ظِلٌّ من الماضي
ليلى المرّاني...
حين وضع فنجان القهوة أمامي، ارتعشتْ يده؛ فانسكب شيء منها على مكتبي، سارع في مسحه وهو يعتذر متلعثمًا، رفعتُ رأسي إليه، رأيتُه ينظر إلى (اليافطة) التي كُتِب عليها- المدير العام- واسمي، ثمّ إلى وجهي، ذُهلتُ، فقد عرفتُه، وأظنّ أنَّه عرفني أيضًا، هو ب(الوحمة) المُرتسمة على خدّه، التي كنّا نتفنّن في تشبيهها ونحن تلاميذ في الصف الخامس الابتدائي، حتى توصّلنا أخيرًا إلى أنها تُشبه (العرموطة)، الكُمّثرى؛ فأصبحنا نُطلق عليه (أبو عرموطة)، وهو عرفني من أنفي الطويل الذي يكاد يسقط في فمي، ومن اسمي المُميّز الذي كان يُسبب سخرية التلاميذ؛ فأعود إلى البيت ساخطًا أسأل أمي:
- لماذا أطلقتم عليّ هذا الاسم؟
- أبوك اختاره لك لأنه اسم جدّك.
فألعن جدّي في سرّي.
نظرتُ إليه بإمعان؛ هات لي فنجان قهوة آخر، وأغلِق الباب خلفك، يا...
- سيّدي... اسمي ياسر.
لم أكن بحاجة لأن يذكر لي اسمه؛ فقد عرفته، فتحتُ النافذة خلفي، أشعلتُ سيگارةً واسترخيت على كرسيّ الوثير. حلّق بي جناحا ذاكرتي وأنا أنظر إلى حلقات الدخان التي أنفثها بتلذّذ، كثيفة وكبيرة، ثم تصغر وتصغر إلى أن تتلاشى. كنّا معًا في صفّ واحد طوال المرحلة الابتدائية، والدي شرطيّ بالكاد يلقم سبعة أفواه جائعة، أذهب إلى المدرسة ببنطالٍ قديمٍ مُمزّق يثير سخرية الآخرين، لكن ما يشفع لي ويجعلهم يكتمون ضحكاتهم هو تفوّقي عليهم جميعًا في الدراسة، والمقالب الكثيرة التي أعملها، وتعاطف المعلّم معي، ياسر كان متخلّفًا في دراسته، لا يحضر معظم الدروس إذ يقف في الحانوت المدرسي الذي كان والده الغني متعهّدا له. لم نره يومًا دون أن يكون فمه يلوك (سندويتشا) أو قطعة حلوى؛ فتئنّ معدنا الفارغة.
دخل المعلم يومًا إلى الصف وخلفه ياسر:
- مَن منكم أضاع درهمًا؟
وللدرهم في ذلك الوقت قيمة وقامة لم يحلم به واحد منّا، سرعان ما رفعتُ يدي وصحت بأعلى صوتي: أنا... أنا أستاذ.
التفتت الرؤوس جميعها نحوي غير مُصدّقة، ذُهل ياسر وصاح وهو يكاد يبكي: بل أنا... أنا، أستاذ، أضعت درهمي، مصروفي اليومي.
نظر المعلم إلى كلينا باستغراب: مَن يجيب على سؤالي فهو صاحب الدرهم. -ماذا يوجد على أحد الوجهين للدرهم؟
سرعان ما صحتُ: نخلة أستاذي... توجد نخلة.
نظر المعلم إليّ مُندهشًا وضحكة ساخرة تتراقص على فمه: صحيح، تعال خذ الدرهم.
أُسقِط بيد ياسر، وزاد حقده عليّ، لم تكن هناك أيّة نخلة على وجه الدرهم، لكن معلّمي كان معروفًا بتعاطفه مع التلاميذ الفقراء، وازدرائه لتشدّق ياسر ومفاخرته بوالده الثري وعدم التزامه بالدوام. لم أنسَ تلك الحادثة طوال حياتي، خاصةً بعد أن خرجنا من الصف وأوقفَني المعلّم بعد أن ابتعد التلاميذ، شدّ على أذني بكلّ قوّته، فتساقطت دموعي:
- لا تفعلها ثانيةً، وإلاّ قطعت أذنك.
أُحِبّ معلّمي، يحكي لنا حكايات كثيرة لا نفهم معظمها عن الذين يمتصّون دماء شعوبهم؛ فنرتجف خوفًا من أولئك مصّاصي الدماء، ونحلم بهم ليلًا، يحكي عن الاستعمار، فنتساءل ما هو الاستعمار؛ فيستفيض في الشرح، ونرى مدير المدرسة يتلصّص من النافذة، يسكت المعلّم ويصيبنا الذعر، حتى كان يوم لن أنساه ما حييت، داهمت الشرطة مدرستنا واقتادوا معلّمنا الذي نحبّه، رأيتُ والدي أحد اولئك الذين اقتادوه، هجمت عليه وأنا أبكي؛ فسدّد لي ضربةً قوّيةً على رأسي ألقتني أرضًا وعيناه تقدحان شررًا، ولم نرَ معلّمنا ثانيةً.
يااااه، كم تمرّ الأيام والسنون بسرعة مذهلة، وها هي تعود الآن تحمل معها زميل دراستي الذي كان يكرهني. طلبتُ استبداله بعاملٍ آخر كي لا تتكرّر تلك الذكريات، لي معه ذكريات كثيرة مؤلمة.
في اليوم الثاني سمعتُ نقرًا خفيفًا على الباب، حين دخل بادرني والدموع تكاد تطفر من عينيه: لماذا يا أستاذ (چلّوب)؟ لماذا أمرت بطردي؟ خمسة أبناء وأمّهم في رقبتي، كيف أُعيلهم؟
أحسست بأنه ينطق اسمي بتلك النبرة الساخرة حين كنّا في الابتدائية؛ فيضحك الآخرون، خرجت كلماتي من بين أسناني تكاد تنغرس في وجهه
- لم آمر بطردك، يا ياسر، لكن بنقلك إلى غرفة الموظفين، أريح لي ولك.
خرج وهو يتمتم، وأنا متأكد من أنه كان يشتمني.
