-->
مجلة دار الـعـرب الثقافية مجلة دار الـعـرب الثقافية
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

{{ تشظي }} بقلم الأديب رافع الفرطوسي / العراق

 


تشظي

 بنطالُ واحدُ جميل , مئاتُ من الأقدام والأرجل تتشابك للولوج فيه , بضع من الأيدي أمسكته من الحزام , كلُ يحاول جره إليه, وبين شدٍ وجذب , هناك من يخشى الأمريَن , أن تتراخى يده فيُضطر إلى أن يفلتها من القطعة التي أمسك بها بعد جهدٍ كبير ولن تتكرر فرصة القبض عليها مرة ثانية , أو أن يشد أكثر فتخرج كفه بحصةٍ كان يأمل بشيء أكبر منها.

 بين لهاثٍ وصراخٍ وتهديدٍ ووعيد , إشتد الصراع حتى صار الجمع يميل يميناً تارة وتارة يساراً كالبحارة الذين يمسكون جميعاً بدفة سفينةٍ وسط بحرٍ هائجٍ وكلُ واحد منهم يريد توجيهها لوجهته , غير أن الموج والريح لهما كلمة الفصل إذ يتلاعبان بهم دون اكتراثٍ لغاياتهم. أخذ التعب مأخذه من الجميع , جنحوا لهدنةٍ قد تكون السبيل إلى خاتمةٍ تُرضي الجميع , اغتسلوا من جدول النهر الذي يجري في ساحةِ المنازلة , بعضهم شرب بيدٍ واحدةٍ ليترك الأخرى ممسكةً بحصته , أما المحيطون بهم فكانوا أوفر حظاً في الإغتسال والشرب من الجدول ثم التبول فيه ! أربعة من الأشداء لم يشربوا , حيث وضع كل واحد منهم كلتا يديه على الحزام , حسبهم بأن من خلفهم هم أتباع مخلصون. - من يكون في جبهتي ؟ صاح أحد الأربعة - كلنا معك , صوت من وسط الحشد - لا تتكلم بالنيابة عنا - لا , ليس الكل معه - فمن في جبهتي أنا ؟ صاح الآخر - نحن معك - نحن معك , لو كنت حليفاً للذي على يمينك

 - لا , للذي على يسارك - إياك وذاك الذي قبالتك عاد الجذب بوتيرةٍ متصاعدةٍ شيئاً فشيئا, الجمعُ يراقب ويشجع , سباب وشتم هنا , صرخات هناك . أتفق المتصارعون على الإصغاء مجدداً لصوت المحيطين , وبصمتٍ هذه المرة كانت عيونهم تنادي : - من معي ؟ من ضدي دار حديث طويل بين الحشود و اختلفت الآراء . - الأفضل أن نعرض الأمر على الحكماء من الجيران - لا لتدخل الغرباء وإن كانوا جيرانا - لدينا مال وفير , فلِم لا ندعو الأفضل في العالم ليفصل بنطالاً لكل واحد منا ؟ - وهذا الذي بين أيديهم , من يأخذه؟

 - اتركوه لي

 - مخادع ماهر انت , لم لا آخذه أنا ؟ 

- هناك قطعة جديدة لكل واحد منكم , فما تريدون من هذا الهزيل , سأرضى به

 - انه لا يناسبك , انظر الى كرشك 

- أو ليس كلنا اصحاب كروش ؟ علت الجلبة مرة أخرى , هذا ليس حلاً , وفيما هم مختلفون , صدح صوت من بين الأربعة : 

- كفى , تركنا الأمر لكم حتى لا يُقال إننا لا نأخذ بما يقول الجمهور , لقد أتفقنا نحن الأربعة 

 - اتفقتم ! يا للعجب 

- اتفقنا نسبياً , فكل اثنين منا في حلفٍ أبدي الآن - فريقان , هذا أفضل نوعاً ما وسط ثرثرةٍ وتمتمة , تفرقت الحشود ثم انتظمت إلى فرقٍ ثلاثة , أحاطوا بالمتنافسين على شكلِ مثلثٍ يطوق الميدان, على اليمين صاح أحدهم : نحن مع هذا وهذا , وفي الفريق الأيسر صاح آخر: ونحن مع هذا وهذا. 

 فريق في رأسِ المثلث صاح بصوتٍ واحد : نحن مع الفائز , وسنرضى بأحد الجيوب فقط .

 - أ تظنون أنكم أعلى شأناً إذ أصبحتم في القمة ؟ هل أنتم افضل منا ؟

 - هكذا شكلتنا الطبيعة يا أخي , نحن على القمم دائماً 

- لا بأس , فنحن نُشكل القاعدة , ولا قيمة لقمةٍ دونَ سفح , قالها يميني معزيا نفسه.

