أ.د. لطفي منصور .. يكتب :
اللَّيْلَةُ الْمُرْعِبَة
كَيْفَ أَنْساها، وَقَدْ وَقَعْتُ في بَلْواها، كُنْتُ بِالعاشِرَةِ مِنْ عُمْرِي، كان ذلِكَ في مِثْلِ هَذِهِ الأَيّام من سنَةِ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ وَثَمانٍ وَأَرْبَعينَ، أثناءَ الْحَرْبِ التي وَقَعتْ بَيْنَ العَرَبِ والإسرائيلِيِّين أُغْلِقَتْ مَدْرَسَتُنا التي لم يَكُنْ في القَرْيَةِ غَيْرُها، في نهايَةِ شَهْرِ كانونٍ الأَوَّلِ من تِلْكَ السَّنَةِ، وَقد أَشْغَلَتْنا إدارَةُ الْمَدْرَسَةِ قَبْلَ إغْلاقِها بِأَسابيعَ بَحَفْرِ خَنْدَقٍ طولُهُ مِئَاتُ الأَمْتارِ، ونَحْنُ لا نَعْرِفُ ماذا سَيحْدُثُ، وكُنَّا نَسْمَعُ جُمْلَةَ "قامَتِ الحَرْبُ اللَّه يُسْتر" يُرَدِّدُها الكِبارُ.
وفي صَباحِ الْيَوْمِ الَّذي أُغْلِقَتُ فِيهِ المدْرَسَةُ، وفي أَثناء الاصْطِفافِ الصَّباحِيِّ، جاءَ مُديرُ الْمَدْرَسَةٍ وَأَخْبَرَنا أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ نَشِبَتْ في القُدْسِ وفي يافا وَحَيْفا وغيرِها منَ المناطِق، أَذْكُرُ كَلِماتٍ قالَها مُدُيرُنا، الّذي لمْ يَكُنْ من القَرْيَةِ نَفْسِها، وقدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْناهُ بِالدُّموع: "نَحْنُ مُجْبَرونَ عَلَى إغْلاقِ مَدْرَسَتِكمُ الْحَبيبَةِ لِأنَّها في الْجَبْهَةِ. لمْ أَكُنْ أَفْهَمْ ما مَعْنَى "الْجَبْهَة" والقِتالِ والْجَرْحِ والْقَتْلِ، لَكِنَّنا انْفَجَرْنا بالبكاء. حَقًّا كانَتْ عِنْدَنا مَدْرَسَةٌ جَميلةٌ، تقَعُ عَلى أَرْضٍ مِساحَتُها تَقْرُبُ من الْثَّلاثينَ دُونُمًا، يُحيطُها سورٌ من أَشجارِ السَّرْوِ العالي، وأَمامَ بِنايَتِها الْممتدة طولًا حَديقَةٌ من أَجْمَلِ حَدائِقِ المدارِسِ في ذلِكَ الزَّمَنْ.
وقامَتِ الْحَرْبُ، وَتَسَلَّحَ قِسْمٌ مِن شَبابِ القَرْيَةِ التي لم يَزِدْ عَدَدُ سُكانِها عَنْ ثَلاثَةِ آلافِ نَفْسٍ، وَكانَتِ الطِّيرَةُ بَلَدِي في مُقَدِّمَةِ القُرَى العربيَّةِ التي هوجِمَتْ. فما كادَ يَنْتَهي الانتدابُ البريطانِيُّ عَلَى فلسطينَ في بدايَة شهرِ أَيّار سنةَ 1948م حَتَّى أَخَذَتِ الْقُرَى العربِيَّةُ في فلسطينَ تسقُطُ بفِعْلِ الهَجمات اليهوديَّةِ الواحِدَةِ تِلْوَ الأَخْرَى.
تَعَرَّضَتِ قريتي الطيرة لِهُجومَين كَبيرَيْن في نهارَيْ يَوْمَيْ 13-14 أيّار، لَكِنَّ المُهاجِمينَ فَشِلوا، وتَكَبَّدوا خَسائِرَ فادِحة. ودافَعَ عن القرِيَةِ أَبناؤُها الُمسلحون ونجَداتٌ جاءَتْ من القُرَى الْمُجاوِرَة.
