كميل أبو حنيش لقد صرت أبا
رسائل من القلب
بقلم : أ . رائد محمد الحواري
ارتأيت تسمية ما يرسله كميل أبو حنيش من المعقل برسائل، لأنها تحمل مجموعة قضايا وأفكار، ولوجود مشاعر نابعة من داخل الشاعر، منها ما جاء بوعي، ومنها ما يأتي دون وعي، وللافت في هذه الرسائل حضور المناضل الإنسان، وليس المناضل الخارق الفولاذي، وما يحسب لهذه الرسائل أنها تعد شكل من أشكال مواجهة السجان، الاحتلال، فعندما يكون هناك شاعر/أديب، يقدم أدب راقي وبلغة جميلة، تحمل أفكار تحررية وإنسانية، ومن داخل الزنزانة، فهذا يعد اختراق وتجاوز لجدار السجن، وانتصار على السجان الذي يعمل على قتل السجين، قتله كإنسان، وقتله كمبدع/ككاتب.
ولكي نتعرف على "لقد صرت أبا" الخص ما جاء في الرسالة، تبدأ بالحديث عن الأسرى، منهم العازب ومنهم المتزوج، فهموم الأعزب تكون أقل، بينما هموم المتزوج أكثر، لكن مع الزمن يشعر الأعزب بالوحدة، يحلم (المرسل) بأن تكون له بنت "شادن" والتي جاء اسمها بسبب الظبية التي مات بعد أن أرضعها حلب اصطناعي، من خلال النت وبواسطة شقيق الأسير "كمال" يتم التعرف على "صفاء"، فتاة من سورية ترغب بأن يكون "كميل أبو حنيش ابا لها، وهنا يحدث (صراع) بين ابوة شادن الحلم، وأبوة صفاء الحقيقة، ضمن هذا الوقائع تتأتي رسالة "لقد صرت أبا".
الوقت
الوقت أحد عناصر الضغط على الأسير، لهذا يشكل ثقل عليه، فهو (شيء/عنصر) يتعامل معه الاسير بغير ما يتعامل معه من هو حر طليق، يقدم لنا المرسل هذه الرؤية عن الوقت/الزمن: " كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما ولجت قدماي عتبة السجن المؤبد، وبوسعي أن أزعم أن إحساسي بالسجن لم يتغير حيث لا زمن إحساس فلقد توقف عمري عند السابع والعشرين رغم وجود ستة عشر عاماً على وجودي في الأسر وبهذا يكون عمري الحقيقي اليوم هو ثلاثة وأربعين عاماً؛ فالعمر يقاس بالشعور لا بعدد السنوات كما يقال،"
هناك الفرق من العمر الحقيقي والافتراضي، فالعمر الحقيقي هو المدة التي كان الأسير ينعم بالحرية، فزمن الاعتقال لا يحسب من العمر، لأنه أوقف مسار الحياة، من هنا يكون العمر الافتراضي ثلاثة وأربعين عاما، والحقيقي الذي نعم فيه بالحياة وعاشها بشكل طبيعي وسوي ستة وعشرين عاما.
والمرسل لا يتحدث عن نفسه فقط، بل نجد الشعور بموت/توقف الزمن عند كل الأسير: "ويشعرون بأن أعمارهم قد توقفت عند اللحظة التي دخلوا فيها السجن" عرفنا في روايات التي تناولت الاعتقال عن ثقل وبلادة الوقت، الذي يسير برتابة وبطأ، لكن هنا نجد الزمن ميت/جثة لا تتحرك بالمطلق، لهذا نجد الأسرى يعانون من موت الوقت: "ففي السجن ثمة نزيف متواصل لسنوات العمر وشعور عميق بالخسارة والحرمان،" وهنا اشارة إلى إنسانيتهم التي يثقلها فقدان الزمن وضياعه.
