قصة قصيرة
غناء القصب
بقلم مهدي الجابري
مخرتُ الصحراء هارباً بعد تدمير وحدتي العسكرية ، متخذاً من الليل غطاءً، مرعوباً خائفاً أتلفتُ، صحراء جرداء، أُهرول فيها تارة وأمشي تارة اخرى، اخذ مني التعب مأخذه ، جلست لبرهة من الزمن ،سمعتُ عواء حيوانات لم أسمعها من قبل، كلما تعمقت في هذه المفازة ازداد خوفي وقلقي .
كنت أتناول من خشاش الأرض بعد جوع وعطش، وأرقب السماء مرةً، وأتلفت حولي مرة ً أخرى، و دعوتُ الله أن يخلصني من محنتي، شعرت بالصبح يتنفس، فتنفست الصعداء، اخذت أهرول وأنا فرح ٌ بطلوع النهار، قدماي الحافيتان أُثخنتا بالجراح، ملابسي رثة، الجوع والعطش اضعفا قواي، جلست في حفرة لأستريح قليلا بعد جهد مضن، أخذتني غفوة، انتبهت منها على صوتِ بدويين يحمل كل منهم عصا و قد وقفا الى جانب الحفرة،
_ سألني أحدهما : هل أنت بخير
_ أجبت : نعم بخير، نهضت وقلت لهما أشعر بعطش وجوع شديدين .
قدّم لي أحدهما قربة ماء مصنوعة من الجلد بسطتُ كفيَّ ليصب الماء لي وأنا أرتشفه ملهوفاً، قطعه عنّي وأنا لم أترو بعد وقال : حتى لايتأثر جسمك بعدها بقليل قدم لي الآخر كسرات من الخبز اليابس قضمهتن بِنَهم، ثم اقتاداني الى داخل خيمة كبيرة، يجلس في صدرها رجل عجوز مهيب عرفت أنه والدهما. سألني:
- ما اسمك
- أجبته : مهدي
- من أي مدينة أنت؟!
- من الناصرية.
- من قدمت وإلى أين تذهب
- حين كان عمري ثمانية عشر عاما دُعيتُ الى الخدمة الالزامية ولم أكد أكمل مدة التدريب الأساسي حتى وجدت نفسي بمحرقة الحرب، بعد قصف مواقعنا العسكري نجوت بأعجوبة و جبت الصحراء لا اعرف وجهتي .
رحبوا بي ألبسوني من ملابسهم، وأطلقوا عليَّ أسم (بارع)، بعد ما استأمنوني و اعتبروني أحد أبنائهم.كنت سعيداً بوجودي بينهم ونسيت أهلي ومدينتي.
راحوا يتنقلون من مكان الى مكان آخر وراء العشب حتى دخلوا الحدود السورية، مع كثرة المراعي والعشب الوفير وتقارب البيوتات الى بعضها ، أصبحت بيدي السيطرة على الأغنام والمراعي.
ذات مرة صادفت فتاةً جميلة جداً دخلت قلبي فرفعتُ يدي لها ملوحاً بالتحية، فردت عليَّ بمثلها، تقربت منها حتى وصلت الى بئر فيه ماء تحيط به الاحجار والصخور وقريباً منه بركة من الماء الذي يتساقط من استخدام ماء البئر وتتخلله نباتات شتى أستأنست لهذا المنظر الجميل، عشب وزهور كثيرة تتخللها أعواد القصب ، حينما رأيت القصب تذكرتُ أهلي و غرقت في حلم حزنت كثيراً و أنا أمسك ( الزل ) وهو عود من قصب رفيع، احتضنته متألما مستذكراٍ كيف هو البردي والقصب وأمي وابي وأخواني ومدينتي التي تغوص بين عيدان القصب الترفة ...حملني القصب الى حضن أمي وضحكات اخوتي ورائحة مدينتي ....
أغمضت عيني وتهت ساعة في ذكرياتي الدافئة ، انتزعني من نفسي صوت من خلفي صدح كأنه من عمق حلمي بمدينتي كان صوت الشابة الجميلة يبدو كأنه موال مبحوح للقصبة التي احتضنها .
- مرحبا
- مرحبا
- هل أنتم من العراق
- نعم
- أكيد تبحثون عن العشب أينما حلَّ
- نعم هو ذاك
- لنجلس حتى لايرانا احد
- ما اسمك:
-تلفتت يميناً و شمالاً مرتبكة أسمي سمية.
_ عشتِ وعاش أُسمكِ، لم أتمالك نفسي امامها وامام جمالها. فسألتها: هل انت من البشر؟ ! ضحكت، وأنا مذهول كاني مسحور، لمستُ خصلة من شعرها قلت لها : هل أنت ِبشر حقاً؟ أمتاكدة بأنك لست جنية القصب .
ضلت تضحك لكني لم أقاوم جمالها وبالكاد عيني كانت ترمش سحبت نفسها وهي تغادر مسرعة و أومأت لي غداً موعدنا هنا.
تكررت لقاءاتنا، جننت بها حباً. ذات يوم انتظرت وصولها لكتها لم تحضر و كذلك اليوم الذي تلاه عَلمت انها تريد أن تحفزني لخطبتها، رجعت متألماً لما حصل لي، صارحت أهلي بأني همت بفتاة من هذه القرية حباً، أعترضوا كثيرأ قالوا لا يمكن هذا فنحن نتنقل حيث ما كان العشب فما ذنب هذه الفتاة . أتركها و شأنها وأعلم أنها لن تكون لك مهما كانت الأمور .
في صباح مماثل لذلك الصباح الذي لبست فيه لباسهم نزعت عني نفس اللباس وارتديت بدلتي العسكرية القديمة ذاتها ..
ثم تسللت هرباً الى حيث أهلي؛ وصوت القصب يناديني وهو يغني باسم سمية وينسج لي عالماً جديدا من الحب والأمل .
مهدي الجابري - من العراق