بعض طفولتي الأولى
( مقطع قصير من سيرة طويلة )
للأديب أحمد أبو حليوة
عام ونصف فقط هو عمري آنذك صيف عام 1975 عندما أخذتني جدتي إنزيلة العظيمة من أمي بعد انفصالها عن أبي وزواجها من رجل آخر، وفي ذاك البيت البسيط الذي يقع على سفح جبل من جبال الأميرة رحمة، عشنا وحدنا أنا وتلك العجوز السبعينية التي تنحدر من أصول بدوية، إذ يقال إنها ابنة الشيخ علي بن مطلق المسامرة من عشيرة الرماضين الكبيرة، وقد تزوجت من جدي محمد أبو جدوع الحليوات الذي يتبع إلى عشيرة الجبارات المعروفة في جنوب فلسطين، والتي استوطنت شمال بئر السبع، وامتدت أراضيها بين المنطقة الواقعة بين الخليل وغزة.
تفتحت عيناي على وجه جدتي، على ما فيه من وشم بدوي وتجاعيد العمر وعلى حضن مفعم بالدفء والحنين، ووجع سعير الشتات منذ النكبة وخروجها مع جدي وابنهما الوحيد عبدالله وبناتهما الثلاث من منطقة السكرية عام 1948 إثر الاحتلال الصهيوني لفلسطين العامرة قبل ذاك التاريخ بأهلها الطيبين منذ سكنها جدهم الأول كنعان القديم، لتشهد تلك العجوز بعد ذلك النكسة عام 1967 وتخرج من جديد من مخيم العروب في الخليل لاجئة إلى الزرقاء في الأردن.
غرفتان وحمام بسيط تعلوه قطعة من الصفيح وحوش صغير وشجرة توت وجدار (سنسلة) من الحجارة لا يتجاوز ارتفاعها المتر تحيط البيت، الذي تعيش فيه عجوز طاعنة في التاريخ الذي نسيها بعد وفاة زوجها وزواج بناتها الثلاث، والتحاق ابنها الوحيد عبدالله (أبو أحمد بلال) بصفوف المقاومة الفلسطينية المتمركزة في لبنان، التي كانت الحرب الأهلية قد استعرت فيها آنذاك، لتبقى وحيدة مع ابن ابنها الطفل أحمد الذي عنى لها كل شيء طوال سنوات خمس، أصيب خلالها بحادث الحرق عام 1978 الذي غير معالم وجهه، ومن ثم معالم حياته، على إثر تردي صحة جدته الكبيرة بعد حزنها العميق والأسى الذي ألم بأعماقها جراء تلك الحادثة التي وضعهتهما على مفترق طرق وفراق عام 1980 قبل وفاتها.
سنوات خمس عشناها معاً في تلك الغرفة التي تحتوي على خزانة (نملية) وسرير (تخت) حديدي وزير ماء وبابور كاز ووعاء معدني واسع (لجن) للاستحمام وغير ذلك من مفردات وأدوات بسيطة تكفينا للعيش بزهد ونزاهة وسعادة في ذات الوقت، في منزل علقت على إحدى جدرانه حبال البامية الناشفة، وخبئت في إحدى خزائنه الملوخية الناشفة وحتما العدس بشقيه الحب والمجروش، وهنا أو هناك وضع (سدر) أو (صينية) وقد قطعت عليه أو فيها حبات البندورة المملحة والمنشفة تحت أشعة الشمس الوادعة.