ومن مشاكل الأسرى مع الزمن الحياة الرتيبة والمتكررة يوميا، بحيث يشعر الأسير ب: "ويجد نفسه يحيا في زمن أيامه وإجراءاته متشابهة، وبهذا يظل يدور في هذه الحلقة الجهنمية المفرغة" فالأثر السلبي لا يأتي مرة واحدة بل من خلال التكرار، الذي سيعمل على إحداث تغيير سلبي على الأسير، فتعداد/كمية التكرار يؤكد على: "ومع توالي السنوات يصيبك نوع من الضجر وأنت تعيد اجترار الذكريات الماضية" إذن الزمن ميت بالنسبة للمرسل، وحتى عندما يواجه واقع السجن بالأحلام، ويختلق "شادن" الأبنة، يبقى الزمن ثابت عند لحظة ولادتها، فتبقى طفلة تحبو رغم مرور ثماني سنوات على ولادتها: "ولا تزال تحبو ولم تكبر منذ ثمانية أعوام وتوقف الزمن لديها مثلي، لا تزال في عمر الزهور" كان يمكن أن نستوعب موت الزمن بالنسبة لواقع/لحقيقة الأسر، لكن أن يوقف الأحلام/الخيال، فهذا يعد كارثة مفجعة، كيف لا تنموا تتطور الأحلام وتفاعل مع الزمن؟، وهنا يطرح المرسل حجم الضغط الواقع على كاهل الأسرى بطريقة غير مباشرة، فواقع الجداران انعكس على طريقة التفكير، ومن ثم أمات وجمد كل الأحلام، وأبقاها تعيش تحت سقف زمني لا يتحرك.
لكن بعد دخول "صفاء" السورية ابنة الثلاثة والعشرين عاما في حياة المرسل، وجدت نفسه أمام معضلة الوقت، الوقت الحقيقي والوقت الافتراضي، "بدخول "صفا" في حياتي تنبهت لعمري وتنبهت للزمن فأنا أكبرها بعشرين عاماً عندها شعرت بالرعب فنحن نحسب أننا ما زلنا صغاراً، وبعد أن بدأت باسترجاع ذاكرتي وجدت أن من هم في عمري بات لديهم أبناء وبعضهم بات لديهم أحفاد، كيف انهمكنا بحياة السجن ونسينا أعمارنا التي نبتت دون أن نشعر بها ؟. "السؤال الذي جاء في ذيل المقطع الأخير موجه للأحرار، لمن هم خارج السجن، فهو يختزل مأساة الزمن بالنسبة له ولرفاقه، فابنته في الثلاثة والعشرين وهو ابن ستة وعشرين، فكيف سيكون ابنا لصفاء؟.
المذهل في هذه الرسالة وجود الابنة الحلم "شادن" والابنة الحقيقية "صفاء" فالأولى بقيت تعيش معه ولم تنمو، تكبر، كحال المرسل تماما، فقط توقف الزمن بالنسبة له ولأحلامه "شادن"، لكن الابنة "صفاء" جعلته يعي الحقيقة، يعي واقعه، يعي الزمن الذي ذهب منه ولم يحيى به أو فيه، وهنا نكتشف حقيقة ومكان الهم الإنساني عند الأسير.
الهموم العائلة
الأسير عند بداية الاعتقال لا يعي ما ستؤول إليه حياته، نفسيته، فما يراه في بداية الاعتقال مقبولا ويمكن التعايش معه، سيكون مع السنين القادمة مشكلة: "وبهذا العمر الذي دخلت به السجن لم تكن العائلة والأطفال تشّكل هماً لي ولكثيرين مثلي ممن اختاروا طريق النضال،... لذا دخلت السجن وكنت متحرراً من أي أعباء عائلية وهو ما يبعث على الارتياح قليلاً قياساً بالأسرى الذين تركوا خلفهم زوجات وأطفال وطفقوا يتجرعون ألوان العذاب والحرمان والشوق والأوجاع والحسرات" قد تبدو هذه الرؤية منطقية بالنسبة للأسير، الذي حُكم لمدة تتجاوز العقل والمنطق، تسع مؤبدات، لكن في الواقع الإنساني هذه الرؤية خاطئة، وهذا ما أكد المرسل عندما اكتشف: "فمن كان لديه زوجة وأطفال يتمنى كما لو أنه كان أعزباً مثلنا ومتحرراً من أية أعباء، ومن ناحية ثانية فإن الأسير الأعزب مع توالي السنوات يتمنى لو أنه تزوج وأنجب أطفالاً،" وهنا يؤكد المرسل على حالة العذاب والتألم التي يعانيه الأسير، بصرف النظر عن حالته الاجتماعية، متزوج أم أعزب، فالعذاب متعلق بالحالتين معا، ويتألمان بعين المقدار، لأن الحديث لا يدور عن قطعة خشب، وحديد، بل عن إنسان، وهنا يكون المرسل قد طرق بابا لم يطرق من قبل، إنسانية الأسير، وتألمه أسريا، عائليا، بصرف النظر عن حالته الاجتماعية.
الأولاد/الأبوة
هناك مشاعر كامنة في النفس، لا يمكن أن تمحى أو تزول، وهي موجودة كغريزة طبيعية في كل الكائنات، ونقوم بها أو ندفع نحوها دون وعي، كحال اسماك السلمون التي تذهب برحلة طويلة، وعكس التيار النهري، ورغم الأخطار المعيقة تتقدم إلى المكان الذي يجب أن تضع فيه بيوضها، لتموت بسلام، بعد أن أدت مهمتها وأمنت تجدد نسلها، هذا الأمر ينطبق على الإنسان الأسير، فكل إنسان يحمل بداخله مشاعر الأبوة/الأمومة: "فتستيقظ الهواجس والرغبات الوجودية المدفونة في أعماق نفسك وأهمها التوق لتحقيق الرغبة الجامحة بالأبوة" بهذه الروح الإنسانية يتحدث الأسير عن همومه، عن أرادته في الحياة، عن ضرورة أن يمارس الحياة بشكل سوي وطبيعي، لكن الجداران والسجان يحولان دون أن يكون إنسانيا طبيعيا، يعيش حياته بشكل سوي، وهنا يخترع الأسير طريقة يتحدى بها السجان، ويتحرر من حصار الجدران: "ومع الوقت أخذت تنمو هذه الرغبة حتى أصبحت حلماً مقدساً أن أنجب طفلة وهذه الطفلة ولدت في مخيلتي منذ ثمان سنوات وباتت ترافقني كظلي وتلازمني كأنفاسي والاسم الذي اخترته لابنتي المتخيلة هو "شادن" الفكرة واضحة، لكن ليس المهم في الفكرة فقط، بل في اللغة، الألفاظ التي استخدمها المرسل، فنحن أمام مقطع مطلق البياض، يتحدث عن فكرة الحياة الجديدة/الولادة، وأيضا يستخدم ألفاظ بيضاء ناعمة وهادئة، من هنا يمكننا الدخول إلى ما هو في داخل الأسر، إلى العقل الباطن، فرغم واقع الأسر والممنوعات، وثقل الوقت، إلا أنه يشكل لنفسه (حلم) يستطيع من خلاله أن يتجاوز السجان والجداران، فيستخدم لغة بيضاء، حاملة لفكرة الحياة واستمرارها.
الأبوة/الولادة جعلت المرسل يتحول ايجابيا بأفكاره وبلغته، لهذا نجده يتحدث كثيرا عن حالة الفرح التي خلقها/أوجدها: "إذن باتت "شادن" تستوطن بروحي منذ ثمانية أعوام وغدت أسوة جميلة وأرقاً رائعاً وغيبوبة عشق صوفية لا أرغب في الصحو منها وكلما استذكرتها في خلوتي مع ذاتي تضجر قلبي بالياسمين، وأزاحت عن نفسي أي تجهم وتكدر، أرنو إليها بعين قلبي كل يوم فأجدها أجمل أوهامي على الإطلاق ولولاها لما كان بوسعي مقاومة الأسر وكما يقول محمود درويش:
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد
لولاه، لولا السراب، لما واصل السيرَ
بحثاً عن " المقطع الطويل والذي جاء بالعديد من الألفاظ البيضاء، وانتهى ببيت من الشعر، يؤكد على الأثر الإيجابي الذي منحته "شادن" للمرسل، لكن واقع السجن والأسر ما زال حاضرة، من خلال: "أرقا، غيبوبة، تضجر، تجهم، تكدر، أوهامي" فرغم أننا أمام نص نثري، وليس شعر، إلا أن العقل الباطن حاضر فيه، وهذا مؤشر إلى أن الكاتب يكتب من قلبه، وبإحساس مرهف نابع من مشاعر جياشة، ففعل الكتابة كفعل الولادة، يخرج المولود بعد ألم والتعب، لكن هذا الألم لذيذ وممتع، ويتأثر بالمحيط الخارجي هو في رحم امه، من هنا نجد أثر لواقع السجن من خلال الألفاظ المستخدمة.
