-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

عزف على الماء.. نبض السماء . نص : الأديب/ مصطفى الصالح

عزف على الماء.. نبض السماء . نص : الأديب/ مصطفى الصالح

نبض السماء

بحفاوة ملوكية يستقبلهم، وبسخاء حاتمي ينثر تراحيب مغمسة بابتسامات فاخرة، يُعيد ترتيب منضدته المرتبكة، ينفض عن الكرسي بقايا وشوشات ويلمعه ببهلوانية، يُجلس الزبون برفق ويضع المريول على جسده بعناية، يختار مقصا ويطقطقه بحرفية، يمسك بالمشط ويدور حوله كراقص وهو يبخ منعش الهواء في الجو: أنت محظوظ جدا؛ صيد ثمين... جامعية، مؤدبة... سأجعلك تنعم بحلاقة خاصة مبتكرة، دع الأمر لي، ألف مبروك يا عريس... يتحرك باستمرار ذات اليمين وذات الشمال، يقص الشعر مرة من هنا، وأخرى من هناك... ينظر إلى المرآة معدلا رأسه كأنه يطالبه بالنظر أيضا: عائلتها عريقة معروفة بالشهامة والنضال، وميسورة أيضا، اسألني أنا، وفوق هذا كله وافرة الجمال، ما شاء الله، لن يجدوا أفضل منك؛ فأنت زينة الشباب: (هات شاي يا ولد لمرافق العريس وقرايبه).. يلتفت إليهم بابتسامة عريضة لها رجع القهقهة: يا هلا بالشباب.

ينضحون الكلام من نبع لا ينضب، جودة ثرثرتهم تعتمد على جيب الزبون، ينال العريس أعلاها مرتبة.. يعرف العريس هذا فلا يلتفت إلى كثيرها أو قليلها.. يُعدل جلسته بينما ينظر إلى عينيه في المرآة: هل حقا سأتزوج هذه الليلة!.. آه كم تحبني تلك المعطاءة.. انتظرتْني سنتين حتى خرجتُ من الاعتقال الإداري، نار الانتظار لا تحرق الوقت بل تشعل جبال الشوق، رفضتْ فسخ الخطبة رغم كل الإغراءات، منذ الصغر كانت تترك كل شيء لتلعب معي على أرجوحة الكينا.. أذهلت الجميع بشجاعتها حين خاطرت معنا لقطف الزيتون وهي صبية!..

بين ثنايا هسيس ذكريات ناعمة راح يسبح في لوحة مرمرية الحواف مخملية الغيوم، أوراقها لا تعرف الخريف، ورودها تختال بجمالها وعطرها بين نسائم فجر مقيم..

يحاول تجاهل هواجس مستقبل تطل برأسها كلما حاور الآمال.. يهش عليها بعصا تفاؤل طالما كان غذاءه في محنته، إلى جانب وجنتيها التفاحيتين...

ينتفض الجميع على صوت مكبر صوت جذبه من أعماق أحلامه: اخرج إلينا ويداك خلف رأسك وإلا نسفناك..

ماذا! قال مضطربا.. من يخاطبون؟

يبدو أنه أحد المطلوبين لقوات جيش الدفاع.. رد الحلاق.. وقد وجدوه أخيرا بعدما قتل منهم الكثير.. سامحه الله أخبرته ألا..

من تقصد؟

رفيقك الذي فجر الحافلة..

آآآآه.. لقد وعدني أن يحضر عرسي، وها هو محاصر بجنود الاحتلال.. كان يهمس لنفسه وهو يقترب من المكان..

- هذا مناضل كبير يجب أن نخرجه من هنا.. قال مخاطبا مُرافِقَهُ.. كيف عرفوا بوجوده!!

- كيف نخرجه وقد طَوَّقوا الحي؟!.. إن لم يخرج سينسفونه بالمبنى..

- في كلتا الحالتين سيقتلونه... يا إلهي!.. انظر لأعدادهم وآلياتهم.. حتى الطيور ابتعدت لا تجرؤ..

- هناك فرصة ضئيلة؛ إن استفزينا ذلك المتمسمر خلف مدفع العربة المدرعة

- نعم رأيته.. أقل من نصف جسمه العلوي يظهر.. لكن لا بأس.. هل معك (مقلاع)؟

- نعم معي، وهل أَتْرُكُ سلاحي؟ لكن ماذا ستفعل؟

- كما أفعل دائما..

- أنت عريس.. لا نريد مشاكل قبل الفرح، إن اعتقلوك فلن تخرج لسنين..

- لا تهتم، لن يصلوا إلي.. حاول أن تعرف كيف علموا بوجوده هنا.. كأنهم كانوا ينتظرونه! المباني المجاورة كلها خالية!!.. احموا ظهري عند الحاجة..

السماء اقتربت.. همس لنفسه وهو يجهز المقلاع.. لماذا هي بيضاء وليست زرقاء كالعادة، أين اختفت المباني، هل هرب الجنود، أين ذهبوا؟.. لم يبق إلا ذلك الصهيوني على تلك المدرعة..

تناول برشاقة شهابا من سجيل، وضعه بحنان في مقلاعه، لَوَّح به حتى تأوهت الريح.. نظر إليه الجندي، ضحك باستصغار.. خلع خوذته ليمسح عرق جبينه بذراعه، وقبل أن يعيدها كان الدم يتفجر من رأسه في كل اتجاه..

وغص حلق السماء بأرتال تكبيرات الحجارة.. تبتلع حقد البنادق..

كان الرصاص يعزف أنشودة الزفاف الأخير، وكانت زغاريد الزفاف تمسح الدماء عن وجه العريس، عن شعره، عن فرحة جاثية تنظر للمكان الذي وجد فيه بعد يومين جسد.. كان قد ذُبح بشفرة، وقُصَّ لسانه بمقص غُرسَ في حلقه..

ذات المقص الذي سرح به شعر غصن يردد مع الطير وشجر الزيتون أسماء من رحلوا إلى مكان ما في ذاكرة الأقصى..

عن محرر المقال

Unknown

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية