماء هنالك في (الحُمْرِ)
على أبوابِ (العَردةِ) أحمرُ مصبوغٌ
بالغرين ، جاء الزودُ إذن سوف
تعيش القرية عرساً يحييه الطيرُ
ويسكنه البنيُّ الأصفرُ والچولانْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
( هذا السمتيُّ الطينيُّ الطعمِ المسكونُ
بطيف السّمّ الآنَ يقطّع أحشاءك عند الظّهر
وتشربُ ماء الشطّ لتبقى حتى المغربِ سكرانْ)
نسألُ عمّ القريةِ صيهوداً عند مداخلِ
دجلةَ هل عبر الماءُ السدّةَ ، نركض كالطيرِ
الطافحِ في زرقةِ صبح القرنةِ ، هل بدأ الطلعُ
، كأنّ الأرجلَ خيلٌ تحملُنا للشطآنْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
حين يجيء الزودُ
تلمّ مدارسُ قريتنا عنّا جَورَ السّجنِ وضيقَ
الأحذيةِ الخشنةِ كالكرَب الصُّلبِ ، الناعورُ
يدورُ ، الدلو تجودُ ، الأرضُ تغني فينا ولنا
عذبَ الألحانْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
تقفز أسماكُ النهر بلا وعدٍ عند العبّارة ، صيادٌ
يقطع دجلةَ يرميه التيارُ بعيداً ، طيرُ الماء يعومُ
على مقربةٍ من مجذاف السفّانْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
(في القفص الطيرُ يموت وحيداً أو يبكي نحسبه
نحن يغني ، والزهرةُ في الشّرفة تذبل أو تلعن صالبَها الصنمَ الإنسانْ)
النخلُ ينوء بما لا يحمله ظهرٌ ، سنخفف عنه
قليلاً ، ماعونٌ يكثر حين يزيد الأكلُ ، الأسماكُ
بباب البيت وراء الخصِّ ، النسوةُ يغسلن بقايا الليل
ونحن نصيد الحمريّ الشانگَ والسمانْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)
البطّ ينافسُنا ،
في الطين يدسّ المنقارَ الأحمرَ ،
يصرخ بعضُ الآتينَ من البستانْ
إنّ الخنزيرَ (يطوش الچمريّ) المتساقط من نخل القرية نُهرعُ ، بعضٌ بالمنجل أو بالمرديّ وبالغرّافة ، أو بالكسريةِ حيث نطارده أو ندفعه نحو الشطّ ليصبحَ صيداً سهلاً للفِتيانْ
(كان زماناً كان وكانْ
كان زمانَ اللاعنوانْ)