إنسانية المشاعر
أهم ما في الرسالة الإنسانية التي جاءت بها، إنسانية الاسير، فهو بشري وليس خارق، لهذا يدخلنا إلى ما يفكر به، إلى رغباته في الحياة: "ومهما حاولت إشغال نفسك إلا أن ثمة أشياء تبدأ بالتزاحم في رأسك، وثمة هواجس ومشاعر وحاجات ورغبات تستيقظ من مراقدها بصورة لا إرادية مهما حاولت قمعها أو التحايل عليها إلا أنها تظل تلح عليك وتتدفق من الدهاليز العميقة للنفس الإنسانية." تأكيد على بشرية الأسير، فهو إنسان، يتألم كغيره من الناس، ويسعى للفرح، فرغم (منطقية) التحليل للأعزب في الأسر، إلا أن رغبة الأسير في الحياة، تجعله يفكر بضرورة أن يكون أبا: "فتستيقظ الهواجس والرغبات الوجودية المدفونة في أعماق نفسك وأهمها التوق لتحقيق الرغبة الجامحة بالأبوة، وتبقى هذه المشاعر تتسلل إليك ومع الوقت تشّكل درباً ومساراً عبر الذاكرة وأنا شخصياً مررت بلحظات تفكير عميقة حاولت فيها مراراً مقاومة هذه الرغبة التي لم يخيل إليّ يوماً أنها ستساورني أو تشّكل حاجة ملحة وضرورية في حياتي، ومع كل مقاومة كانت تتلبسني هذه الرغبة وتهيمن عليّ إلى أن استسلمت أمامها رغبة أو توقاً يشبه الحلم ويُشّكل لي ملاذاً وملاجئاً معنوياً بلحظات الخلوة مع الذات." اللافت أن المرسل يتحدث عن كونه إنسان وليس بطل خارق، فذكره لرغباته بالأبوة تأكيد على بشريته، فهو كبقية الناس يريد أن يمارس هذه الرغبة، هذا الدور في الحياة، فواقعية الرغبات والمشاعر هي العمود الفقري الذي بنى عليه الكاتب رسالته، وأرادنا أن نصل إليه إنسانيا إلى متطلباته الإنسانية.
الهدف من الأسر/السجن
الغاية من السجن تتمثل معاقبة المجرم، ليتقدم من جديد من الحياة السوية الطبيعية، لكن عند المحتل للسجن هدف آخر، تحطيم السجين إنسانيا، وتعذيبه نفسيا، فهو من خلال السجن يمارس ساديته وعنصريته على الفلسطينيين، من هنا ينظر للسجن على حالة مواجهة جديدة، شكل نضال جديد: "إن واقع الأسر بإجراءاته المصممة بعناية فائقة تهدف إلى قتل إنسانيتك، ومن خلال هذه الإجراءات تتحجر مشاعرك وأنت تعيش بحكم العادة وتسلبك أي قدرة على مغادرة واقع السجن؛ فالسجن يحتجز طاقتك ويسعى إلى ترويضك ويضعك في قلب معركة متواصلة مع الذات ومع الآخرين ومع إجراءات السجن، وهنا يتجلى صراع الإرادات" فالاستسلام يعني للأسير الموت، لهذا المواجهة والصداع والتحدي سلوك طبيعي وضروري لتحقيق وإثبات الذات: "وكأن هذه الإجراءات تقول لك: إن السجن هو قدرك النهائي ولا سبيل لك سوى الإذعان والقبول بالأمر الواقع"، في السجون المدينة يتم تعليم النزيل عادات وسلوك يحوله من مجرم إلى شخص سوي، لكن عند الاحتلال يحدث العكس، فهو يعمل على قتل إنسانية الأسير، وجعله مجرد آلة/ماكنة، تعمل ما يطلب منها، فحتى المشاعر النبيلة يعمل قتلها، فهو لا يريده إنسانيا، من هنا نجد الحصار والمضايقات حتى داخل المعتقل، فيمنع عنه الزيارة، الكتب، الهاتف، التلفاز، كل هذا وغيره ليخضع الأسير ويستسلم للسجان.
