إنَّهم يزايدون بدماء أطفالنا في بورصة مصالحهم!
كتبت : الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
لم تُسهِم حركاتُ التَّحرُّر، في شتى بقاع الأرض، في زيادة الجماهير المُؤيِّدة لها إلاَّ لعدَّة أسبابٍ منها: حضور الثقة بين الشعوب وأصحاب القضيَّة العادلة التي تؤدِّي إلى مقاومة المُحتلِّ والتمرُّد على الظُّلم بكل أشكاله.
إنَّ وجودَ الغرباءِ، سواءٌ كانوا مُحتلِّين أو مُستوطنين، يضعُ أبناءَ الأرض في حالةٍ من القهر الدائم، والتَّصميم على دحْر الغرباء، والعزم الشَّديد للأبناء على تقرير مصيرهم بأيديهم. فالظُّلْم والقهر لا يولِّدان إلاَّ التمرُّد، والتَّشبُّث باسترداد الحقِّ مهما كان ثمنُ التضحيات باهظًا، فلا يأْلف الإنسانُ الحُرُّ جلاَّدَه، ولا يتعايش معه مهما طال الزَّمن، مع حتميَّةِ الإيمان بأنَّ المُحتلَّ لن يبْسط لابن الأرض السُّجادَ الأحمرَ لينعم بخيرات أرضه ووطنه، بل هو أتى غاصِبًا ليُهيْمِن على الخيْرات، ويعَيث في البلاد خرابًا، وينشُرَ الدَّمارَ الماديَّ والمعنَوِيَّ.. لا خلاص من هذا الكائن الشَّيطاني إلاَّ باجتثاثه من أرض الوطن..
من هنا تبدأ الخطوةُ الأساسيةُ للتَّحرير، ومن هنا ينطلقُ الخطوطُ الأولى للدفاع عن الوطن واستعادة الحق.. وبطبيعة البشر وسُنَّة الحياة، تُبنى المجتمعات على الاختلاف والآراء المُتنوِّعة وهذا يعود وفقًا إلى عدَّة معايير.. منها البيئةُ الحاضنة لأفراد المجتمع، وتوجُّهاتهم إنْ كانت دينيَّة (عقائدية)، قوميَّة، يمِينِيَّة أو يسارية، بالإضافة إلى طريقة النَّشأة التي يُبلوِر الأهلُ منها النَّصيبَ الأكبرَ، فالتَّأثير على الأولاد، لا سيما أولئك الذين أبْصروا النُّور بعيدًا عن أرضهم الأُمّ، يكون شديدًا من خلال المُجتمعات التي امتزجوا بها واكتسبوا منها وفيها أفكارًا ومعتقدات وتُرَّهات أحيانًا، غيره أنَّه مع الوقت "تتغربلُ"، فمنها ما يذهب في مهبِّ الريح، ومنها ما يصبح دستورًا يُقْضى به.. يبدأ تشكيلُ التَّنظيمات المختلفة والتوجُّهات الكثيرة التي يجمعُها الإيمانُ بالوطن وكيفيَّة تحريرِه، ولربَّما يختلفون هنا أو هناك في التَّفاصيل ومدى الرؤية الاستشرافيَّة، لكن الأكيدَ أنَّ "زوال المُحتلَّ" هو الهدفُ الذي يُوحِّدهم ويجمع قلوبهم على نبضٍ واحدٍ.
هذا في الحالات الطبيعيَّة، وفي الأمور التي يمكن أنْ تجتمعَ في مِشكاةِ التحرُّر والتَّحرير والنُّهوض بالوطن، والتمرُّد على الغرباء المستوطنين ومحاربتهم بشتَّى أنواع السلاح.. وتبقى الاختلافات الإيديولوجيَّة مُباحةً في سبيل تحرير الوطن والدفاع عنه، ولا فيتو أو نقْضٍ عليها، حتى وإن اجتمعتْ الأرضُ بكل مَنْ فيها على إنْكار سبُلُ التَّحرر، أو مقاومة هذه التَّنظيمات ورفض وجودها.
لا صفقاتٌ تُعقَد.. إلا صفقات الوطن والشعب، الوطن الذي لا يمكن له أنْ يزهر دون أبنائِه، ولا يمكنه التوغل في المُستقبل والاستمرارية في الوجود دون علاقة الثِّقة والودِّ بين الإنسان الأصيل وأرضه، بين المواطن ووطنه، أو بين المُهجَّر ووطنه، حتى وإنْ كان مُلتحِفًا ضبابَ ألمه، أو مُقِيمًا يشاهد ظلمَ المُحتلِّ وطغيانه على الأرض والإنسان والحياة في وطنه..
لا تكتملُ سعادةُ الإنسان المسلوب من سماء وطنه وعبَق ترابه إلاَّ باستعادة حقِّ هذا الوطن الذي سُلِب أمام مرأى العالم المُتهالك الذي غدا لا يميِّز بين احتلال الأرض واستيطان الأعماق النَّفسيَّة.. وفي الحالتين، فقد أخذ الإنسان نصِيبَه من الآلام والأوجاع التي صنَّعها المُحتلُّ ويتفنَّنُ كل يومٍ في توزيعها على أبناء الأرض المُقيمين أو المُهَجَّرين كأنَّما هي خبزٌ يوميٌّ، وإنْ شُبِّه لنا غير ذلك.
نحن الفلسطينيون أخذْنا حصَّة الأسد من الوجَع والتشرُّد والمآسي أكثر من أيَّ شعبٍ في هذا العالم، وقدُرنا أن نحيا بالنِّضال وللنِّضال في طريق النَّصر أو الشهادة، بل نحن شهداءٌ سواءٌ كنَّا تحت الأرض أو فوقها.. لا أحلام عظيمة لنا، لا آمال بعيْشٍ رَغيدٍ في كنَف المُحتَلِّ، حتى أنَّ ممارستنا للحياة اليومية لا تخلو من الضحك والتحسُّر في آنٍ واحدٍ.. نزفُّ الشهداءَ بالزَّغاريد كأننا نزُفُّ عروسًا، ونعلِّم أولادَنا بأنَّ فلسطين العربيَّة حقُّ أكيدٌ وحتميٌّ وإنْ تنكَّر لنا كلُّ العالم، والتخلِّي عنها خيانةٌ عُظمى لا تغفرها حجارةُ القدس وزيتونُ وتُفَّاحُ أرضِنا الخصيبة وذاكرة أسلافنا وبريق المُستقبل الذي يُشعُّ من عيون أطفالنا الذي هم مُستقبلنا..
إنَّ توحيدَ الكلمة والموقف هو الطَّريق الصَّحيح والأوحَدُ لنصرة فلسطين ونصْرها، لكن السؤال الأبرز الذي يُباغتني دومًا: هل جميعُ التَّوجهات تُؤخَذ على محْمل الوطن والمسؤولية الحقيقيَّة اتجاهه؟
هل هناك حلٌّ يُنصفُنا من المُحتَلِّ الغاصب، نحن الذين يُعاشرنا الظُّلمُ والقهرُ كلَّ يومٍ، تمامًا كما يُعاشرُنا الشُّعور بخذلان أشقَّائنا لنا ومزايدتهم بدمائنا في بورصة المصالح العالميَّة؟ ومع ذلك سنبقى توأمَ الأمل ولن نتنازل عن إيماننا وأحلامنا ورؤيتنا للشَّمس وهي تُشرق في سماء فلسطين العربيَّة وقد تطهَّرت من دَنَس الغرباء.