من هنا يأتي النصر... من هنا تأتي الهزيمة
بقلم / د. صالح العطوان الحيالي
بقلم / د. صالح العطوان الحيالي
انتهى رمضان ولنا في رمضان الكثير من الدروس والعبر من السلف الصالح والاجداد العظام وقادة الاسلام الكبار
هذا فقهُ صلاح الدين يوم أن أنهى حرباً على الصليبيين لاستعادة بيت المقدس، لمّا كان يتفقد الجند ف يمايز بين الخيمة المعتمة (وأهلها نيام) فيقف على أسباب الهزيمة، وبين الخيمة المُضاءة (وأهلها في ركوعٍ وخشوعٍ وخضوع لله) فتلوح له بشائر الانتصار.
إنه فقهٌ تعلّمه القائد الناصر لدين الله من مدرسة رمضان... يوم أن كان مَيْدان الانتصار في معارك الشيطان والهوى وأهل الكفر والضلال بصيحة "الله أكبر"، يصدح بها مَن وعى معناها، فتنخلع منها قلوب أعدائنا... وكانت الفتوحات والانتصارات: بدر... مكة... تبوك... الأندلس... عين جالوت...
أما الآن، ففتشوا عن الأمة التي حوّلت رمضان من محضن تربية لها مفاعيلُها على أرض الواقع إلى طقوسٍ وعادات أفرغته من معانيه وأهدافه.
فرمضان أصبح موائد محتشِدة وبطونٍ متخَمة ومسلسلات وسهرات وحفلات حتى الصباح ثم النوم عن صلاة الفجر... وأضحى التنافس فيه ليس على العبادة وإعادة تأهيل النفس وإعدادها حتى تنتصر في معركة الميدان كما انتصرت في معركة الإرادة وكسر الشهوات... وإنما على كثرة الولائم وازدحامها بأصناف الأطعمة والأشربة ليس بهدف إكرام فقيرٍ لم يعرف من تلك الأطعمة إلا اسمها وصورتها، بل تُقام للمتخمين أصلاً بهدف المباهاة والتسابق على حطام الدنيا!
والمصيبة التي انتُكبت بها الأمة تكمن في أنّ المال – الذي هو عصب الدعوة إلى الله – تحوّل من أيدي موسري المسلمين إلى قلوبهم، إلا مَن رحم الله، فتحكّم بها واستعبدها فصاروا للمال خدماً بدل أن تكون لهم أهداف سامية تخدمها أموالهم! ولم يسلم الفقراء من هذه الآفة؛ فقد تعلقت قلوبهم بمالٍ افتقدوه وصار بعضهم يدّعي حياة الترف ويحاول تقليد المترفين!
خيمة تَقُوم اللَّيل، تتبتَّل لِخَالقها، تأخذ من الزَّاد الإيماني ما تستطيع به أن تقاوم جند الباطل وأعداء الحق، جند يعلمون أنَّهم إذا تساوَوْا مع أعدائهم في المعاصي فاقهم عدوُّهم بالعُدَّة والعتاد، فكان ذلك سبب هزيمتهم، جند يتمثَّلون قول أمير المؤمنين عمر حينما أرسل تعليماته إلى سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في جبهة فارس، قال له: إنِّي آمُرُك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسًا من المعاصي منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوِّهم، جندٌ باعوا أرواحهم فداءً لدين الله، ولِتَمكين الإسلام في الأرض بعدَما كانت أمَّة الإسلام ترزح تحت نير الاستبداد والظُّلم، والقهر والاحتلال، جند علموا أن الأُمَم عندما تُسِفُّ وتَخْلد إلى الأرض تستجمع الخصائص التي تستحقُّ بِها الهزيمة كما هو حال الأُمَّة في هذا الزمان، وأنَّها عندما تصعد إلى أعلى، وتطير بأجنحة من الشَّوق إلى مستوًى من الكمال الرفيع، فإنَّها تستحقُّ الفوز والتمكين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((مَن لقي الله بغير أثَرٍ من جهاد، لَقِي الله وفيه ثُلْمة))، إذًا هؤلاء استحقُّوا فعلاً أن يُنصروا؛ لأنَّهم تحمَّلوا في ذات الله الكثير، واستنفدوا كلَّ أسباب الأرض، فجاء نصر الله لهم رغم عدد وعتاد عدوِّهم، يقول الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110]، فلن يأتي النصر إلاَّ بعد استنفاد أسباب الأرض من الاستعداد والتجهيز، والإرادة والإصرار على رَدِّ الحق المَسْلوب بالقُوَّة بعد ما أُخذ منهم بالقوَّة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60]، وهنا نلحظ أن النَّصر الذي ساقه الله للمسلمين في حطِّين كان فضلاً وعطيَّة من الله تعالى، ليس لعمل الناس فيها إلاَّ الدَّخل المحدود بإذنه، بالتجهيز والاستعداد، والأخذ بالأسباب، والأسباب لا تبلغ نتائجها إلاَّ بِقَدَر الله وفِي حمايته ورعايته.
قيل لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة الأحزاب: يا رسول الله، إنَّ قريشًا جاءت ومعها فلول العرب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((أوتَحزَّبوا؟)) قيل: نعم، قال: ((إذًا أبشِروا بِنَصر الله))، وكأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبيِّن لنا القانون الإلهيَّ أنَّه إذا تحزَّب أعداء الله ضدَّ دين الله والمسلمين، واتَّخَذ المسلمون من الأسباب ما يُواجهون به هذا التحزُّبَ أكرَمَهم الله بالنَّصر المبين، ودَحْر عدو الإسلام والمسلمين.
وهذا مِصْداق قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
فليتأمل المُترَفون قول الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحِجر: 3]، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم محذِّراً من فتنة الدنيا: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على مَن كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتُهلككم كما أهلكتهم" رواه مسلم. وأيضاً قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كفى سَرَفاً ألاّ تشتهي شيئاً إلا أكلتَه" أخرجه الحافظ ابن أبي الدنيا في جزء "إصلاح المال". وبهذا يصبح للمترفين رمضان غير الذي عهدناه: رمضان زيادة الاستهلاك... رمضان الخيام والمطاعم والفنادق... رمضان التجول في الأسواق في العشر الأواخر... رمضان النوم في النهار لقتل الوقت والسهر في الليل لتدخين النرجيلة ولَعِب الورق ومتابعة الفضائيات فضلاً عن حضور حفلات المجون التي تُقام إكراماً للشهر الفضيل!... رمضان الامتناع عن الطعام الحلال والإفطار على لحوم المسلمين...
فأيُّ فائدة تلك التي يجنيها المترفون من جوعهم وعطشهم؟ وأيّ خسارة أعظم من فشلهم في إطلاق أرواحهم من عقالها لتسمُوَ وترتقي في مدارج العبودية لله تعالى؟
وكيف يقبل مسلم أن تكون فيه صفة من صفات المترفين الذين ذمّهم الله في أكثر من موضِع من القرآن الكريم؟
قال تعالى: {وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]، {حَتَّى إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُون} [المؤمنون: 64]، {وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون} [الزخرف: 23].
ولقد تنبّه أعداؤنا إلى أنّ الترف والانغماس في الدنيا وملذاتها من أهم أسباب ضياع عزّ المسلمين وتقويض دولتهم، فخطّطوا لإغراقهم بالشهوات، وأوهموهم بأن الدنيا لا يطيب فيها عيش إلا بأسلوب حياة لم يعهده سلفنا الصالح على اختلاف مستوياتهم المادية والاجتماعية؛ ويؤكد ذلك ما ورد مثلاً في بروتوكولات "حكماء" صهيون - بل سفهائهم - (وهو الكتاب الذي وضع فيه الصهاينة خطتهم للسيطرة على العالم):
البروتوكول السادس (... فَنُعنى بنشر الوسائل المغرية بالترف وعبادة الأناقة بين الغوييم "غير اليهود"، ونشوّقهم إلى هذا الطَّوْر، ونزيِّن لهم ملذاته وأطايبه...).
