البعد الرّسالي في قصيدة
" صدى تغريبة " للشّاعرة المغربية نبيلة الوزاني
بقلم/ أ . بولمدايس عبد المالك
عنوان القصيدة "صدى تغريبة "يوحي بعمق المأساة التي تكابدها الشّاعرة من جرّاء واقع مرير و صفته بالتغريبة و هي مشتقة من الغربة ...و الغربة غربتنان..غربة مكانية يهجر فيها الانسان أهله و أحباءه و وطنه بداعي من دواعي الضرورة كالسعيّ في الأرض أو نقص الأمن أو الغذاء...و غربة نفسيّة تجعل الإنسان غريبا بفكره و منهجه و قناعاته دون أن يبرح مكانه و هذه الأخيرة أشدّ قسوة و إيلاما ...لكن الملفت في هذا العنوان أنّ الشاعرة تعيش رجع التغريبة فكيف لو كانت التغريبة نفسها ..هذا ما ستبيّنه تفاصيل القصيدة لأنها في محلّ خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذا صدى تغريبة" ..و قد يصدق الخبر و قد يكذب بحسب القرائن و الأدلّة التي حوتها مقاطع هذه القصيدة...
العنوان : صدى تغريبة
المقطع الأوّل:
كل الفصول
تشير إلى تمام الغروب
إلّا
صدى عمرٍ
يهرب من ثقوب
نايِ
في ملعب الريح...
دون مقدّمات أوليّة و لا إشارات توضيحية تعطي شاعرتنا حكمها النّهائيّ الذي ارتسمت بنوده باليأس و القنوط و الإحباط من عودة الصلاح بعد تفشّي أتربة الغربة النفسية المطبقة و ها نحن نراه تقرّر بأنّ كلّ الفصول ـ الخريف و الشّتاء و الرّبيع و الصيف ـ قد استوت في نتائجها و ما عادت تفاصيلها تقدّم أو تؤخر ..فلا الربيع و جمالياته و لا الصيف و فواكهه و مصيفه و لا الخريف و لا الشتاء غيّروا من وضعها النّفسي البئيس و لا من قتامة واقعها المادي الحزين ...فـ.."كلّ" توكيد معنوي لا يستثني شيئا من حكمها... فالغروب عندها كالبدر الذي اكتمل تمامه و لا أمل في الزيادة ..الغروب الذي أطبق بكلاليبه على واقعها المادي النفسي و ناء بكلكله و أرخى سدوله و لكن فجأة ترتسم نقطة ضوء في عتمة هذا الغروب المكتمل و يتسللّ صدى عمرها المتعب ليقرر الهروب من خلال ثقوب ناي حزين في ملعب الحياة الكبير الذي نعتته بملعب الريح...و الرّيح إذا أفردت أفادت العذاب و التشريد و التيه و إذا ما جمعت ـ الريا ـ دلّت على البشر و الخير و البركة ..و هذا ملمح قرآنيّ بديع وظفته الشاعرة ببراعة و توفيق..
المقطع الثاني :
الصدع هو رجع صوت أو ردّة فعل لفعل ...و العبير به يدلّ على حنين مكين في الوجدان و الذّاكرة أو إلى مشاهد صوّر علقت بالوجدان ذات مرة...فاللجوء إليه يعتبر دندنة على أوتار أمل هارب أو نائم أو حتى قادم...و هذا ما تفصله مفاصل هذا المقطع ...و ما الثنائيات الموظفة إلاّ دليل على ذلك...(الصدى ـ السكون)؛(فتح ـ أغلق)؛ و ها هي تتساءل مستغربة و مقرّرة في آن واحد عن المتسبب في فتح هذا العنوان الكبير من التيه في جسد ذاكرتي فمنعني من سكوني و قراري و راحتي ..متسببا في غلق مظلة السكون التي أظلتها لسنين ، مانعة عنها وابل التيه و ثلوج اليأس و عواصف القنوط...
