الغرفة رقم (5): زيارة إلى فان غوخ
للكاتب الاردني : طارق قديس
"هُنا أنهى الرسام الهولندي "فان غوخ" حياته بِيَدِه". هذا ما قاله المُرْشِدُ السياحي بلغة إنجليزية ركيكةٍ في رحلتي من باريسَ إلى شَمال فرنسا. إنه مَبْنىً صغيرٌ لا يُوحي بأنَّ شخصيةً مشهورةً قد انتهتْ إليه يوماً ما. تملؤُهُ الأشجارُ، وينقسمُ إلى ثلاثةِ مَبانٍ مُتَفَرِّعَةٍ: الأيسر -وهو الأصغر- مُخَصَّصٌ لبيع التذاكر، الأوسط؛ استراحة طولية لبيع المشروبِ الفرنسي بأنواعِهِ، الأيمن؛ نُزُلٌ مكونٌ من ثلاثة طوابق.
الغُرْفةٌ (5) صغيرة لا مكانَ فيها للأثاث ما عدا كُرْسِيٍّ مَقْعَدُهُ من الخَيْرُزان. الجُدرانُ باللونِ الأبيض وتَملؤُها الشقوق
وقفتُ أتأمل تفاصيل المكان والشَواهِدَ المُوزعة على الجُدران، جذبني شاهدٌ انفرد بالحديث عن غرفة الرسَّام كُتِب فيها: " في عامِهِ الـ 37 بلغ عدد العناوين التي سَكَنَ فيها فنسنت فان غوخ 38 عنواناً في هولندا، بلجيكا، إنجلترا، وفرنسا. الغرفة رقم 5 لم يَلْمَسْها أحدٌ منذ وفاته عام 1890. وباعتبارها "غرفة انتحار" لم يتم تأجيرها مُجدَّداً. الفراغ وَحْدَهُ يَسُكًنُ المَكان، ولا يُوْجَدُ هناك ما يُمْكِنُ مشاهَدَتُهُ، ولكن يُوْجَدُ الكثير مما يُمْكِن الشعورُ بِه في مساحة 75 قَدَماً مُرَبَّعاً (ما يُعادلُ 7 أمتارٍ مُرَبَّعَةٍ). الغُرْفَةُ تم إدراجُها كمَعْلَمٍ تاريخي في عام 1985."
**مات مُنْتَحراً
دُهِشْتُ لما قَرَأته. دُهِشْتُ لمعرفتي أنه مات في سنٍّ مُبَكِرة، مات مُنْتَحراً، ودُهِشْتُ أكثرَ لأني أدركتُ أني لا أعلمُ عن تاريخه شيئاً سوى أنه في إحدى حالاتِهِ الجنونية قامَ بقَطْعِ أذُنِهِ وتقديمها هَدِيَّة لباغيةٍ في أَحَدِ الملاهي هناك.
لم يَمْضِ وقتٌ طويل حتى أقْبَلَ المُرْشِدُ ومعه التذاكرُ لي ولمن رافَقَنا في الرحلةِ من سائحين من بلدانٍ مختلفة. طَلَبَ منا السيرَ قُدُماً باتجاه النُزُل، والصُعودَ إلى الطابق الأول عِبْرَ الدَرَج الجانبي للمَبنى، فصعدنا تِباعاً لننتَهِيَ إلى مُوَزِّعٍ صغيرٍ يُفْضي إلى غُرْفَةٍ واسعةٍ هي غُرْفةُ استقبالِ الزوار، ومَعْرَضٍ صَغيرٍ لبيع اللوحات الفنية والكُتِبِ المتعلقة بِحياة فان غوخ. تَفَحَّصْتُ المكان بِنَهمٍ، تأملتُ اللوحات الورقية المعروضة على الطاولة الوسطية، لوحات لَفَتَ انتباهي أنها تنحصرُ في أواخر عام 1890، عرفتُ فيما بعد أنها بَعْضٌ من اللوحات التي رسمها في القرية هنا.
** الدرجات التي سَبَقَني إليها غوخ
بَقيتُ لبرهةٍ أتأمل وأقرأ حتى طَلَبَ منا القَيِّمونَ الصعودَ إلى الطابقِ الثاني عبر دَرَجٍ داخلي. صَعْدتُ الدَرَج. أحْسَسْتُ بالرَهبَةِ. هل أنا أطأُ الدرجات التي سَبَقَني إليها ذلك العَبْقريُّ قبل ما يَزيدُ عن مئةِ عام؟ أحسستُ بالرعشةِ تجتاحُ جَسَدي، والخَدَرانِ يَتَسَلَّلُ إلى قَدَمَيَّ. لم أستسلم للتَوَتُّرِ في داخلي. مَضيْتُ للأعلى. قادني الدَرجُ إلى غَرفةٍ متوسطةِ الحجمِ خَصَّصها المَعْرَضُ لمشاهَدةِ شريطٍ قصيرٍ من الفيديو عن حياة الرَسَّام، لَنَصل بعدها إلى غُرْفةٍ صغيرة فارغَةٍ من الأثاث ما عدا كُرْسِيٍّ صغير مَقْعَدُهُ من الخَيْرُزان. لم أعرف كيفَ وَصلتُ إلى الغرفة! ذهني يَكْتَظُّ بالتساؤلات والأسئلة. ما أعرفِهُ أنني أوَّل من وَصَلَ من الزُوَّار. التَقَطْتُ صورة تَذْكارِيَّةً لها، ووقَفْتُ أتأمل بِعُمْق. إنها غُرْفةٌ صغيرة كما كُتِبِ على اللوحةِ في الخارج. لا مكانَ فيها للأثاث، الجُدرانُ مَطْليَّةٌ باللونِ الأبيض، وتَملؤُها الشقوق. أشعةُ الشمس تخترق صَمْتَ المكانِ عبرَ الجدار المُقابِلِ، أما الجدار الأيمن فمَحروس بواجهةٍ زجاجية، وقد بَدَتْ بارزةً عليه آثارُ المسامير التي استخدمها فان غوخ لتعليق لوحاته بها. أخرجني تَدَفُّقُ الزُوَّارِ من حالة التأمل. اخْتَرَقَتْ مُرْشِدةُ المعرض طابورَ المتدفِّقين. وأخذت تشرحُ لنا كيف أنهى الرسام حياتَهُ في زاوية الغرفة، الغرفةِ التي وَجَدَ نَفْسَهُ مُرْغَماً على العيشِ فيها؛ لأن إيجارَها هو الأقَلُّ في أنحاءِ القَرْيَة كُلِّها!
**ألوان رخيصة بسبب الفقر
تَكَلَّمتْ كثيراً، وأسْهَبَتْ في سَرْدِ تعقيدات حياته. أشارتْ إلى أنَّ أخاهُ ثيودور كانَ من يَتَحَمَّلُ مَصاريفهُ بالكامل، وأنَّ الألوانَ التي استخدمها في رُسوماتِهِ رَخيصةُ الثمن، وهو ما أدى إلى تَغَيُّرِ ألوان بَعضِ لوحاته مع مرور الوَقْتْ، كما قَرَأْتُ فيما مضى. أشارتْ إلى أنهُ عانى طويلاً من نَوْباتِ الصَرَعِ، وأنَّ علاقَتَه بطبيبِهِ (غاشيه) مميزةٌ جدَّاً إلى دَرَجَةٍ شَجَّعَتْهُ لأن يكون الطبيب مادَّة لإحدى لَوْحَاتِه. تَحَدَّثَتْ عن ساعاته الأخيرة. أشارتْ إلى مكانِ السريرِ. "لَقَدْ أطْلَقَ النارَ في صَدْرِهِ وهو يَرْسُمُ إحْدى اللوحاتِ في الحَقْل"، هكذا قالتْ، ثُمَّ عادَ إلى مَنْزِلِهِ وهو يَنْزِفُ لِيَسْتَلْقِيَ على سَريرِهِ. بَقِي يَوْمَيْنِ على حالَتِهِ، لم يَسْتَطع الطبيب إخراجَ الرَصاصَةِ من صَدْرِهِ لأنَّها استقَرَّتْ في بُقْعَةٍ حَسَّاسَة. في النهاية فارقَ الحياة وهوَ في مُقْتَبَلِ العُمْر.
الألوان التي استخدمها غوخ في رسوماته رخيصة الثمن بسبب فقره ما أدى إلى تغير ألوان بعض لوحاته مع الوقت
أمْعَنْتُ النَطَرَ حيثُ أشارَتْ، وَجَدْتُني إلى جانِبِ فِنْسِنْت. إنه مُمَدَّدٌ على السَريرِ والضِمادُ يَلُفُّ صَدْرَهُ. يَرْمُقُني بِنَظَراتٍ أصابَها الذُبول وَهْوَ بالكادِ يَلْتَقِطُ الشَهيقَ تِلْوَ الآخر. اقْتَرَبْتُ منه أكْثَرَ. تأمَّلْتُ يَدَهُ اليُمْنى. "هل هذه هي اليَدُ التي أهْدَت العالَم لَوْحَات "زَهْرَةِ الخُشْخاش" و" آكِلو البطاطا" و"الكنيسة في أوفيرس"؟، قُلْتُ في نَفْسي. إنها في حالَةِ سُباتٍ مُطْلَق، وعاجِزةٌ عن التقاطِ الفُرشاةِ ووِلادةِ فِكْرةٍ جَديدةٍ في أرْضٍ عَذْراءَ من اللَوْحاتِ البيضاء. رَفْعْتُ رأسي إلى السَماءِ وكأني أهْرُبُ بِعْينَيَّ من قَسْوَةِ المَشْهَدِ، أو أبْحَثُ عن مُعْجِزَةٍ في مكانٍ ما هناكَ حتى يَعودَ إلى الوُجودِ من جديد. شَعَرْتُ أنّ العالَمَ مازالَ يَحتاجُ إلى صَخَبِ ألوانِهِ وعُنْفِها، وأنَّ هذا الجَسَدَ المُسَجَّى مازالَ يُخَبِّئُ في خلاياه ملايينَ اللوحات والأفكار.