البروتوكول الثالث عشر: (ولكي تبقى الجماهير في ضلال، لا تدري ما وراءها وما أمامها، ولا ما يُراد بها، فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج، والمسلِّيات والألعاب الفَكِهة، وضُروب أشكال الرياضة، واللهو، وما به الغذاء لملذاتها وشهواتها… والإكثار من القصور المزوَّقة والمباني المزركشة... فتتوجه أذهانها إلى هذه الأمور وتنصرف عما هيأناه، فنمضي به إلى حيث نريد، فَيَسْلم موقفنا، وهو الموقف الذي لو أعلناه بارزاً مكشوفاً، توّاً بغير اصطناع هذه الوسائل المُلهية، لوقعنا في التناقض أمام الجماهير. ثم إن الجماهير بحكم ما أَلِفته واعتادته من قلة التفكير داخل آفاقها النفسية، ولا قدرة لها على الاستنباط، تراها شرعت تقلِّدنا وتنسج على مِنْوالنا في التفكير؛ إذ نحن وحدنا مَن يقدم إليها المناحي الفكرية... وطبعاً لا يكون هذا إلا على يد أشخاصٍ لا شك في إخلاصهم).
فكيف يستقيم للمسلم - بعد هذا - تبني نمط العيش المفروض علينا وهو يعلم أنّ فيه حتفه وحتف أمته ومكانتها وما أُنيطت به من قيادة للعالم وتعبيده لله؟
* فيا أيها المسلمون:
إنّ رمضان بما يمثِّله يريد بكم غير هذا، وعليه يربّيكم ويدرِّب إراداتكم ويشدّ عزائمكم، واسألوا إن شئتم أهل الثغور وما تعلّموه من شهر الصيام وما جنَوْه من زادٍ أفادهم عند لقاء العدوّ: فالشهوات التي تطمس القلب والعقل تحكّموا بها واستعلوْا عليها، والإرادة التي تقدّم الإنسان أو تؤخره درّبوها على التحدي والإقدام، أما الدنيا فأنّى لها أن تَغُرّ أناساً يقفون على تخوم الآخرة يتهيّأون في كل لحظة لاستقبالها وهم يرَوْن جنّة ربهم رأيَ القلب قبل العين؟
إنّ الترف – وما ينطوي عليه من لُهاث مستمر وراء مُتَع الحياة - ينخر في جسد الأمة، ويُنشئ جيلاً خائر القوى ضعيف الفِكر قاسي القلب: الدنيا أكبر همّه وإقامة حكم الله في آخر سُلّم أولوياته (هذا إن كان ضمنها ابتداء!)... قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بـِـأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ما أحوجَنا اليوم إلى تلبية نداء الله تعالى في سورة الأنفال! قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 29].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[الأنفال: 45].
هذه هي مقوِّمات النَّصر وأسبابه، فما أحوجَنا إليها اليوم! فأين أُمَّة الإسلام من هذه النِّداءات حتى تستجمع مقوِّمات النصر على أعدائها، وتَخْرج من مرحلة الذُّلِّ والهوان والغُثاء، وتسحب رأسها من تحت أقدام أعداء الله، وتستفيق من ثُباتها حتَّى يعود للإسلام سيادته ومجده، فإنَّ الزمن الذي تتكوَّن فيه أمَّة إنَّما يرجع إلى مقدار الجهد الذي تبذله هذه الأمَّة؛ كي تنتقل من الظُّلمات إلى النور، ومن الهزيمة إلى النصر، وبمقدار ما ترسَّخ في قلبها من العقيدة والأخلاق والقِيَم الرَّفيعة التي هي شرايين الحياة في كيان جسم يريد أن ينطلق إلى آفاق النَّصر والسيادة.
والأمر يحتاج إلى جهد تربوي كبير لكي يستعيد هذا الجيل الروح الإسلامية التي لا تخلدْ بالمسلم إلى الأرض وإنما ترفعه نحو المعالي، وهذا برسم التربويين من آباء وأمهات ومدارس وجمعيات إسلامية ودعاة، ومن واجبهم أن يجتهدوا للقضاء على مظاهر الترف التي تدبّ في أوصال المجتمع الإسلامي تدريجياً حتى بين الدعاة والعاملين في الحركات الإسلامية... ولنستِفدْ جميعاً من جهد رمضان التربوي الذي حبا الله به هذه الأمة... حتى لا تكون بين جند المسلمين هزيمة.
