إبليس
...كم كنت حائراً ومندهشاً ،ولا أدري إن أريد أن أمشي أو أركض ، أو أهرب مني ، أو حتى أن أعرفني..
إذ صارالوقت مع بطئه كمطرقة ، أحس بدويها داخل رأسي فأنتفض....
"وسعاد" تتفحص كل شيء من مجلسها بغرفة العزاء أمامي. ويدور بوجهها ألف سؤال..
وددت لوأهمل احساسي بها و بالأجراس الصغيرة التي أتخيلها في فضاء المكان ، مع تخيلي إنها ستبوح ولو فيما يشبه الصمت عن سر قاتم سرقه الليل، ودفنه على طول الطريق...
ظللت حائراً وممتقعاً وضعيفاً،ومطرقة الوقت تطحن على تمهل وعيّ ، وأنا بتلك الزاوية، كمثل أرنب صغير أفتش ذاكرتي بصمت خائف ، وأحرص أن لا يسقط منها نتفا على المرايا المعتمة في داخلي، وتعتقل البقية من روحي ووجداني ...
ازدت انتباها ووالدي مسجّى أمامي يحدق في عتمته ، وقد لفّه البياض، ومن حوله تنوح النائحات ، وتتساقط من أفواههن محاسنه،إلا "سعاد" ، تلك الصبية في الزاوية التي ظلت تقرأ بتمعن وجهه ، تبحث بين طيات التجاعيد عن شيء ضائع منه ،وشما صغيرا أوذاكرة هاربة...
لم تتوقف ، ورائحة العطر والبخور تتسحبان بفراغ الغرفة التي خنقها الضغط ،ورائحة التعرق وثقل المنجاة...
:من سيتفقد القرية ويعتني بها من بعدك ؟! ومن سيكون بمثل استقامتك وكرمك ؟!
ويصعد العويل المر والآهات ويزداد النداء...
و"سعاد" تعض على شفتها السفلى بما يشبه التشفي
وتكذيب النسوة الرادحات..
لم يغادر وجهها وجهه...
ما زالت تقرأه ، وكأنما التقت ذاكرتها بذاكرته على شكل ما ...
وراحت تتنفس على صمتها لونا للعتاب... إذ أحسست لوهلة أنها تخاطبه- من يمت لا يموت إلا وحده..
كنت أعرف كيف يتأرجح قلبها وتثور فيه حكايتها..
ولا أدري وقتها كيف رأيتني استحضر مسرعا شريطا من ذاكرتي خلال طقس الغرفة المشحون بما يشبه الفزع....
وأطلت "سعاد" من بدايه الشريط تتثني بغنج نسائي في مساء ذاك اليوم على النافذة ، ويموء على صدرها قط بلون الثلج ، عرفت أنه قطنا المسروق ..
لم تفارق نظراتها المتلهفة مدخل ذاك الزقاق...
لأحس بأن لها موعد عشق ، وكدت أشم باللاوعي رائحة عطر ثقيل،
وعيناي تأخذهما براءة النظر إلى عنقها المعجون من ورق الورد وقطر الندى...
أخرسني الفضول لأجلس
مستنداً وأراقب عن كثب من وراء جدار...
إلى أن ظهر الذي تنتظر.. ما شككت للحظة بأنه والدي ، إلا حينما نظرإليها خلسة ، بهيبته الملفتة وطوله الفارع... وأرسل لها قبلة صامتة في الهواء...
دهشت للحظتها وكأنما سقط بداخلي شيئاً ثقيلاً ..وارتجفت حتى أطول شعرة
إذا فوالدي هو الوقور العاشق ؟! والأمين القوي ..
واخذت تلوكني الأفكار... كثيرة كانت ومتناقضة، وتدفعني لمقدمة للغثيان...
ولأستحضر معها وجه أمي الداعي له بطول العمر ، وبالمزيد من النقاء والإيمان.
عاد والدي للتلفت ، مسد بلطف شاربه وتفقد هندامه ثم دلف مبتسماًحذراً لبوابة بيتها ....
وعاد ذلك الشيء ليسقط داخلي من جديد ويمحو هيبة والدي من سطح احساسي...
اذا فهذا هو مختار البلد ؟! والقائم على النهي عن المنكر ...
تهت عن طريق البيت، وأغلقت أذني لدى سماع صوت المؤذن..
ولم أذهب للصلاة وصادقت لتوها إبليس الذي توخيت منه إدخالي لبيت "سعاد" ، ولسرير العاشقين لأرى كيف يذوب الإيمان، ويتقلب بالاشتهاء على فراش المحبين...
فابليس لا شيء لديه في المستحيل ،
وسوس لي..
فرحت أشاهد يوميا لهفة العاشقين مع كل غروب...
يدخل العاشق وأنسل لبيتي مثل قنفذ تاهت عنه أوكاره... وأغفوا قبل آذان الفجر، متيقنا بأن سلوك المؤذن لن يكون بأفضل من سلوك أبي...