نستيقظ صباحاً، نفطر زيتاً وزعتراً وربما زيتوناً أو زبدة بلدية، وأشرب كأس (لبن مخيض) تكون قد خضته جيداً (بالسعن)، ونذهب لنرعى أغنامنا على الجبل، أجلس تارة في حضنها وتارة أخرى جانبها، تريني الحياة والطبيعة وتمسك بعشبة (رجل الحمامة) لتحدّثني قليلاً عنها وعن فوائدها، قبل أن تشتد أشعة الشمس، ونعود قافلين إلى البيت، فأجد قطتي، أحلب إحدى أغنامنا، وأقطع (أفت) الخبز وأخلطه مع الحليب، وأتناول أنا وقطتي الطعام من إناء واحد (صينية)، وقد وضع كلّ منا رأسه برأس اﻵخر، وبعد الظهيرة نتناول طعام الغداء الذي قد يكون (مجدرة) أو (مشلوطة) والعشاء قد يكون قلاية بندورة أو بيض قد يرافقهما صحن لبن أو رأس بصل في بعض الأحيان.
عند العصر كانت تتقاطر إلى البيت نساء الحي فتأتينا العمة حليمه أو العمة صفيه، وقد تأتي جدتي الشبيبيه، فأمد يدي إلى صدر ثوبها (عبها) الذي يشبه صندوق العجائب، وأخرج منه حبة موز أو تفاحة أو برتقالة أو أي شيء آخر يصلح للأكل والفرح.
تصنع جدتي القهوة العربية باحتراف فتفوح رائحتها في الحي، يتذوقها كبار الرجال آنذاك مثل الجد سليمان و الجد سلامه الدوامسه ويثنون عليها، وفي المساء يأتي أحيانا أصدقاء أبي القدامى في الحارة ليسهروا عندنا، فأرى العم محمد أبو صالح العشيبات والعم يعقوب أبو حسين الشبايبه وجارنا العم أبو قاسم الدوامسه وغيرهم.
وأما أنا فمعظم وقتي أقضيه لعباً في الشارع برفقة صديق طفولتي الأول زياد أبو دامس، وكانت لعبتنا المفضلة إطارات السيارات (العجال) نحضرها من الوادي، وكم كنت أسعد بأقربائي وجيراننا اليتامى الذين يكبروني بسنوات قليلة إسماعيل وإسحق وكمال وتربطني بهم علاقة وطيدة وجميلة وعتيقة وعريقةح حتى الآن، والأخير كان أكبرهم عمرا وأكثرهم تعلقا بي، يحملني على كتفه ويحسن معاملتي بشكل كبير.
في تلك المرحلة كنت أنظر إلى جدتي بفرح عميق، فهي أمي وأبي وأخي وأختي وصديقي وصديقتي، وكذلك هي حبيبتي وملهمتي الأولى فيما بعد على الكتابة، تجلس بثوبها الأسود الفلسطيني، تشعل سيجارتها (الهيشي) بقداحتها التي تملأها بالكاز من حين لآخر، وتشعل المصباح (السراج) عندما تنعس عيون اليوم بعيد ذبول الغروب، فتضمني إلى صدرها، وقد تعدني أن نذهب في اليوم التالي إلى عمتي خضره في حي جناعة غير البعيد عنّا لنعبر سيل الزرقاء الجاري على مدار العام آنذاك، حيث كنت أرى الماء المتدفق النقي، وألعب مع ابنة عمتي التي تصغرني بعام وتدعى أمل.. أمل التي غدت أولى الصديقات القريبات المقربات على هذه الأرض ورفيقة الذكريات لي، ولم أعرف أن حياتي ستعج فيما بعد بالصديقات العاديات والمميزات، وبعد ذلك تبدأ جدتي بقص الحكايات على مسمعي كي أنام وأكبر.
وها أنا كبرت يا جدتي الحبيبة، أكثر بكثير مما أردت، وتوقع أكثر المتفائلين من سكان الحي لي، بل والأقرباء وكلّ من عرفني آنذاك.
كنتُ يا حبيبتي وغرفتنا التي عشنا فيها كوناً وكل شيء بالنسبة لي، والآن كبرت، لكنني صغير دونك ولا أحتاج لأكثر من صدرك كي ألقي بنفسي وهمي عليه، وأبكي وأبكي، وأنسى أبجدية اللغة وأفقد حرفة القص، ولا أذكر ما مر بي من بعدك يا أغلى الناس على قلبي.. جدتي.