د. صالح العطوان الحيالي
هذا فقهُ صلاح الدين يوم أن أنهى حرباً على الصليبيين لاستعادة بيت المقدس، لمّا كان يتفقد الجند ف يمايز بين الخيمة المعتمة (وأهلها نيام) فيقف على أسباب الهزيمة، وبين الخيمة المُضاءة (وأهلها في ركوعٍ وخشوعٍ وخضوع لله) فتلوح له بشائر الانتصار.
إنه فقهٌ تعلّمه القائد الناصر لدين الله من مدرسة رمضان... يوم أن كان مَيْدان الانتصار في معارك الشيطان والهوى وأهل الكفر والضلال بصيحة "الله أكبر"، يصدح بها مَن وعى معناها، فتنخلع منها قلوب أعدائنا... وكانت الفتوحات والانتصارات: بدر... مكة... تبوك... الأندلس... عين جالوت...
أما الآن، ففتشوا عن الأمة التي حوّلت رمضان من محضن تربية لها مفاعيلُها على أرض الواقع إلى طقوسٍ وعادات أفرغته من معانيه وأهدافه.
فرمضان أصبح موائد محتشِدة وبطونٍ متخَمة ومسلسلات وسهرات وحفلات حتى الصباح ثم النوم عن صلاة الفجر... وأضحى التنافس فيه ليس على العبادة وإعادة تأهيل النفس وإعدادها حتى تنتصر في معركة الميدان كما انتصرت في معركة الإرادة وكسر الشهوات... وإنما على كثرة الولائم وازدحامها بأصناف الأطعمة والأشربة ليس بهدف إكرام فقيرٍ لم يعرف من تلك الأطعمة إلا اسمها وصورتها، بل تُقام للمتخمين أصلاً بهدف المباهاة والتسابق على حطام الدنيا!
والمصيبة التي انتُكبت بها الأمة تكمن في أنّ المال – الذي هو عصب الدعوة إلى الله – تحوّل من أيدي موسري المسلمين إلى قلوبهم، إلا مَن رحم الله، فتحكّم بها واستعبدها فصاروا للمال خدماً بدل أن تكون لهم أهداف سامية تخدمها أموالهم! ولم يسلم الفقراء من هذه الآفة؛ فقد تعلقت قلوبهم بمالٍ افتقدوه وصار بعضهم يدّعي حياة الترف ويحاول تقليد المترفين!
خيمة تَقُوم اللَّيل، تتبتَّل لِخَالقها، تأخذ من الزَّاد الإيماني ما تستطيع به أن تقاوم جند الباطل وأعداء الحق، جند يعلمون أنَّهم إذا تساوَوْا مع أعدائهم في المعاصي فاقهم عدوُّهم بالعُدَّة والعتاد، فكان ذلك سبب هزيمتهم، جند يتمثَّلون قول أمير المؤمنين عمر حينما أرسل تعليماته إلى سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في جبهة فارس، قال له: إنِّي آمُرُك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسًا من المعاصي منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوِّهم، جندٌ باعوا أرواحهم فداءً لدين الله، ولِتَمكين الإسلام في الأرض بعدَما كانت أمَّة الإسلام ترزح تحت نير الاستبداد والظُّلم، والقهر والاحتلال، جند علموا أن الأُمَم عندما تُسِفُّ وتَخْلد إلى الأرض تستجمع الخصائص التي تستحقُّ بِها الهزيمة كما هو حال الأُمَّة في هذا الزمان، وأنَّها عندما تصعد إلى أعلى، وتطير بأجنحة من الشَّوق إلى مستوًى من الكمال الرفيع، فإنَّها تستحقُّ الفوز والتمكين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((مَن لقي الله بغير أثَرٍ من جهاد، لَقِي الله وفيه ثُلْمة))، إذًا هؤلاء استحقُّوا فعلاً أن يُنصروا؛ لأنَّهم تحمَّلوا في ذات الله الكثير، واستنفدوا كلَّ أسباب الأرض، فجاء نصر الله لهم رغم عدد وعتاد عدوِّهم، يقول الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110]، فلن يأتي النصر إلاَّ بعد استنفاد أسباب الأرض من الاستعداد والتجهيز، والإرادة والإصرار على رَدِّ الحق المَسْلوب بالقُوَّة بعد ما أُخذ منهم بالقوَّة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60]، وهنا نلحظ أن النَّصر الذي ساقه الله للمسلمين في حطِّين كان فضلاً وعطيَّة من الله تعالى، ليس لعمل الناس فيها إلاَّ الدَّخل المحدود بإذنه، بالتجهيز والاستعداد، والأخذ بالأسباب، والأسباب لا تبلغ نتائجها إلاَّ بِقَدَر الله وفِي حمايته ورعايته.
