قصة قصيرة.
( لا نهاية للطريق)
كانت صبيحة ماطرة، وشتاء قارس البرد، جفاف الوجه(مشگ)و ظاهرِ الكف تعلن ذلك، ومنذ الرابعة صباحا بدت السماء غاضبة، ربما فَرِحة، لست أعرف، غيوم داكنة، البرق بأغصانه المضاءة يشقّ ثياب الغيم، كانت قد مطرت قبل ذلك ليوم كامل، لم يأخذ الطين فرصة أن يرى الشمس، أو فرحة أن يجف بعض الشئ..، يا الله!! كيف يُفْرِحُ الجفافُ الأرض؟! المعادلة مغلوطة ومتطرفة! الوحل يملأ (الدرابين) الأزقة، بُرك الماء تنتشر كما الغيوم أحيانا، عفوية الشكل و المعنى، الطين يعّبدُ الدرابين الترابية بشبرين عمقا، عالوجة(زهاميل) الطين تلتصق بعضها بحذاء المرء حينما يرفع قدمه فيما يكون بعضها مازال مشتبكا ما بين القدم والأرض، عند السابعة كان قد تحول المطر إلى دثيث، قبل الثامنة بنصف قطع الصبي زقاقيين بكامل طينهما، مرتين كاد أن يتزحلق وبالمرتين تنقذه جدران البيوت الرطبة، ينتعل حذاءً بلاستيكياً، في الفردة اليمنى كان قد أغلق حمدان الأسكافي فوهّةً في مقدمتها ،لكن الفردة اليسرى كانت رقعة حمدان تسمح بمرور البلل خلال شقٍّ في مؤخرة الحذاء، جوربان أبيضان، أحدهما يسمح للأبهام الخروج ليصطدم بالسطح الداخلي لمقدمة الحذاء، بينما الآخر يغطي القدم الصغيرة بأكملها ،إلاّ منطقة الكعب، قطعَ الدربونة الثالثة بتؤدة وحذر ،وهو ينقل قدميه، مخافة أن ينشطح في تلك اللحظات المُطّينة،زقاق آخر أمامه كي يكتمل المشوار المبلل، رزمة من الكتب يضّمها إلى صدره، أشبه بأمّ تحمل طفلها، حرّر نصف الزقاق، في لحظة أراد رفع قدمه اليسرى كي تلتحق بيمناه، أحّس بصعوبة فصلها عن الطين بعد أن ركستْ كاملة، أدار رأسه صوب الحذاء العنيد، علّهُ يجد حلاً، رفعها بقدمهِ بقوةٍ لفضّ ذلك العناق.. "تَنْسلِتْ" قدمهُ بجوربها ذات الأبهام المتعري؛ تاركة تلك الفردة راكسة في طينها، أستند على شباك بثلاثة نوافذ لأحد البيوت ؛علّهُ يعيد قدمه المنسلتة لغمدها, أو يعيد الحذاء العاصي الى قدمه،كاد يفقد توازنه فيما كانت قدمه اليسرى منحنية بزاوية قائمة، استغاث بأحد ضلعي الشباك، راجعا إلى الخلف قليلا، وما أن التحقت القدم بحذائها.. حتى....!
كتبهُ في قبضة يده اليسرى ملتصقة بحرارة قلبه ، وبرودة ثيابه، قطرات الدثيث مازالت تغمر خصلات شعره غير الممشطة ،فيما كانت "جداحات" البرق تشتعل أحيانا في السماء الداكنة، يده تمسك بالشباك الذي تحدث أمامه وقائع هذه المعركة.
إلى الخلف قدم تحاول اللحاق بالرَكْب. من الأعلى الدثيث يغرق الملامح.
من الأسفل ما أن ألتحقت القدم العاصية بحذائها لترفعها من الوحل؛ حتى..! تزحلقت اليمنى إلى الأمام، انفرجت ساقا الصبي؛ ليهبط وبقوة على الطين، الساعة الثامنة صباحا ،جلس صبينا ببنطلونه على الوحل، إلى الأن لم يستعن بالبكاء، كان جَلَدِا بعض الشيء وقد تجاوز العاشرة من عمره، ثمة تلاميذ آخرين يبزغون من الأزقة التي تحيط المدرسة، لكن ذلك الزقاق كان عرسهُ ونصيبهُ لوحده، الغريب لم تَفلُتْ رزمة الكتب من يده، ضربت مفاصل كفهِ زجاج الشباك وهو يحاول النهوض بصعوبة، ينهض ملطخ البنطال بالوحل ،وقد ركس جوربه الأقرع في الطين؛ ضاغطا بأبهامه و باطن قدمه ليرفع ثقله كله.. نجح صبينا في ذلك،لكنما قدم بحذاء وقدم بجورب فقط، عقْدُ الكتب لم يُفْلَتْ بعد، تُفْتَحُ نافذة الشباك بعد قرقعة المفاصل،ثمة برق يمرُّ بالسماء.. ثمة وجه بعينين غاضبتين، محمرتين ،وشارب غليض، وفالينة بيضاء أم التعلاكة، (يعني حبكت إلاّ الصبح). برقُ السماء مع صفعة من الكف الغليظة، كانت هامة الصبي هي من تلقت ذلك، لم يكن متيقناً تماما مالذي أسقطه مرة أخرى، إلاّ بعد أن وجد وجه متلطخا بالطين لتقْلَبهُ هول الصدمة على قفاه، هنا عرف أن السماء لا ذنب لها وهو يلتقط صوتا أنثويا خلف النوافذ المنيعة:
_" لا يا موحان أنه طفل.. لم يتلصص علينا".
لكن موحان لم يكن أقلّ غضباً من البرق مع هامة الصبي.
أفلتتْ أصابعه ثروته، وأنحلّ عقْدُ الرزمة؛ مبتعدة عن القلب, التاريخ يغرق في بركة وحل، الجغرافية تشبعت كل حدودها بالطين، اللغة العربية سقطت خلف ظهرة؛ لتندّس في لغة الطين ,وأفترقت العصبةكلها، للطين لغة لا تُتْرَجمُ بسهولة، للتربةلغات وحقوق نجهل ما نجهل ، ونعرف ما نعرف.
الصفّ بنصفِ سكانه ،هم أيضا مرّوا تحت الدثيث، يقف المعلم في منتصفه، تحت القنديل الخافت الضوء، ينظر إلى الشبح الطيني الواقف في الباب، التلامذة يرفعون رؤسهم من أوراقهم نحوه ، قدم بحذاء وقدم بلا حذاء ،بجورب مُطّين، يتنفس الأبهام منه، البنطلون لم يعد بنطلونا، والجاكيت السمل خليط من خليط، لكن لم تتميز ان كانت دموعا على خديه أم إنها قطرات المطر.
_كيف كان أمتحانك هذا الصباح أيها الولد السبع.
سألهُ المعلم.
_ أستاذ.. ههه لقد نجحت، لكني تركت حذائي والتاريخ في الوحل، الوحل المقابل لبيت ( الرفيق) موحان.
التلاميذ.. هههه..
وإلى الآن ما زالو يضحكون.
* عالوجة/ من العلِكة
حميد محمد الهاشم/العراق

