قراءة لسانية دلالية للأديبة أ Habiba Meherzi في القصة القصيرة الفائزة في مسابقة سرديات ملتقى السرد الروائي لكاتبها القاص صابر المعارج النص : أحلام مصَيفي
بين هدير الأمواج ونعيق النّوارس، ناغمت رمال الشاطئ قدميه، فتح ذراعية رقص محتفيا بنسيم البحر، بسط فراشا من حرير أبيض، تمدّد، تنفس بعمق، ثم أرسل ناظريه في زرقة السماء الموشاة بأسراب حمام بيض، بدت كما لو أنها قوافل ياسمين. شابة من رخام أبيض جلست عند رأسه ووضعته على فخذها البض، بأنامها الناعمة التي تنث عطرا، شرعت تمسد شعره المنسدل، وثمة خصلة من شعرها الأصفر تداعب جبهته... مدّ يده، قطف برتقالة مكتنزة من شجرة ما كانت تدلى فوقه، تلقفتها منه نزعت قشرتها، ومضت تدسها برفق في فمه! .......... قلب العاصمة بغداد، في الرابع من آب، الثّانية ظهراً بتوقيت سينما الرصافي! التي تتوسط سوق"هرج" في الباب الشرقي. الشّمس تغرز مخالبها الشّرسة في رؤوس المارة، نتانة الأجساد الغارقة في العرق تُصيبك بالغثيان والدّوار، الباعة البائسون، وقد أوشك يومهم هذا على الانطفاء؛ دبّ اليأس في نفوسهم، وتلاشت حماستهم وانخفضت إلى حد ما أصواتهم فأمست أشبه بطبول مثقوبة! مولدات الكهرباء الأهلية تلفظ قيّئاً قذرا يرتفع مختلطا بزرقة السماء مشكلا لوحة قيحٍ مقزّز! نصب الحريّة كُفِّن في ليلة ظلماء لسبب ما! فبدا كسفينة عتيقة مهجورة في أرض جدباء! نظوري أبو العنبة يمدّ يده المليئة بالفطريات بفعل الرطوبة كونه وبأستمرار من يؤدي مهمة تقطيع الخيار "العزل" والطماطم الرخيصة وإعدادها كسلطة، وكذلك قيامه بغسل الصحون وأحيانا خلط عجينة الفلافل. يمدّ يده دافعا ب"لفّة فلافل" وقد أغرقها بالعنبة بعشوائية فضة بناء على إتفاق راسخ بين الطرفين! وصاحبها بصيحات ثلاث : "يمعود، يفلك، بردتْ لفتك"! كان يجلس على علبة صفيح خلف عربته الخشبية، وقد أحنى رأسه راكعا على قطع الملابس"البالة" مطوقا وجهه بذراعيه الداكنين... فزّ مذعورا، انتزع "الّلفة" من يد نظوري وشرع يقضمها بنهم صارخا : الله لايوفقك! أمشِ "جيبلي كلاص جاي"! وقبل أن يعود نظوري بقدح الشاي الساخن ؛ أتم مصيفي لحس "العنبة" العالقة على محيط فمه، وصاح بصوت مشحون بالغضب! :بالة كسر جديد... بالة.....
القراءة:
قصة اجتماعية نفسية. عتبة العنوان :"أحلام مصيفي" عنوان أضيفت فيه" أحلام" إلى "مصيفي" والأحلام جمع حلم وهو ما يراه النائم بعيدا عن وعي اليقظة وقد يكون مايراه سارا أو مخيفا. المضاف إليه "مصيفي" وهو تصغير لمصطفى وقد يكون للعطف والتودّد أو التصغير والتحقير... من هذا المنطلق سيكون بقسمين الأوّل أحلام .. والثاني "مصيفي" والقصة قسمت بناء على ذلك إلى قسمين واضحين متقابلين كمًا وكيفا ومعجما: القسم الاول: لم تتعدّ سطوره الخمسة عشر سطرا، المكان على شاطىء البحر. الزمان نهارا والطقس جميل. الحدث: التنعم بجمال الطقس واللقاء بالحبيبة الرخامية. أفعال البطل: ناغمت، فتح، رقص، بسط، تمدّد، تنفّس، أرسل. أفعال الحبيبة:جلست وضعته، شرعت تمسد، تداعب، نزعت ، مضت تدس. المعجم من جنات النعيم: النوارس، محتفيا، نسيم البحر ، حرير، أبيض السماء الصافية ، حمام بيض، ياسمين، شابة من رخام أبيض، فخذها البضّ، الناعمة.... برتقالة برفق... معجم استقاه الكاتب من جنات عدن: بياض وشعر أشقر وبرتقال شبيه بتفاحة آدم وحواء أو ب "هزي إليك بجذع النخلة يساقط رطبا..." والكاتب اختار البرتقال ليوضع باشتهاء في فم من "يحلم" وهي قرينة تلغي المعنى الظاهر وتؤكد الحلم لعدم ملاءمة الشيء وموضعه... هو إذن الحلم بشخصيات أقرب إلى الملائكة ونشوة ترقى إلى التشبّه بحوريات الجنة "شابة من رخام أبيض" عالم علوي