قيل لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة الأحزاب: يا رسول الله، إنَّ قريشًا جاءت ومعها فلول العرب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((أوتَحزَّبوا؟)) قيل: نعم، قال: ((إذًا أبشِروا بِنَصر الله))، وكأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبيِّن لنا القانون الإلهيَّ أنَّه إذا تحزَّب أعداء الله ضدَّ دين الله والمسلمين، واتَّخَذ المسلمون من الأسباب ما يُواجهون به هذا التحزُّبَ أكرَمَهم الله بالنَّصر المبين، ودَحْر عدو الإسلام والمسلمين.
وهذا مِصْداق قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
فليتأمل المُترَفون قول الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحِجر: 3]، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم محذِّراً من فتنة الدنيا: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على مَن كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتُهلككم كما أهلكتهم" رواه مسلم. وأيضاً قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كفى سَرَفاً ألاّ تشتهي شيئاً إلا أكلتَه" أخرجه الحافظ ابن أبي الدنيا في جزء "إصلاح المال". وبهذا يصبح للمترفين رمضان غير الذي عهدناه: رمضان زيادة الاستهلاك... رمضان الخيام والمطاعم والفنادق... رمضان التجول في الأسواق في العشر الأواخر... رمضان النوم في النهار لقتل الوقت والسهر في الليل لتدخين النرجيلة ولَعِب الورق ومتابعة الفضائيات فضلاً عن حضور حفلات المجون التي تُقام إكراماً للشهر الفضيل!... رمضان الامتناع عن الطعام الحلال والإفطار على لحوم المسلمين...
فأيُّ فائدة تلك التي يجنيها المترفون من جوعهم وعطشهم؟ وأيّ خسارة أعظم من فشلهم في إطلاق أرواحهم من عقالها لتسمُوَ وترتقي في مدارج العبودية لله تعالى؟
وكيف يقبل مسلم أن تكون فيه صفة من صفات المترفين الذين ذمّهم الله في أكثر من موضِع من القرآن الكريم؟
قال تعالى: {وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]، {حَتَّى إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُون} [المؤمنون: 64]، {وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون} [الزخرف: 23].
ولقد تنبّه أعداؤنا إلى أنّ الترف والانغماس في الدنيا وملذاتها من أهم أسباب ضياع عزّ المسلمين وتقويض دولتهم، فخطّطوا لإغراقهم بالشهوات، وأوهموهم بأن الدنيا لا يطيب فيها عيش إلا بأسلوب حياة لم يعهده سلفنا الصالح على اختلاف مستوياتهم المادية والاجتماعية؛ ويؤكد ذلك ما ورد مثلاً في بروتوكولات "حكماء" صهيون - بل سفهائهم - (وهو الكتاب الذي وضع فيه الصهاينة خطتهم للسيطرة على العالم):
البروتوكول السادس (... فَنُعنى بنشر الوسائل المغرية بالترف وعبادة الأناقة بين الغوييم "غير اليهود"، ونشوّقهم إلى هذا الطَّوْر، ونزيِّن لهم ملذاته وأطايبه...).