الصدى ذاكرةُ
عنوانٍ تائهٍ
عن عتبة الذكرى
من فتح له سماءَ الحنين
وأغلقَ مظلةَ سُكوني؟
المقطع الثالث :
و يأتي المقطع الثالث ليؤكد تلك الثقوب و ها هي تتّسع و تكبر لترسم على صفحات الماء ..و الماء دلالة على عودة الحياة و إمكانية وجود حيوات بذلك الموضع ...عناوين جديدة و لا شكّ أنّ الجمع (عناوين)يغلب المفرد(عنوان) لا محالة و هذا دليل على اتساع رقعة الأمل في نفسية الشاعرة ..و بداية ارتسام ألوان جديدة لفجر صادق و شفق حالم و تلك إشارة لعودة الأمور إلى نصابها و ما حركة الكون الرتيبة إلاّ دليل على عودة الحياة من جديد و بداية توراي عتمات الصمت الذي خيّم على نفسيتها ليعلن عن تفتح أكمام وقت مشفوعة بآهات مواسية بذلك ذلك الشّروق الذي بعثرت أشعته تلك الريح و ذلك الصمت و تلك الآهات...
على صفحات من ماءٍ
رسمتُ عناوينَ
بألوان فجرٍ وشفق
ومن خلف أعتاب الصمتِ
تدلّى الوقتُ من أكمام
آهاتٍ
تواسي بعثرة َالشروق ...
المقطع الرابع :
الدندنة على وقع الصباح
بَعد ترنّح الحُلمِ
مصيدةٌ تتقنُها شِباكُ الليلِ
حين صفعات الملحْ
ونداءٌ فاترةٌ ياؤُهُ
من صدر الشجن
يًغلّف شحوبَ صداه...
و يأتي هذا المقطع ليسجل خبرة تجربتها في الحياة متلفعا ببردة الحكمة و الرّشاد...ليعلن بصوت جهور يسمعه كلّ الكون و الكائنات بأن مآل اليأس إلى فرج و ما شدّة الظلمات إلا إعلانا عن بداية شروق يوم سعيد و بداية وضع مغاير...و تدعو الانسان عموما و القانطين خصوصا إلى ضرورة تغليب الأمل عن اليأس و أنّ الصباح و الأحلام ستصير حقائق في المستقبل و إن بدت فاترة نداءاته ..و هذا تصوير بليغ و دقيق لتجربتها في الحياة و في مواجهة مرارة الواقع المعيش...
المقطع الخامس و الأخير:
كم يحتاج القصبُ
الى رئاتٍ خضراءَ
تحضنُ رهبَةَ بزوغِه!
في حوائط الزمن
لا عزاءَ لساعاتٍ
فرّتْ عقاربُها
من تعنّت الفراغ.
تبتدأ الشاعرة مقطعها الأخير بسؤال استفهام "كم" إشارة إلى حجم البناء المنتظر من جهة و مدّة الوقت اللازم من أجل ذلك إذ يحتاج القصب و هو نَبَاتٌ مِنْ فَصِيلَةِ النَّجْلِيَّاتِ، مَائِيٌّ، وَهُوَ مُجَوَّفٌ وَمِنْهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ معروفة و خاصة عندما يجفّ ماؤه ، ويشتدّ عوده و مع ذلك فالقصب إشارة واضحة على إمكانية حدوث التغيير و الانتقال إلى حال أحسن.. و لذلك نراها استعملت كلمة الرئات بالجمع كناية على حجم التغيير و اختارت اللون الأخضر كناية عن تجدد الحياة و نضارتها و اخضرارها و ما اخضراره إلا قضية وقت ليس إلاّ...و نراها تستحضر في رهبة و خشوع لحظة بزوغ فسائل القصب الأولى في حوائط و حدائق الحياة التي لفّها جفاف كبير ..مودعة بذلك ساعات من العمر فرّت برغم تعنّت ذلك الفراغ الجاثم الذي عطّل عقارب السعادة من تعاقبها الرتيبة و حركتها المنتظمة...
و بذلك تكون النهاية جميلة و هي العنوان الجديد لبداية سعادة جديدة...و ما أسعدها من نهاية برغم سوداوية تلك البدايات القاسية المؤلمة...
و أخيرا و ليس بآخر نرى في شعرية شاعرتنا عناصر التفاؤل و غلبة الأمل الأخضر و هذه رسالة الشّاعر نحو قرائه حين تغزوهم جيوش اليأس و تقصفهم عواصف القنوط ..و هذا بعد رسائلي جنحت فيه الشّاعرة إلى انتهاج منهج الأمل كسبيل للخروج من أسر التغريبة أو الاغتراب أو الغربة و قد وُفّقت بشكل مدهش و سلس في تبليغ رسالتها الإنسانية...
الجزائر في 22.07.2020