العِشْقُ وشِعْرُ العاشِقين في
الميزان
أ .
د. لطفي منصور
أيُّهُما
أجملُ وأكثرُ وَقْعًا في النَّفْسِ الشِّعْرُ الأصيلُ أَمِ الْعِشْقُ الحقيقيُّ؟
لم أستطِعْ
حَلَّ هَذِهِ المُعْضِلَةِ، فقد نَصَّبْتُ من نفسي حَكَمًا، ودرستُ شِعْرَ العاشقينَ
مِنَ الشُّعَراءِ، صوفيِّينَ كابنِ الفارِضِ، ومُحْيِي الدِّينِ ابنِ العربي، وعُذريِّينَ
مثلِ تَوبَةَ الخفاجي وليلَى الأخيليَّةِ، هما قِمّتانِ في العِشْقِ والشِّعْرِ، لا
يرقى لشعرِهما شِعْرٌ آخَرُ في العِشْقِ الْعُذْري، وكذلكَ شِعْرِ المجنونِ الأصيلِ
والمنحولِ الذي زيدَ عليْهِ، وكُثَيِّرِ عَزَةَ، وجميلِ بُثينَةَ، وعُرْوَةَ وعفراءَ،
وقيسِ لُبْنَى.
وقدِ
اطَّلَعْتُ على قِصَصِ الحُبِّ العُذْرِيِّ وكتبتُ بَحْثَيْنِ مُوَثَّقَيْنِ بمصادرِ
الموضوعِ الأوليَّةِ١، مثلِ كتابِ الشِّْعْرِ والشُّعراءِ لابن قتيبةَ الدِّينَوَريِّ،
وكتابِ الأغاني لأبي الفرجِ الأصبهانيِّ، ومصارعِ العُشّاقِ للسَّرّاج، وتزيين الأسواق
للأنطاكي، وغيرِها عشراتُ الكتبِ لا مجالَ لذكرها هنا، فقد تعقبتُ مصادِرَ الحُبِّ
الْعُذْري في معارضِ الكتبِ الدَّوليَّةِ، وخاصَّةً معرضَ القاهرَةِ، وحَصَّلْتُ على
أكثَرَ من خمسينَ مصدَرًا في هذا الشِّعْرِ والأَدَبِ.
وتوالَتِ
الدِّراسات، وقد شَدَّتْني قِصَصُ الحُبِّ، مَعَ أنِّني كنتُ أَشعُُرُ بِالأَسى في
نهايَةِ كُلِّ تراجيديا (مَأْساة). تَتَكَرَّرُ في كّلِّ القِصصِ تقريبًا. وصدَقَ مَنْ
قَالَ: هؤلاءِ شُعَراءُ إذا أحَبُّوا ماتوا.
وَشَدَّني
أيضًا ذَلِكَ الشِّعْرُ الرّاقي العَذْبُ الذي يُصَوِّرُ مشاعِرَ العاشِقِينَ ومُعاناتِهم
في اللِّقاءات، أو النظراتِ، وخيبَةِ أمَلِهم مِنَ الأَهْلِ والدَّولةِ والمجتمعِ العربي
في ذلك العصر. فقد قَضَوْا هم وعشيقاتُهم مظلومينَ بفعلِ عاداتِ القبائلِ الباليَةِ
الذينَ كانوا لا يزوِّجونَ بناتِ مِمّن شَبَّبَ بِهِنَّ.
كُلَّما
هَمَمْتُ أنْ أقْضِيَ لواحِدٍ من الطَّرَفينِ: الشِّعرِ العُذْرِيِّ أَمِ قِصَّةِ الْعِشْقِ
أدْلَى الطَّرَفُ الآخَرُ بِحُجَّتِهِ. فعلمتُ أنَّ الطَّرَفينِ مُتَّحِدانِ لا ينفَصِمان،
إنَّما هما شِبْهُ الشَّيْءِ الواحِدِ، يُكْمِلُ أَحَدُهما الآخر.
