بقلم #سليمان جمعة قراءة في قصيصة:
"ماذا تقول الأغنية؟:"
قصة قصيرة ـ صديقة علي
متعب جدا باستحضار كلمات أغنية... كانت يوما تملأ الفضاء الفاصل بين نافذتي وشرفة الجيران، مطلعها يلحّ على تلافيف دماغي ويدور في ظلام المكان، افتقاده لنافذة يجعله أشبه بقبر... ليس القبر بمصطلح مناسب لهروبي المؤلم، لأعود إلى الأغنية، انشغالي بها أنساني قدميَّ المتورمتين.
ومرت الأيام نعم تذكرتها... 《دارت الأيام ومرت الأيام ما بين بعاد وخصام وقابلتك...》
آه كم كانت النسمات البحرية العالقة بصوت أم كلثوم منعشة، ماذا قالت بعد أن قابلته؟، لا أدري ...
أحدهم يقرع على الحائط: اسكتْ أو اكملها، تكرارك ،لذات الكلمات ، تعذيب آخر، كقطرات الماء المتساقطة بانتظام على رؤوسنا.
- زيارة.
جاءت في أوانها، الآن سأسألها كيما تخفف من عبء نسياني للكلمات، اللحن يمور في شراييني؛ فأسير رقصا عابرا للممر الطويل ...
كان الأمر مقتصرا على اجتيازها لممر يفصل بين عالمينا، لتصبح مالكة لبيتي كارهة لمكتبتي، معترضة على اجتماع رفاقي في غرفتي الجوّانية، وكم كانت تضيق ذرعا بأغانيهم، هي لم تكن تطيق الشيخ إمام ولا أشعار محمود درويش، وأنا كنت أنتقد تسليم عقلها لمخدر موسيقي، بالرغم من حبي الضمني له، هأنا أغني أغانيها فقط. يصفعني الحارس بكفه الثقيلة على ظهري ويزفر متأففا من رقصي، ينظر في عينيّ شزرا: أأنت مجنون؟ لا غرابة فالكل هنا يعتقد ذلك.
- أين أمّك؟
دموعها تقطع ظلال مربعات الشبك على وجهها البريء الحزين ...
أجابت نظراتها المتلعثمة بالحقيقة المرة، وطأطأت رأسها بصمت، فأشفقت عليها وتوقفت عن إيلامها.
- أبنيتي، هل تتذكرين ماذا بعد (وقابلتك) في دارت الأيام؟
ترتبك شفتاها، تشع ضحكتها المبللة بالدموع، تحتفي بالخلاص من هم الجواب عن أمّها. تميل برأسها وتؤرجح يدها كأنها تقف على مسرح وتلوح بمنديل يخلخل الهواء فيتمايل كل الحضور:
- (وقبلتك نسيت أني ...خصمتك...وسامحت عذاب قلبي)
- آه ...
ندت آه حرّى عن الحارس المتبختر بين الشبكين، الفاصل بيننا، لكن تأوهه لم يوقف صدى صوتها العذب، ساهما كنت في أنامله التي راحت تعزف على الباب الحديدي، انتبهت كم هي غضة وناعمة، لا تصلح ان تكون بكف سجان، أو لعله قد استبدلها... أضحكتني فكرة الاستبدال. طال تفكيري بيده وطالت الزيارة أكثر من المسموح لها ان تدوم، ودام ندى زهور ابنتي في هذا القحط.
... لطالما كان صوتها ينافس العصافير في حدائق ملكت طفولتها، وعلى منابر مدرستها ، وكم كنت أشعر بالفخر وهي تتصدر فرقة كورال الجامعة .
نسيت مصير زوجتي، أتعبني خلق المبررات لها، أو انشغلت عنها في مراقبة الحارس، أبحث في رأسه عن أذن ثالثة للموسيقا. بعد تلك الآه، صرت أرى فيه إنسانا مختلفا، وقد يكون عاشقا.
وبقيت تدور الأيام حتى موعد الزيارة التالية:
- ماذا تقول أم كلثوم بعد "وما أنا بالمصدّق فيك قولا".
- "ولكني شقيت بحسن ظني" .....صدّق أبي صدّق ... وكفاك شقاء بحسن ظنك.
وتابعتُ الغناء، أدحر ما استطعت من العتمة إلى أن أشرقت شمسي.
اتّكئ على كتف ابنتي -وقد كبّرها الانتظار- نغني معا" درب الرجوع لعشّ الطفولة" ، في حدائق تحتفي صغار عصافيرها بعودتنا.
صديقة علي ... سوريا
_________________________________________--
القراءة
أ. سليمان جمعة
الحب يطلب بالفطرة علاقته بأشياء الوجود
هذه المعرفة إبداع الذات أمام من تحب وما تحب ..بالسليقة والفطرة
فيحس المحب برحب المكان ونضارة الحياة ..هذا ما أشاعه النص .."ماذا تقول الاغنية ؟"..
فالفكرة أن المعرفة التي تمنحها الكتب والشعراء، هي علاقتنا مع حركة الآخر من سياسة واجتماع ..
فالأول تمثل بالحبيبة التي أصبحت الأم/ مليكة البيت ..
تحب أغاني ام كلثوم، وتنفر من المكتبة، وسيد امام ومحمود درويش..
الذين يمثلان قضية الشعب وعلاقته بالسلطة وتعسفها وعلاقتنا بقضية الأمة .. أي الأسرة الكبرى ...
هي الأم الحبيبة تميل إلى الفطرة، حيث الموسيقى الصادحة بالحب ..فتلاقي قلبها لبيتها وأطفالها وحبيبها .