عشرات المرات يدفعني إبليس لأن أدخل بيت سعاد ، وهي في الانتظار
على زاويه النافذة من وراء ستار... أخاف وأرفض،
إلى أن دفعني أخيرا ففعلتها واختفيت بركن معتم وانتظرت...
كنت كمثل سنبله ترتجف.. وصوتا للخوف يعوي داخلي...ويتابعني ندم ما مع تحسبي لوالدي إذا ما قبض بعنفه عنقي.... حدثت نفسي- كن قوياً ياصابر....
ولم اقتنع....
إلا أن انفتح الباب بعد قليل وانسرب منه صوت العاشق...ازددت خوفا وارتجفت....
سمعت صوت ترحاب وغنج انثوي أذاب قليلا خوفي..
وانغلقت غرفة العاشقين بهدوء على صوت الطفلة المتعبة...
أحسست بأن الغرفة اشتعلت فزحفت لباب الغرفة الأخرى لاستمع...
وانتظرت قليلا ثم انسحبت خجلا خارج البيت بحقدي وأطراف جنوني ، ورغبتي التي ثارت تلك الليلةعلى غطاء قمقمها.. ، تناسيت من يكون العاشق...ورحت أغزل في السر أحلى اشتهاءاتي.... واندربت مع الأيام لأن أمكث أكثر واستمع أكثر، بعد أن قفزت عن حاجز الخوف، وعرفت الكثير من الأسرار التي اقتلعت جذور والدي من قلبي، واقتلعت ثقتى بكل الناس إلا أمي...
إذاً فوالدي هو قاتل زوجها الذي ضاع دمه في الطرقات ، وصار دمه ضد مجهول... وهو من أجهضها في المدينة، وما زال يعدها بالزواج ولو عرفياً ولا يفعل...ترجوه بحرقة وتبكي لحد الاختناق ...ولا يفعل ،إلى أن هددته تلك الليلة بجريمة القتل ، وأصرت : عليّ وعلى أحبائي ولا أبالي..
في اليوم التالي عرفت من خلال تنصتي أنهما سافرا سرا للمدينه ، وعادا بعقد زواج عرفي..
كان غاضباً تلك الليلة ومهدداً إذا ما أظهرت العقد على أي حال كان...في الحياة أو بعد الموت،
وختم حديثه : إذا فعلتها سأثبت تزوير العقد وأقاضيك..وسيكون ادعاء القتل باطل، فأنا شيخ البلد، والأغنى وتعرفين مقدرتي
ونفوذي....
كنت أسمع ضحكها المغلول بالقهر ينز من جرح سري...
لأحس بأنها غير راغبة بالاستمرار معه ولا تستطيع الاستغاء عنه....
كنت اكتفيت لأبعد من شهر وتوقف تسللي لبيت سعاد..
نحلت كثيرا وغارت عيناي
وانا أتجرع مرارة السر وفسق العاشقين..
ولولا طيبة أمي التي كنت
أسمعها كل ليلة مع عودة والدي : أعانك الله على تعب الإصلاح بين الناس..
تضع له الطعام وهو يرد: إنه واجبي ولله الحمد .
فاشفق على أمّي، وأحضن محبتها.
تصيبني القشعريه ويخالجني البكاء..
أكثر من سنة مرت قبل أن يصاب والدي بجلطة دماغية...لم يسعفة الوقت وغادر في الطريق الذي لا يعود منه أحد..
وها هو الآن مسجى وسعاد
تقرأ فيه تفاصيل الأيام الهاربة...
دخل أخي الأكبر يستأذن أمّي وأخواتي والنساء لحمل جثمان والدي لمثواه الأخير بعد أن طال وقت الوداع...
دخلوا، حملوه وجموع النساء تندب بحزن موجوع
بمعنى من معاني الوداع،
إنما سعادة خرجت من صف النساء ودعت الرجال من خلف الجنازة للتوقف ، وبيدها ورقة تلوح بها للجميع ...كان صوتها مرتفعا وهي تشير للتابوت :
أشهدكم جميعا بأن ابراهيم
هو زوجي والجنين الذي أحمله الآن ببطني هو ابنه وهذا هو عقد الزواج... اهتز المكان وكأنها صاعقة أصابت كل الحضور...
تصارخت النساء وولولت وانهارت والدتي...
اندفع البعض إليها ممن كذبوها ، والبعض الاخر قال لنرى العقد.. وأنزل الجثمان من الأعناق الى الأرض ...
رأيتني أقف على مرتفع
وأصرخ بالجميع مع أنني كنت يافعا وأصغر إخواني : توقفوا أشهد بأن سعاد هي زوجة والدنا ، وجنينها هو من لحمنا ودمنا...
واعلموا بأني كنت شاهدا على عقد هذا الزواج العرفي...
صاحت والدتي : حتى أنت يا صابر ...؟!
وسقطت على الأرض.. غادرت مسرعاً لأتشرد بشوارع دولة أخرى، ودوما أردد "حتى أنت يا صابر"....
وإبليس ما زال صديقى...
وليد عكاشة