البروتوكول الثالث عشر: (ولكي تبقى الجماهير في ضلال، لا تدري ما وراءها وما أمامها، ولا ما يُراد بها، فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج، والمسلِّيات والألعاب الفَكِهة، وضُروب أشكال الرياضة، واللهو، وما به الغذاء لملذاتها وشهواتها… والإكثار من القصور المزوَّقة والمباني المزركشة... فتتوجه أذهانها إلى هذه الأمور وتنصرف عما هيأناه، فنمضي به إلى حيث نريد، فَيَسْلم موقفنا، وهو الموقف الذي لو أعلناه بارزاً مكشوفاً، توّاً بغير اصطناع هذه الوسائل المُلهية، لوقعنا في التناقض أمام الجماهير. ثم إن الجماهير بحكم ما أَلِفته واعتادته من قلة التفكير داخل آفاقها النفسية، ولا قدرة لها على الاستنباط، تراها شرعت تقلِّدنا وتنسج على مِنْوالنا في التفكير؛ إذ نحن وحدنا مَن يقدم إليها المناحي الفكرية... وطبعاً لا يكون هذا إلا على يد أشخاصٍ لا شك في إخلاصهم).
فكيف يستقيم للمسلم - بعد هذا - تبني نمط العيش المفروض علينا وهو يعلم أنّ فيه حتفه وحتف أمته ومكانتها وما أُنيطت به من قيادة للعالم وتعبيده لله؟
* فيا أيها المسلمون:
إنّ رمضان بما يمثِّله يريد بكم غير هذا، وعليه يربّيكم ويدرِّب إراداتكم ويشدّ عزائمكم، واسألوا إن شئتم أهل الثغور وما تعلّموه من شهر الصيام وما جنَوْه من زادٍ أفادهم عند لقاء العدوّ: فالشهوات التي تطمس القلب والعقل تحكّموا بها واستعلوْا عليها، والإرادة التي تقدّم الإنسان أو تؤخره درّبوها على التحدي والإقدام، أما الدنيا فأنّى لها أن تَغُرّ أناساً يقفون على تخوم الآخرة يتهيّأون في كل لحظة لاستقبالها وهم يرَوْن جنّة ربهم رأيَ القلب قبل العين؟
إنّ الترف – وما ينطوي عليه من لُهاث مستمر وراء مُتَع الحياة - ينخر في جسد الأمة، ويُنشئ جيلاً خائر القوى ضعيف الفِكر قاسي القلب: الدنيا أكبر همّه وإقامة حكم الله في آخر سُلّم أولوياته (هذا إن كان ضمنها ابتداء!)... قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بـِـأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ما أحوجَنا اليوم إلى تلبية نداء الله تعالى في سورة الأنفال! قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 29].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[الأنفال: 45].
هذه هي مقوِّمات النَّصر وأسبابه، فما أحوجَنا إليها اليوم! فأين أُمَّة الإسلام من هذه النِّداءات حتى تستجمع مقوِّمات النصر على أعدائها، وتَخْرج من مرحلة الذُّلِّ والهوان والغُثاء، وتسحب رأسها من تحت أقدام أعداء الله، وتستفيق من ثُباتها حتَّى يعود للإسلام سيادته ومجده، فإنَّ الزمن الذي تتكوَّن فيه أمَّة إنَّما يرجع إلى مقدار الجهد الذي تبذله هذه الأمَّة؛ كي تنتقل من الظُّلمات إلى النور، ومن الهزيمة إلى النصر، وبمقدار ما ترسَّخ في قلبها من العقيدة والأخلاق والقِيَم الرَّفيعة التي هي شرايين الحياة في كيان جسم يريد أن ينطلق إلى آفاق النَّصر والسيادة.
والأمر يحتاج إلى جهد تربوي كبير لكي يستعيد هذا الجيل الروح الإسلامية التي لا تخلدْ بالمسلم إلى الأرض وإنما ترفعه نحو المعالي، وهذا برسم التربويين من آباء وأمهات ومدارس وجمعيات إسلامية ودعاة، ومن واجبهم أن يجتهدوا للقضاء على مظاهر الترف التي تدبّ في أوصال المجتمع الإسلامي تدريجياً حتى بين الدعاة والعاملين في الحركات الإسلامية... ولنستِفدْ جميعاً من جهد رمضان التربوي الذي حبا الله به هذه الأمة... حتى لا تكون بين جند المسلمين هزيمة.
د. صالح العطوان الحيالي