واقع السجن وأثره
الجميل في هذه الرسالة الموضوعية التي جاءت بها، فهي بعيدة عن المغلاة، وتتحدث عن السجن بشكل واقعي، عن أثره على الأسير، فهو مكان لا يليق بالإنسان بكل تأكيد: "وعالم السجن ليس عالماً مثالياً كما يتصور البعض، بل هو عالم يغص بكل ما يثقل النفس البشرية من تناقضات وهواجس تبدأ من الصراع مع الذات وهواجسها وتناقضاتها، ثم تناقضات مع الآخرين ممن هم حولك من الأسرى، وصولاً إلى الصراع مع السجان وإجراءاته، ولعل أشرس هذه الصراعات هي الصراع مع الذات حين تستيقظ الهواجس وتولد الرغبات والآمال والأحلام وتحاول مقاومة كل أشكال الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية." اللافت وجود العديد من الألفاظ السوداء والقاسية: "يثقل، الصراع، أشرس، الحرمان" ، وهذا يؤكد على أن السجن يحمل معنى الألم والعذاب، وهو مكان غير مناسب للحياة، فالكاتب هنا لا يتحدث عن السجن السلبي فقط، بل يقوم ـ بطريقة غير مباشرة ـ بدعوة للتخلص من السجن والسجان، من هنا نجده، حتى هو في السجن يقاوم ويتعارك ويتصادم مع السجان، ويفعل ما يستطيع ليثبت وجوده كإنسان حي، فاعل ومؤثر، ومبدع، وليؤكد أيضا على أن السجن مكان لا يتناسب والطبيعة الأنسان: "ولا سبيل لكسر هذه الحلقة إلا عبر الآمال والأحلام وسعة الخيال؛ فالخيال هو سلاحك للحفاظ على ذاتك من التكلس وحماية إنسانيتك من كل ما ينتهكها" رغم شح أدوات المقاومة، إلا أن المرسل يخترع أداة يستطيع بها أن يصارع المحتل، ورغم (وهنها)، إلا أننا سنجدها فاعله وتسهم في إبقاء الأسير إنسانا، محافظا على كيانه وعلى تركيبته ليست البيولوجية، بل الفكرية والسلوكية، واللافت في الفقرة السابقة أن الصراع/المواجهة لم تقتصر على المعنى العام فقط، بل جاءت من خلال الألفاظ أيضا: "لكسر، الحلقة، التكلس،" وبين "للحفاظ، وحماية، إنسانيتك" وهنا تكون شمولية المواجهة، التي نجدها حتى في الألفاظ كما هي في الوسيلة/الفعل.
"الخيال ونبش ذاكرة الماضي لإيقاظ كل لحظة راقدة والبحث في كل محطة وكل حادث مر في حياته، أو يحلم في حياته القادمة ويرسم أحلامه وآماله وما يتوق إليه في الحياة إن حدثت المعجزة وجاءت لحظة الحرية." فعل المواجهة/المقاومة ليس بالأمر السهل، بل تحتاج إلى جهد وإرادة، من هنا نجد المرسل يستخدم افعال بحاجة إلى جهد: "نبش، لإيقاظ، البحث، يرسم" لكن هذا الجهد سيكون ختامه "بالحرية"، وهذا الترتيب والتناسق في الفقرة يؤكد على أن الجهد والعمل إذا ما خطط لهما سيكون لهما أثر ايجابي على الأرض.
المواجهة وأثرها
الأثر الذي ستتركه المواجهة بالـتأكيد سيكون إيجابي على الأسير، فهو بأدوات متواضعة يواجه آلات حديثة ومتطورة، ورغم تفاوت الامكانيات/الأدوات يستطيع الأسير أن يثبت حضوره ووجوده، وهنا يكمن الأبداع: "وقد مثلت "شادن" عامل استقرار نفسي وعاطفي ووجداني وحالة جمالية روحية استشعرها وأتذوقها في كل لحظة وحافظت على دفئ روحي وحمتني من التبعثر والجفاف لهذا أبقيتها حية في أعماقي، وكلما تعكر صفوي دأبت على الفرار إليها لتهدأ نفسي." الفقرة السابقة جاءت بألفاظ ناعمة وهادئة، حيث كانت "شادن" هي الباعث على هذه الألفاظ والمعاني البيضاء، لكن عندما تحدث عن واقعه استخدم ألفاظ القاسية: "الجفاف، تعكر، الفرار" وهذا يعكس أثر الأنثى الناعم على المرسل، فالواقع قاسي، لكن حضورها يجعله هادئا ناعما، أليس هذا تحدي وانتصار على الجدران وعلى السجان؟.