في لَيْلَةِ السّابِعِ وَالعِشْرينَ من أَيَّارَ وفي مُنْتَصَفِها كُنْتُ أنا والعائِلَةُ مُخْلِدِينَ إلَى النَّوْمِ، وَإذا بالْوالِدَيْنِ يَصِيحانِ بِنا، ويقولانِ هُجوم، هجوم أفيقوا. في هذه اللَّحْظَةِ الْمُرْعِبَة سَمِعْتُ انفِجارًا شَدِيدًا في "حاكورةِ" البيتِ، فَفِزِعْنا وَاْرْتَعَدْنا وَإذا بالرَّشّاشات النَّارِيَّةِ تُمْطِرُ القَرْيَةَ، بِصورَةٍ مُتَواصِلَةٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهات، هَكَذا اعتقدْتُ. خَرَجْنا مِنَ الْبَيْتِ نَحْوَ مَلْجأٍ صَغيرٍ أَعْدَدْناهُ وَجِيرانُنَا، فَأدْخَلونا إلَيْهِ. وكانَ جارُنا يَمْتَلِكُ سَيّارَةَ شَحْنٍ، فَأَشارَ عَلَيْهِ والِدِي بِإخْراجِنا إلَى مَكانٍ آمِنٍ، وَأَصابَ الرُّعْبُ الْجَمِيعَ إذْ حَسِبَ أَهْلُونا أَنَّ الْبَلْدةَ مُطَوَّقَةٌ، وكانَتْ لَحَظاتٌ مُخِيفَةً، لَمْ يَصِلُوا إلَى قَرارٍ، وَفَجْأَةً وَقَفَ قَصْفُ الهاوناتِ والْمَدافِعِ لَحِظاتٍ، وَبَقِيَتِ الرَّشّاشاتُ تُمْطِرُ، فتبيَّنَ أَنَّ الجِهَةَ الشَّرْقِيَّةَ مِنَ القَرْيَةِ التي تَرْبِطُها مَعَ القُرَى العَرَبِيَّةِ الْمُجاوِرَةِ آمِنَةٌ، فَرَكِبْنا السَّيارَةَ بِالظَّلامِ الدّامِسِ، وَسِرْنا في الشَّارِعِ الرَّئِيس شَرْقًا، وَإذا بَأفْواجٍ من النِّساءِ والأَوْلاد نازحونَ، أَحَسَّ العَدُوُّ الْمُهاجِمُ الذي وَصَل إلَى أَطْرافِ كُروم الطِّيرَة، منَ الْجِهَةِ الشَّماليَّة الشَّرْقِيَّةِ بِالسُّيّارَةِ َ، فَرَشَقَ بِاتِّجاهَنا عِدَّةَ صَلْياتٍ من الرَّصاص، وَمِنْ حُسْنِ الحظِّ لم تُصِبْنا، فَالظَّلامُ غَطَّى عَلَيْنا والحمدْ للَّهِ.
واصَلَتْ السَّيّارَةُ مَسيرَتَها حتى مكانٍ يبعُدُ عَنِ الطِيرةِ ثَلاثَ كيلو مِتْراتٍ، يُدْعَى "رأس عامر" يَقَعُ عَلَى الشّارِعِ الموصِلِ بينَ طولكرم وقلقيلية. نَزَلْنا مِنَ السَّيّارَة نَحْنُ الأولادَ والنساءَ وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَجَمْهَرونَ، وَرَجَعَ الوالِدُ إلَى القَرْيَةِ، وَأَخَذَتِ النَّجَداتُ تَتَوالَى إلَى الطيرَةِ، وَبَقِيَتِ المَعْرَكَةُ حتَّى الْفَجْرِ، وَتَقَدَّمَ الجُنودُ الْمُهاجِمونَ إلَى الْمَدْرَسَةِ التي اعْتَلاها الْمُدافِعون الذينَ استَبْسَلوا في الدِّفاعِ عنْ شَرَفِهِمْ عن البلْدَةِ، التي كانَتْ تُهاجمْ أَيْضًا مِنَ الغَرْبِ والجَنوبِ، ولمْ يَبْقَ في الطِّيرَةِ إلّا المُجاهِدونَ، وَبَعضُ النِّساءِ اللَاتي كُنَّ يَنْقُلنَ الماءَ والطَّعامَ للمُدافِعِين. وكانَتْ لَحَظاتٌ مَصيرِيَّةً انتَصَر فَيها الْحَقُّ الْمُدافِعُ عَنْ بَلَدٍ وَأَهْلِها، عَلَى ىالباطِلِ الْمُهاجِمِ المُحْتَلِّ، وَأَسْفَرَت عَنْ قَتْلِ قائِدِ الْهُجومِ وحامِلِ الَلاسِلْكِي وَعَدَدٍ غيرِ قليلٍ مِنَ الْجُنودِ.
وَأَصْبَحَتِ الطِّيرَةُ اليَوْمَ مِنْ أَجْمَلِ المُدُنِ العربيَّةِ في إسرائيل، مَدِينَةَ سَلامٍ وَوِئامٍ بينَ الشَّعْبيْن، يَؤُمُّ أَسواقَها وَمَتاجِرَها ومطاعِمَها وَكَراجاتِها وَمَخابِزَها وَمقاهِيَها آلافُ اليهودِ كُلَّ أَسْبوعٍ.