توقاً للسفر نحو الجمال
البعض يفهم تعدد اصوات السرد كضرب من افساح المجال لأكثر من شخصية واكثر من رؤية إيديولوجية ونفسية، لكننا في كثير الاعمال الروائية وإن سعت لبناء هيكلها على تعدد الاصوات( البوليفونية، بالإسبانية) تظل مثقلة بقيود أكثر بؤساً من مساوئ الصوت الواحد العليم، وبمعزل عن واحدية اللغة فهي غير معنية بشيء، فالتعدد يغدو مظهراً من مظاهر الركاكة في الغالب، قليلة جداً الأعمال التي تبنًت التعدد بطريقة لا تشي إلا بإمساك تدفق الصورة وإلتقاطها من الخضم المتلاطم للخيال و يجيء السرد بأكثر من صوت ولكن بطريقة غير مباشرة، بحيث تُبنى الرواية (شكلاً) من صوت سردي واحد.
فمابين غاية السرد ومتعة القارئ تتفكك المسلمات ويغدو الجمال شيئاً مختلفاً عن جوهر الكتابة ومتعة القراءة، فالجمال يظل في عثور النص على متلقي إستثنائي منوط به فتح مسامات جماله لكل للناس... إستشفاف الجمال الحلقة الناقصة في اطوار الكتابة والقراءة، وبهذا الغياب الشبه دائم تراوح النصوص وتدور في ذات السلسلة الناقصة، في تأرجح لايتوانى في إبتغاء المتعة الإنسانية كملامح مثلى للجمال ضمن مخاض بديل لايفتأ في إستهلاك سلبي للغياب ( إستبدال قسري) لشحذ طاقة المبدع وتشتيت قدراته.
الفرق بين المتعة والجمال ربما لايرقى لأسئلة الوجود في ماهيتها لسبر المآلات لكنه يتجاوزها في الاهمية لفصل توهان الفن وتخبطه على ولو على مستويات زمنية متباعدة، كأن اللغز يتركًز في صهر خالص لعذابات الإنسان وآلامه في بوتقة مهولة مجهولة بداخله لصنع دوافع سحرية وجميلة للإنسانية كعطاءات جديرة بالخلود في زمان ما ومكان ما.
إنها عملية مركبة لشغل المخيلة بما وراء الخيال، حالة من تماهي الضعف بالقوة الخرقاء، المرض بالصحوة والوجل بجسارة مطلقة تنطلق من ثغور مهملة.
فهشاشة الفن كقوته تحتاج لذات الرؤية الإستثنائية، ولهذا تبدو الأعمال الروائية للغالبية تملك نفس حدود التميز والإخفاق، وجلها تحاول ان تمر من الثقب الأوحد لإستمالة الذائقة وإمتاعها والمضي ضمن نسق جماعي متاح وخادع، أشبه بالتزلج الجماعي من قمة جبل واحد، لكن ثمة من يرمق إنحدار الحشد من اغصان شجرة متوارية عن المنحدر، يبتسم محملقاً على تفاصيل مختلفة لاتقوى العدسات لالتقاطها ولا تعتبر ميزة ضمن معايير المسابقة، المهم أن يذهب الرجل حين يجفل الحشد بكل ادواته مكتنزا جماليات ساحرة لمسابقة روتينية تكاد لاتثير إهتمام الناس الا من باب إحصائياته الرقمية.
الجمال هو إكتشاف او بالأحرى عملية تالية للخلق والإبداع بمثابة الشق المفقود والمكمّل النسبي لها، ويظل الفن الإنساني في سفر دائم للبحث عنه، أشبه بنشدان لانهائي للتصالح بما وراء الإنسان، هكذا تستنزف شريحة من البشرية ملكاتها ذوداً عن المتعة ونكاية بالجمال.
هكذا تدور الكتابة الروائية بين الكتّاب والمثقفين كعزاء مغلق للإنكفاء ردحاً من الزمن، حالة إحتفاظ بمتعة الممارسة والقليل منها يحمل ذلك المكنون الغريب للإلتحام بجمال لانهائي، وتوقاً لأن يكمل الإبداع رحلته الأثيرة والغير مدركة.