الواقع والرمز
في حكاية الغزلة والظبية يتحدث المرسل عن حادثة حقيقية، لكن، اعتقد ان هناك رمزية أرادها ووجدها العقل الباطن للمرسل، دون أن يعي ذلك، فالغزالة الوالدة بعد أن تشاهد الكاتب يحمل مولودتها تيأس من استخلاصه وتتركه، بعدها أحس بهذه المشاعر: "وترمقني بنظرات غامضة أقرب إلى التوسل والاستهجان والجزع"، يأخذ الظبية ويربيها مع الماعز، وتعودت الظبية عل رضاعة حليب الماعز، لكن عندما قدم لها حليب آخر حدث: "قررت أن أجلب لهذه الغزالة حليباً صناعياً حتى تكبر بسرعة إلى جانب حليب الماعز، وما أن رضعت الحليب من القارورة الأولى التي اعددتها لها حتى أخذت تتمايل وتقع أرضاً وبعد ساعة وجدتها ميتة لقد قتلها الحليب الصناعي" فالسبب يمكن أن يكون علمي، الحليب الصناعي لا يتناسب والظبية، لكن هناك رمز "الحليب الصناعي"، فكل ما هو غريب غير متناسب مع الطبيعة يضر ويشوه الحياة، هذا ما أراد أن يقوله المرسل في العقل الباطن.
والرمزية لم تقتصر على موت الظبية، بل ايضا على الاسم، "شادن"، الذي يعني الظبي الذي يستطيع الاعتماد على نفسه ويقدر الابتعاد عن أمه: "مشهد الغزالة حين عثرت عليها يتكرر في مخيلتي وهي تحاول الوقوف في محاولة للحاق بأمها ثم تعود وتقع وتعاود الكرة ثانية." وهذا الفعل هو الذي جعل المرسل يستمر في الوقوف/المواجهة، وكأنه تعلم من الغزالة المثابرة رغم الضعف ورغم قوة الخصم.
شادن الحلم وصفاء الحقيقة
الحلم والواقع متناقضان، كلاهما ينفي الأخر، فكيف سيتعايش المرسل مع واقع متناقض، علما بأنه يسعى لحالة من الاستقرار، فقد أتعبه السجن والسجان، من هنا يصف هذا (الصراع) بقوله: "أما الوجه الآخر في معاناتي فقد أخذت "صفا" تزاحم "شادن" بالقلب، الواحدة منهن تطرد الأخرى وتحل مكانها وتتناوبان على الصراع في قلبي، وبت استشعر عذاباً وقهراً ووجعاً." ورغم أن المرسل يتحدث عن مشاعره، تجاه كائن افتراضي "شادن" وآخر بعيدا جغرافيا وجسديا "صفاء"، إلا أنه يتعامل إنسانيا مع الحلم "شادن" والواقع "صفاء"، فهما بالنسبة لنا نحن المتلقين (حلم/وهم/خيال) لكن بالنسبة للمرسل هما واقع، هما حالة إنسانية: "المسألة ليست قبولاً أو رفضاً لأبوتي لـ"صفا" إنها مسألة إحساس إنساني وجودي سام لي ولها، لقد كانت "شادن" تمثل حالة السكينة والجمال المطلق في وجداني، ثم جاءت "صفا" وحركت مياهي الراكدة وأهيم لهذه الحالة التي باتت تتملّكني كيف تسنى لهذه الفتاة أن تحدس توقي للأبوة؟ وتدخل على أمواج أثيري؟!." من هنا نقول أن المرسل يتجاوز الواقع، فهو لا يتمرد على السجان بإنجابه "شادن" وقبول ابوة "صفاء" بل أيضا تمرد على المجتمع، الذي (يستغرب ويستهج) وجود أبوة بالتبني بهذا العمر ثلاثة وعشرين عاما للأبنة و ثلاثة وأربعين للأب، فالمجتمع المجبول بالتهويل والجنس والحرام والدين، يرفض مثل هذا الأمر، لكن المرسل أراد إيصال قراره بالتمرد والثورة، ليس على المحتل فحسب، بل على مفاهيم المجتمع الذي ينتمي إليه. فقراره قبول تبني "صفاء" يتماثل مع تمرده وثورته في مواجهة المحتل.