إذن عرفنا أنه مسجون رأي سياسي ..
السؤال ..ماذا جعل المكان ضيقا سجنا مظلما ..بعد أن كان رحبا
من طرد من الرأس أيام الفرح ..الخصام والبعاد كان يداوى بالحب والسماح....هي السلطة التي تجبه الحرية والانطلاق في رحابة الحب ..فالرقص الزوربي ..هنا ليس للنسيان إنما للتذكر ..
اذن،
هذه هي الفكرة ..بين معرفتين القلب يبني علاقته بالأسرة الصغرى والأسرة الكبرى ..والهادم لهما هو ظلامية السلطة.. التي لا تقبل الحوار والتسامح كقلب الحبيب ..هذا ما تقوله الأغنية ..
أما هو، أي السجين، فيحاول تذكر كلمات الأغنية ..ليطلب السماح من حبيبته الأم...
.....
هل يحقق النص هذه الرؤية...السماح ..
والحوار ..والتفهم.
هي رؤية أو مشروع تغيير لسلوك السلطة ..
بين البيت والسجن ..
لنعد إلى النص..
فنكشف عن بعض البنى المعرفية المشكلة له..
والتي تناغمت لترسم حركة المعنى وتظهره.
وكذلك لنرصد بالمنهج الحركي ..في أربع مراحل متداخلة:
حركة اللغة مفردات، وتراكيب ..وحركة المعنى، أي الحبكة القصصية المقترحة كحياة للفكرة ..وحركة الحياة اي الواقع الجاري ..وحركة القارىء، أي الزاوية من ذاكرته التي تحفزت فقبلت الفكرة، وتفاعلت معها لتنتج حوارا معها ..فالقارىء يعطي للفكرة معناها الاجتماعي، أي قابليتها لتكون ممكنة، وكذلك حركة الحياة أي تصورنا للحركة الصحيحة التي تسهم في تحقيق الرؤية على أرض الواقع.
هذه الحركات الأربعة
تتفاعل في الزمان الآني..اي قابلة للتطور.
ما هي البنى المعرفية الفاعلة؟
الحب والأغنية و السجن والسجان و الابنة ..والبحر...والذاكرة.
كيف تناغمت اللغة مع بنية الحب والسجن ..والتذكر ..؟
هنا يصور النص بنية المكان ويعطيه شخصيته بالوصف الذي يكشف معناه أو دوره ..
الحب جعل النافذة والشرفة بينهما فضاء رحبا مريحا ...علاقة سعيدة .. .هذا هو التذكر
كان ...أي ان الزمان مع الحب كان جميلا بلا ألم ..أما المكان بفقدانه بفعل ااسلطة المتمثلة بالحارس صار المكان سجنا مظلما بلا نافذة ولا شرفة ومؤلما ..والتذكر صعبا أي ان بنية السلطة قضت على ذاكرة الفرح..
كل ذلك تسعفه اللغة .. وكذلك الحب جعل النسيمات المنعشة للأغنية تأتي من رحابة البحر ....اذن المكان يختلف بفعل بنية الحب .فيكون بعلاقة مريحة مع الموجودات، أما في المكان الآخر فيكون بترتيب ونظام يحدده الحارس بقساوة يده التي تمنع حركة التذكر والرقص أي الانطلاق.. وكذلك الابنة
التي هي امتداد للحب والأم الغائبة ..تساعد على التذكر أما المساجين فيشعرون انه بالتكرار يزعجهم، أي انهم مثله لا يتذكرون بل يرون عدم التذكر عذابا كمثل ما يعذبهم به السجان بنقط الماء فوق رؤوسهم كي لا يناموا.
بينا اذن فعل بنية الحب والسجن في تأثيرهما على بناء المكان ..
وكيف أن حركة السجين داخل السجن وهو قادم لمقابلة من يزوره ..وفعل السجان ..باستحضار بدايات الحب واستحضار زوربا .فالبدايات أو العودة إليها هي فعل، أو طلب سماح من حبيبته.واستحضار زوربا هو تحد للسلطة بأنه في سجنهم يستطيع ان يرقص، أي أن يحاكي حركة روحه.
_حركة القارىء
وزاوية الذاكرة تلاقي حركة الحياة ..
الحرية والحب هي الحركة التي نطلبها فمن منعها .
.كيف تجلت في النص؟ نحن سرحنا مع الابنة وكيف تصور سراحها كامتداد للحب وامتداد لحريتها دون حدود إلاا هوايتها في الغناء ..الذي كان يسكن أمها علنا وأباها سرا.. تلك يقبلها القارىء خارج المكان الضيق، وخارج مكان بداية الحب ،ليكون المستقبل زمنا ومكانا أي المدرسة لا السجن..
وتكون متكأ الاشراق بعد أن يخرج من السجن ..البنت هي المتجسد الرؤيوي للنص. فتمنى ان تكون يدها يد السجان ..ان يكون الرهافة والحنان هي يدالسلطة...
تلك اشراقة الرؤية ..
وهي نافذة أرادها وهو في المكان الذي يفتقر للنافذة والرقة ..
ويبقى الحوار مع الرؤية هذه من يجريها ؟
الثقافة التي اوحى بها النص في :
المكتبة وسيد امام ومحمود درويش مما يشكل هم الامة وتراثها ..وكذلك مصير الأم، أي الحب
موسوعتان نحتكم اليهما
هل راعت السلطة قضية الأمة وراعت قيمة الأسرة، يوم منعت حرية التفكير ؟
من يقاضيها ؟
اين العدالة ؟
اذن التراث الذي يحمي القيم ..العدالة ..السلطة تكفر بذلك ..
سليمان جمعة
..