مرسوم في المخيال الإنساني من مؤسسات "الجنة "paradis" .heaven." لقطة بمشهدية سينمائية وجدانية غزلية روحية، لكن الكاتب وشكلا عزل هذا الجزء النيّر من القصة ورفعه درجات وأقصاه بنقاط وكأن لا إمكانية للمزج بين متضادّين متقابلين واستحالت التقريب بينهما. القسم الثاني وهو الأطول؛ فقد تجاوز الثلاثين سطرا أي ضعف الحلم الضائع وأكثر تأكيدا على الثّقل وجسامة الوضع! الزمان محدد بدقة الرابع من آب وهو الشهر الثامن شهر الحرّ الشديد والساعة الثانية ظهرا ساعة الذّروة الحرارية المؤذية والمكان محدد أمام سينما الرصافي التي تتوسط سوق" هرج " أسم يدل على الضوضاء والضجيج في قلب العاصمة بغداد" هو التوثيق والتقرير للدلالة على الواقعية التي أهملها الكاتب في الجزء الاول. المكان إذن سيكون موضع الإغراق في الحقيقة المرة والواقع الموجع مع الزمان الذي اختاره الكاتب ليكون مساعدا على التأزم ومكثّفا مفاقما للمعاناة وتكديس الأذى. المكان سوق شعبي بتسمية موحية من جنس الزمان المنتقم. الوصف جاء جملا أسمية خبرية مثبتة دالة على الرسوخ والاستمرار، الشمس التي كانت ناعمة في الحلم صارت عدائية مسلّحة "تغرز مخالبها الشرسة"! تشبيه تمثيلي بالوحش ذي المخالب، والمكان رؤوس المارة؛ جمع متضرٌر عكس "رأس "تداعبه شقراء" ليصل إلى تضرر الحواس "نتانة الاجساد"تصيبك... المخاطب هو المتلقي ينظم إلى سارد يعلم الظاهر والباطن "دب اليأس في نفوسهم" هو الظاهر الدال على الباطن ليكون لحاسة السمع نصيب في الأذية "أشبه بطبول مثقوبة..." معجم القذارة والضوضاء والعرق والظلماء..لتكون "الحرية "نشازا لا قيمة لها برمزية مشوهة "تشبيهها بالسفينة المهجورة في أرض جدباء؛ هي الإحالة على الوضع الكارثي النمطي للأشياء التي تسلب معانيها وتصادر خاصيتها فتصبح عاملا مساعدا على الأسى والمعاناة. هي القتامة التي تجعل المرض المرتبط بالقذارة حاضرا كنتيجة أو هو ربط للسبب "يده المليئة بالفطريّات" والتعليل والتفسير أشد إيلاما وتهديدا للمتلقي "يقطع الخيار...ويغسل بعض الصحون... ويخلط العجين..."أي أنه يعد الأكل للحرفاء "المعذبين في الأرض" بيدين مريضتين، وليزيد الكاتب إغراقا والحاحا على الواقع المتردّي فقد أطلق الصوت المعتاد"يمعود، يفلك أخذ لفتك..." هو الوصف بمشهدية ركحية مسرحية فيها الصوت والصورة والحركات ...ليظهر صاحب الحلم اللذيذ ينام على ذراعيه "على "البالة" لتنتهي القصة بشبه مناوشة بين معدمين مريضين، أحدهما كان منذ لحظات بين ذراعي شابة رخامية شقراء تؤكله البرتقال وتضع رأسه على فخذها الناعم والبياض والنوارس تؤثث المشهد الفردوسي حولهما. القصة قامت على الصراع الباتّ والذي لا يحتمل تنسيبا ولا تعديلا. هو الصراع بين الجمال والقبح بين الغنى والفقر بين المرض والصحة بين الموجود المضرج وجعا وهما وغما والمنشود الملائكي الصافي الذي لا يتطلب إلا الصدق والحب ونظافة الأيدي والسّرائر بزعامة الحرية التي حضرت في النص "كسفينة عتيقة مهجورة في أرض جدباء، يلفها كفن في ليلة ظلماء" هو الصراع بين الحقيقة والخيال بين المصطفى والدال على المخير المفضل والمصيفي" الإسم المصغر تحقيرا لترتيب فرضه الواقع المرٌ القاسي. قصة بقطبين شمالي جميل أخاذ لكنه يظل حيز الحلم وقطب جنوبي رث شقيّ اختلت قوائمه كي لا ينهض أبدا. لقد نجح الكاتب بحبكة تصعيدية محكمة في تصوير مدى قبح الشيء بافتراض نقيضه ليكون للمتلقي الحكم الأخير على هذه الوضعيات التي تغرق فيها الشعوب هنا وهناك وتلك مسؤولية الأدب الإنساني والأديب الواعي بهموم الإنسان وأسباب شقائه. *مصيفي : تصغير لإسم مصطفى أو دلعا له.
حبيبة محرزي /تونس 27/8/2022