لكن اللافت أن المرسل يُوصل فكرة التمرد على مفاهيم المجتمع بطريقة ناعمة، من خلال الأحداث، وهنا يكون أثرها أقوى في المجتمع، الذي سيمر على الفكرة ـ الصادرة من أسير ـ مرورا سريعا دون أن يتوقف عند معنيها الاجتماعية والدينةـ
شادن وصفاء السورية
المرسل يتعامل مع "شادن" الحلم بيعن الألفاظ التي يتعامل بها مع "صفاء الحقيقية، يقول واصفا مشاعره تجاه شادن: "ولم تكبر منذ ثمانية أعوام وتوقف الزمن لديها مثلي، لا تزال في عمر الزهور" وحين تحدث عن "صفاء" قال: ""صفا" فتاة سورية بعمر الزهور أكملت قبل أيام عامها الثالث والعشرين وتدرس الهندسة الزراعية" فالمرسل هنا استخدم "بعمر الزهور لشادن ولصفاء، علما أن الأولى طفلة تحبو، والثانية ناضجة وراشدة، وهذا يعود إلى أنه يرى حتى في "صفاء" الواقعية حلم، فهي في سوريا وهو معتقل عند الاحتلال، لكن حاجة المرسل إلى الأبوة جعلته يقبل أن يكون أبا لصفاء.
وهنا نسأل لماذا (أنجب) المرسل ابنتان وليس ابنة وأبن أو أبناء؟، اعتقد أن واقع السجن فرض عليه أن يكون هناك جنس ناعم يخفف عنه شيء من الضغط الواقع عليه، من هنا نجد مشاعره تتدفق عندما يذكر "شادن أو صفاء"، وينهمر الجب والحنان، وتأتيه الألفاظ الناعمة والهادئة في الرسالة: "وهناك التقيت "بشادن وصفا" عانقتهما بكل ما أوتيت من فرح، وهن يلامسن أوتار قلبي وأشرقت شمس البهجة في أعماقي، وضج قلبي بنشوة لم أعرفها يوماً ولم أقاوم دمعة سقطت من عيني لقد صرت أباً."
.أثر ابوة صفاء زمانيا
في البداية تحدثنا عن الزمن وثقله على المرسل، فالزمن كان ميت/جثة، لكن بوجود "صفاء" تحرك الزمن، وليس بطريقة عادية، بل قفز ستة عشر عاما مرة واحدة: "أخذ طيف "صفا" يداهمني وانتابتني مشاعر متضاربة أفكر فيها على الدوام، ماذا يعني أن تكون ابنتي لقد كان الوجه الأهم في معاناتي يتعلق بالزمن فأنا أحس بأن عمري سبعة وعشرين عاماً فكيف تكون ابنتي في الثالث والعشرين؟" نجد أن المرسل بحاجة للتكيف من الواقع/مع الزمن، فجاءت "صفاء" لتعيد الزمن إلى مساره الطبيعي: "شكلّت لي "صفا" وجها للمعنى فإذا كان السجن يشّكل لي خسارة فقد كسبت بعد ستة عشر عاماً فتاة صغيرة لقد كانت تعويضاً لي عن خساراتي ."