عينايَ تَمْسحانِ الجُدرانَ والنافذةَ
أفَقْتُ من خيالاتي على وَقْعِ يَدٍ تَهُزُّني. إنها مُرُشِدَةُ المَعْرَضِ تَطْلُبُ مني النُزولَ لأنَّ فَوْجاً آخَر من الزُوَّارِ في طَريقِهِ إلى المَكان، خَرَجْتُ وعينايَ تَمْسحانِ الجُدرانَ والنافذةَ وأرضِيَّةَ الغرفةِ بِنَظْرَةٍ خاطِفَةٍ وكأنهما لا تريدانِ مُفارَقَةَ المَكان.
نَزَلْتُ إلى الطابق الأول، ومنهُ إلى الطابِقِ الأرضيِّ لأجَدَ نَفْسي أمامَ مَطْعَمِ النُّزُلِ حيثُ اعتادَ فِنْسِنْت أن يَتَناولَ طَعامَهُ المُعْتاد فيه، ولا يَفْصِلُني عَنْ التَجَوُّلِ فيه إلا البابُ الزُجاجِي. استدَرْتُ لأجَد نَفْسي في مواجَهَةِ بابِ الخروج، فَخَرَجْتُ عائداً إلى حديقَةِ النُزُل والشواهِدِ المثَبَّتَةِ على الجُدْران. عُدْتُ إلى ذاتِ الشاهِدِ الذي يَتَحَدَّثُ عن غُرْفَةِ الرَّسام، الغُرْفَةِ رقم 5. قَرَأْتُهُ مَرَّتَيْنِ. مِلْتُ إلى يميني حيثُ الغُرْفَةِ وكأني لا أصَدّقُ ما كٌتِب. نَزَلْتُ ببصَري إلى الدَرَجِ وأنا أسْمَعُ وَطْءَ حذاءِ فان غوخ على الدَرَجاتِ واحِدةً واحِدة يَرِنُّ في أذُني.
أخْذتُ نَفَساً عَميقاً لِيَسْتَوقِفَني بَعْدَهُ حَديثُ زائرَيْنِ وَقَفا إلى جانِبي. إنَّهما يَتَحَدَّثان عن إحدى لوحاتِ فان غوخ بيعتْ مُؤَخَّرًا. "لقدْ قَرَأْتُ عن لَوْحَةِ (راتِقاتِ شِباكِ الصيدِ على كُثبانِ الرمل) وقد بيعتْ بِسَبْعَة ملايينِ دولار أمريكي في مَزادٍ عَلَنِيٍّ مُنْذُ فترةٍ قريبة، وهي من أولى لوحاتِهِ. رِسَمَها وهو ابن تِسْعَةٍ وعشرينَ عاماً". هذا ما سَمِعْتُ. عُدْتُ إلى الشاهِدِ وأنا أتَفَكَّرُ في سُخْرِيَةِ القَدَر، كيف أنّ الرَّسام العَبْقَرِيِّ مات فَقيراً بائِساً لا يَمْلِكُ قوتَ يَوْمِهِ، وها هُم أثرياءُ العالَمِ ومَتاحِفِها يَدْفَعانِ الغالي والنفيسَ لاقتناء لَوْحاتِهِ بأسعارٍ فَلَكِيِّة!
ما هِيَ إلا ثوانٍ حتى كان المُرْشِدُ السياحِي يُعْلِنُ لنا عن انتهاءِ جَوْلَتِنا، وأنّ علينا العَوْدَةَ إلى الحافلة على ناصِيَةِ الشارع، فمَشَيْتُ إلى المَخْرَجِ، وَقَفْتُ على البابِ ألقي النَظْرَة الأخيرَةَ على المَكان، مُنْتَهِياً بأَرْضِيَّة النُزُلِ، مُتَتَبِّعاً خُطُواتِ فان غوخ، وفي نَفْسي شيءٌ من الريبَةِ بَأَنْ تَكونَ زَيارتي للنُزُلِ مُجَرَّدَ حُلُمٍ لا أكثر