إلى أبي ...
(مقطع قصير من سيرة طويلة)
بداية لا أملك إلّا أن أترحم عليك، فرحمات الله ومغفرته تتنزّل على روحك الطاهرة، ومن ثمّ أقول لك وأنا مبتسم، ومن دون مناسبة: اشتقتُ لكَ يا أبي ويا صديقي، ويا من كنتَ السبب الرئيس في وجودي، وأنا ابن صُلْبِكَ الذي صَلَبَكَ القدر وصلبني خمس عشرة سنة من فراق قصري وشوق طويل للقاء جاء متأخراً، لكنّه جاء عام 1989.
أتذكر... افترقنا عند محطة القطار وعمري أشهر، أنا لا أذكر، لكنّك حدثتني عن ذلك، وجيداً لحديثك أذكر، وكيف ذهبتَ إلى مأوى للأيتام كي تبقيني قريباً منك في سورية، ولكنّك بعد أن رأيتَ رداءة المرافق وسوء المعاملة فضلتَ أن أعود مع أمي إلى الأردن.
أمي المنجبة -سامحها الله وأطال بعمرها- امرأة بسيطة يا أبي، وأنتَ تعلم ذلك أكثر مني، بل تعلم أنّ هذا الأحمد الذي أنا عليه الآن، كان يحتاج لمزيد من دراما القضاء وتراجيديا القدر، كي يصبح على ما هو عليه بعد طول حرق وصقل في أتون هذه الحياة، لأتشكل بهذا الشكل الذي أحب، بل هذه الخاتمة التي أعشق، أن تكون أنتَ أنت، تمضي في هذا الوجود مؤمناً بك وبثوابتك الإنسانية والدينية والقومية والوطنية، تحمل لواء الدرب قائلاً: من أراد هذا الطريق فليتبعني، دون أن تعاني من صراعات الإقناع ومحاولات الجلب الفاشلة، بل تسير قدماً إلى الأمام بكلّ ثقة، ولو لم يتبعك في هذا العالم من العالمين سوى ظلّك.
يا عبد الله... يا أبا أحمد بلال... يا بن مخيم العروب في فلسطين ومخيم البقعة في الأردن ومخيم اليرموك في سوريا... يا بن مخيمات لبنان وذكرياتك في القطاع الغربي.... يا بن أمك... إنزيله العظيمة رحمها الله، التي ربتني لخمسٍ من أولى أعوام العمر، أقول لك يا أبي:
أحمد بعد خمس عشرة سنة من صعود روحك الطاهرة إلى السماء يخبرك أنّه اشتاق لك.. نعم.. اشتقتُ لأحاديثنا الطويلة حين تصعد الدرج القصير نحو غرفتني في مخيم اليرموك في دمشق الحبيبة، كي نتبادل أطراف الحديث الذي يمتد لساعات، كنتَ تحدّثني عن فلسطين.. عن قصص عائلتنا التي لا تنتهي منذ أيام البلاد، وكنتَ تعلّمني لقرن قادم، كيف يمكن للإنسان أن يحيا سعيداً رغم النكبات.
سرتُ على نهجكَ ولكن برؤيتي، يا من حملتَ البندقية من أجل فلسطين وما تنازلتَ عن الخيار المسلح، وها أنا من بعدك أكمل المشوار بقلم وفكر وبيت وبرنامج ونهج حياة، أمضي في كلّ ذلك معاً حتى تحقيق الحرية والعودة.
أعلم أنّ الطريق طويل ولكنّ الإيمان بالوصول أيضاً كبير، ولذا ها أنا أسير وأسير، كفي تحمل رائحة شدّك عليها، وذاكرتي معطرة بابتسامتكّ وأنت تنظر خلسة معجباً بي في آخر لقاء جمعنا -كانون الثاني عام ألفين وستة- حين اكتشفتُكَ وسألتُكَ عن هذه النظرة، فقلتَ لي: "أنا معجب بك وراضٍ عنك".
ياه يا أبي... لو كنتَ في هذه الأيام... ماذا كنتَ ستقول؟ بل أنا من سيقول: إنّي اشتقتُكَ وأحبّكَ وأحبّ كلّ من أحبّك، يا أيّها الرجل الجليل الكرم، إذ ها أنا أقترب من الخمسين عاماً من العمر، وأنا لم أرَ أحداً بكرمك، ولم أعرف شخصاً أجاد الحياة كأنت.
كنتَ مدرسة ونهج حياة تتجسّد وقائع على الأرض، دون صنعة المباهاة أو أي تكلّف في الأداء، كنتَ تحيا كأنّك لن تموت، محافظاً على دنياك وآخرتك في نفس الوقت باتزان عجيب، وحين متَّ بغتة، كم أثبتَّ للجميع أنّ مثلك لا يموت.
(أبو أحمد بلال) أحمد يحبّكَ جداً وجداً وجداً، ولا يريد من هذا الوجود إلّا أن يكون امتداداً لك، وهو المحافظ على شخصيته وهويته، والمتجذر بعمق في الأرض، والذي يطاول على الدوام عنان السماء في المضي أبداً قدماً إلى الأمام.
يا أبي الغالي... هذه رسالة صباحية لك.. صادقة كنبوة وصافية كنبع ماء، واثق أنّها عابرة لمجريات الحياة وعثراتها وتبعاتها وضغوطاتها، ومتخطية لعوالم الأموات كي تصلك، وستصلك، ولذا أعاود اختصارها في عبارة قصيرة واحدة: اشتقتُ لكَ يا من أحبّك.
ابنك أحمد
2021/7/16