نماذِجُ
مِنَ الشِّعْرِ العُذْرِيِّ الجميل:
يقول
قيسُ بنُ الْمُلَوِّحِ المعروفُ بمجنون ليلى، عندَما أَتَى جَبَلَ التَّوْبادِ مربَعَ
قيسٍ وليلى في صِباهُما، عَلَّهُ يجدُها هناكَ: مِنَ الطَّويل
وَأجْهَشْتُ
لِلتَّوْبادِ حينَ رَأَيْتُهُ
وَكَبَّرَ
لِلرّّحمانِ حينَ رَآنِي
وَأَذْرَيْتُ
دَمْعَ الْعَيْنِ لَمَّا رَأَيْتِهُ
وَنادَى
بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَدَعانِي
فَقُلْتُ
لَهُ أَيْنَ الَّذينَ عَهِدْتِهِم
حَوالَيْكَ
في خِصْبٍ وَطِيبِ زَمانِ؟
فَقالَ:
مَضَوْا وَاسْتَوْدَعوني بِلادَهِمْ
وَمَنْ
ذَا اللَّذي يَبْقَى مَعَ الحَدَثانِ
.......
واللَّهِ
كُلَّما قرأْتُ البيتَ الأخير سقطتِ الدُّموعُ من عَيْنَيَّ كالْغَرْبِ كما قالوا مبالِغينَ.
قَالَ
توبَةُ بنُ الْحُمَيِّرِ الخفاجيُّ بَطَلُ الصّحراءِ في عِشْقِهِ لِيْلَى الأخيليَّةَ:
من الطَّويل
فَإِنْ
تَمْنَعُوا لَيْلَى وَحُسْنَ حَديثِها
فَلَمْ
تَمْنَعُوا مِنِّي الْبُكاءَ وَالْقَوافِيا
فَهَلّا
مَنَعْتُمْ إِذْ مَنَعْتُمْ كَلامَها
خَيالًا
يُوافينِي عَلَى النَّأْيِ هادِيا
وَلَوْ
كُنْتُ مَوْلَى حَقِّها لَمَنَعْتُها
وَلَكِنَّ
مِنْ دُونِي لِلَيْلَى مَوالِيا
يَلومُكَ
فيها الْلائِمونَ نَصاحَةً
فَلَيْتَ
الْهَوَى بِالْلائِمِينَ مَكانِيا
............
وقالت
لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةُ في عَشيقِها تَوبَةَ: من الطَّويل
فَيا
أَلْفَ أَلْفٍ كُنْتَ حَيًّا مُسَلَّمًا
لِأَلْقاكَ
مِثْلَ الْقَسْوَرِ الْمُتَطَرِّفِ
وَكَمْ
مِنْ لَهيفٍ مُحْجَرٍ قَدْ أَجَبْتَهِ
بِأَبْيَضَ
قَطّاعِ الضَّرِيبَةِ مُرْهَفِ
فَأَنْقَذْتَهُ
والْمَوْتُ يَحْرُقُ نابَهِ
عَلَيْهِ،
وَلَمْ يُطْعَنْ وَلَمْ يُتَسَيَّفِ
——
يَرْجِعُ
تاريخُ هذا الشِّعرِ إلى أواسطِ القرنِ السابِعِ الميلادي، لم تَبْلَ ديباجَتُهُ، وَلَمْ
يَقِلَّ مُحِبُّوهُ ومُنْشِدوهُ، فهوَ خالدٌ باقٍ، وسيبقى ما دامَ عربيٌّ
يركبُ
ناقتَهُ يجولُ في الصحراءِ مُنْشِدًا. أيُّها الشُّعراءُ وأيَّتُها الشّاعِرات اقرأوا
شِعْرَ تَوبَةَ وشعرَ لَيْلَى الأخيليَّةِ لِتَرَوْا عَجَبًا.
———
يُنْظَرْ
كتابُنا: بُحوث ودراسات في الحضارَةِ والأدب (طُبِعَ في عَمَّان ٢٠٠٧م).