 - أجل , هم على القمة لأننا قاعدتهم , وما أن نهتز قليلا سيتساقطون كأوراق خريفية يابسة, جواب من جهة اليسار. بدأت منافسة الشد , واشتباك الأقدام للدخول , الأربعة ممسكون بأطراف الحزام والكل يجرُ نحوه ويثني إحدى رجليه محاولاً إدخالها ,فيما يقف على الأخرى ويتكئ على أخيه الخصم, صيحاتُ التشجيع والإستهجان تعلو من الجماهير , ترقبُ وانتظار وصمت من جمهور رأس المثلث . لا أحد من المتصارعين يقوى على السيطرة والتفرد , لكن كل واحد ُمنهم يريد هذا , لا أحد منهم ينوي التخلي وإفلات يده , لا أحد منهم يؤمن بشيءٍ غير أن ما بين يديه هو ملكُ صرف له وحده , لا أحد منهم يثق بالثلاثة الآخرين , حتى بحليفه المزعوم ! تجددَ التراشق بالكلماتِ بين الجماهير , تخوين وتسقيط , هناك من يحاول إلغاء الآخر , لا إثبات نفسه. 

- لن تنتهي المسألة بهذه الوسيلة

 - لكانت قد انتهت لولا وجودكم بيننا

 - 

عجبي , نحن أهل الدار , فمن أنتم ؟

 - الدار دارنا , كلكم غرباء

 - بل أنتم الغرباء , نكاد لا نفهم حتى كلماتكم ضحكات خجولة وابتسامات زائفة في القمة سعياُ للتهدئة وإيقاف التصعيد . 

- علامَ تضحكون , أ نقتتل فيما بيننا وأنتم تتفرجون فقط؟

 - الذنب ذنبنا , فلو كنا على وفاقٍ ما كان هذا الحال - دعونا نحسمها , فها هم الأربعة عاجزون عن تحقيق أحلامنا 

- ويحك , إنها أحلامهم , نحن تشبثنا بها فحسب ! - على كل حالٍ , ليتفق الفريقان دون الرجوع إليهم , لنتفق فيما هم مشتبكون .

 - كيف سيثق أحدنا بالآخر ؟

 - نعم , ما الضمان ؟

 - لا إتفاق , البقاء للأقوى , ففي كل حربٍ يحصل القوي على كل شئ. 

- أوتسمي هذه حرباً ؟ إنها منازلة شريفة

 - عن أي شرفٍ تتحدث 

- أعتذر , كنتٌ أتحدث عن شئ لا تعرفه

 - أصمت , عليك اللعنة 

 - بل أنتم وسيداكم هذان لعناء - أصمتوا جميعاً , طالما طلبتم تدخلنا , فعليكم القبول برأينا والأخذ به, صوت من القمةِ

 - موافقون , هذه المرة قالها الجميع

 - لا يؤمن أي منكم بأخيه , لا يثق به , فأنتم في حربٍ فعلياً , أرى أن تتجردوا من كل الأشياء , حتى ثيابكم , ثم تنقضون جميعاُ صوب الميدان , ومن يحصل على البنطال سيكون الجميع تحت أمره . دون تفكيرٍ , تخلى الجميع يميناً ويساراً عن كلِ ما قد ظنَ أنه يستر عورته - عدنا كما ولدتنا أمهاتنا - لم تلدنا الأمهات بهذه الأحجام , لقد كبرنا - بل إننا هنا لنكبر. - تحدث عن نفسك , نحن هنا لأننا أكبر, وسنكون الأكبر . كان رأس المثلث قد أعدَ مسبقاً الخيام لجمهوره الغفير , طعامُ يكفي لكل رجل منهم لمدةٍ أطول من زمن الصراع , عبواتُ الماء النقي , كي لا يُضطر أحد منهم إلى الشربِ من جدولٍ كان قد بال فيه . 

دخلوا خيامهم بانتظامٍ , دون أن يقولوا كلمة وداع للفريقين المتناحرين , غابوا كأنهم لم يكونوا هنا في ساعةٍ ما. 

يراقب الأربعة الحشود العارية , وكل واحد منهم يصيح : تعالوا لنسترد الحقوق المسلوبة . هرعت الحشود دون اكتراثٍ لنداءات الأربعة , فلقد أيقن كل رجل منهم بأنه قائد نفسه , وأنه سيكون بعد حين قائد الجميع , اصطدم الكلُ بالكلِ واختلط النجيع بالتراب والعرق , علا الغبار حتى غاب المشهد سوى الصيحات , ساعة من الصراع المحتدم كانت مسموعةً لا مرئية . بدأ الغبار بالزوال ليكشف عن وجوهٍ مكفهرةٍ وجدَ التراب والمخاط والدماء مساحات كافيه لهم فيها ,أجساد عاجزة مرمية على الأرض , أنينُ هنا وسعال هناك , شهقات احتضار في مكانٍ وبكاء بهمهمةٍ في مكانٍ آخر. بنطالُ واحد بات مئاتَ من القطع , مئاتُ من المؤخراتِ المكشوفة. 

 رافع الفرطوسي/ البصرة/العراق  2022

عن محرر المقال

ندى خليفة

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مجلة دار العرب نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد االمقالات أول ً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مجلة دار الـعـرب الثقافية

مجلة عراقية . ثقافية . أدبية

احصاءات المجلة

جميع الحقوق محفوظة لمجلة دار العرب الثقافية - تطوير مؤسسة إربد للخدمات التقنية 00962788311431

مجلة دار الـعـرب الثقافية