الفارق الزمني بين الأب، صاحب السبعة والعشرين عاما وبين الأبنة بنت الثلاثة والعشرين، كان لا بد من إيجاد حل له:
صفاء وتحريك الزمن
"بدخول "صفا" في حياتي تنبهت لعمري وتنبهت للزمن فأنا أكبرها بعشرين عاماً عندها شعرت بالرعب فنحن نحسب أننا ما زلنا صغاراً، وبعد أن بدأت باسترجاع ذاكرتي وجدت أن من هم في عمري بات لديهم أبناء وبعضهم بات لديهم أحفاد، كيف انهمكنا بحياة السجن ونسينا أعمارنا التي نبتت دون أن نشعر بها ؟." وهنا نتسأل، هل كانت المرسل مخلص إنسانيا عندما قبل تبني "صفاء" أم أنه احتاجها لتساعده على تخطي حاجز الزمن؟، أم أنه هناك ـ في العقل الباطن ـ ميل نحو الأبوة التي تحدث عنها في البداية، جعلته يقبل هذا التبني؟ـ أم أن هناك تزاوج بين الحاجة والرغبة؟، أم أنه أراد تأكيد واستمرار المواجهة مع المحتل، فقبل التبني؟، يتحدث المرسل عن واقعه فيقول : "... إذاً من المنطقي أن تكون "صفا" ابنتي"، فهو يريد أن يكون اب، بمعنى آخر، أن يكون طبيعيا، يمارس حياة سوية، وهذا الأمر جاء من خلال العبارة السابقة، والحالة السوية هي التي أرادها المرسل، هي المركز الذي تدور حوله الرسالة.
أثر صفاء إنسانيا/نفسيا
"صفاء" لم تكن حائل دون ممارسة المرسل حياته (الطبيعية) رغم السجن والسجان، يقر بحاجته ليكون إنسان سوي: "كم نحن قساة بحق أنفسنا نحن الرجال، نحن المتجهمون دائماً تحت قناع الجدية والوقار، نحن الذين اخترنا طريقاً وعراً فًرض علينا أن نظل متحفزين للمواجهة ونألف سجون الخيال وحين نخلوا إلى أنفسنا نغدو أطفالاً، لدينا قلوب رقيقة تنبض دفئً لعالم من صقيع." فالواقع القاسي لم يؤثر سلبا على قلوب الأسرى، بل بقوا يحملون قلوب أطفال، واعتقد أن المرسل لم يريد أن يستخدم عبارة (قلوب تبكي كالأطفال) حتى لا يأخذها المحتل كتعبير عن الضعف، لهذا استخدم "رقيقة وتنبض دفء العالم" وهو يرد على من يريد من الأسى أن يتحولوا إلى آلات بشرية، من خلال تناوله للحاجات العاطفية للأسرى.
فالأثر لذي ستتركه صفاء على المرسل سيكون إيجابا بالتأكيد: "أخذت "صفا" تحتل مساحة شاسعة من القلب والوجدان أرسلت لي أشعارها وكلمات دافئة، وأرسلت لها عدة رسائل قصيرة طارت بها فرحاً وأمطرتني بسيل متدفق من المشاعر الإنسانية الدافئة، ومنذ ظهورها في حياتي أزاحت كثيراً من الغيوم الداكنة في سمائي وأخذت حياتي تصفو ويتألق اسمها في فؤادي وصار لديّ متسعاً من الحلم ولن أتعب من مواصلته." اللغة البياض التي جاءت في الفقرة السابقة كافية لتؤكد أهمية وجودها في حياة المرسل، فاثرها الايجابي لم يكن على صعيد المشاعر فحسب، بل أيضا على صعيد الكتابة، الوسيلة التي يثبت بها المرسل دوره ووجوده وحضوره في الحياة، ويتحدى بها المحتل، من هنا نجد العديد من الألفاظ متعلقة بالكتابة: "أشعارها، كلمات، رسائل" وهنا يستمد المرسل طاقة جديدة تجعله يعيش حياة/حالة (طبيعية)، لهذا يمكننا القول أن "صفاء" الابنة فتحت آفاق أمام المرسل، ليتقدم نحو الحياة بطريقة جديدة تحمل الفرح. متجاوزا واقع السجن والسجان.
الذروة
يختم المرسل رسالته بهذا المشهد: "أرسلت لي "صفا" عدداً من صورها تأملتها مراراً كانت جميلة ومشرقة ومن عينيها يتسلل بريق من الجمال والبراءة والحنان، وبوجودها في صحراء غيابي تسلقت جبلاً شاهقاً من السعادة ووصلت إلى قمة سعادتي، وهناك التقيت "بشادن وصفا" عانقتهما بكل ما أوتيت من فرح، وهن يلامسن أوتار قلبي وأشرقت شمس البهجة في أعم