الانغراس و أطياف الغائبين
: القراءة :
ـــــــــــــــــــ
سيرينادا بصيغة تيار الوعى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معزوفة ليلية ، و مونولوج يتوسم الشعرية إهابا ، بحكم
موضوعه الذى يستدعى شكلا موائمًا من الخفق السريع
كالنبض .
الذاكرة تلقى بمكنوناتها عن الغائبين الآن فى ليل الحياة
المفعم بالمشاعر ...
إبن و زوج ... رضـــــــيع و دموع هي عناصر يمكن أن
تنسج في تركيبها الموســـــيقى نوتة تتغنى بها النسمات ..
و هذا الطين الذى تلتصق به العجوز ، ليتحدا في بوتقة
بالغة الواقعية ... و الماء نبع الحياة....
ثم
ليل و فجر
عناصر و مفردات يمكن بيد محترف أن تكوِّن قصيدة
أو قصة تفوح شــــعرية و تغنٍ ، و هو ما نجده في هذا
النص الشفيف .
الأم هنا تســـــــتدعى _ رغم اختلاف الظروف _ بطلة
رواية" الأم" لمكســـــيم جوركى , فهى تحمل روحها
إصرارًا و صلابة .
فجر الطين عنوان محتشد زاخر ، فالفجر بداية ، رغم
أن البطلة في النهايات ، لكن التصاقها ( و توحدها )
بالأرض يهبها من القوى ما يغاير المقاييس المعتادة ،
فســـتكتسب منها _كما تحس بفطرتها _ قوة و صلابة
تراث تاريخ عريق.
ـــــــــــــــــــــ
( لأُصْغيَ للماء قليلاً
سماعِ تدفّق الماء
أتتبعُ رائحةَ الأرض،
أتلمَّسَ الطين، يدايَ ستعرفان كيف تُسْبرُ دروب الطّين
غاصت قدمايَ ويدايَ بالطِّين، أســــلمتُ رأسي للوحل
أسلمتُ رأسي للوحل
لكنّني انغرستُ
وما زلتُ أنتظر ُ شمساً ويداً تقتلعُني)
الماء و رائحة الطين و ملمسه ، و الانغراس و الشمس
و الاقتلاع ...اســتحضار لكيفيات الإنبات و مفرداته
و كأنها بتوحدها القســـرى بالأرض قد أصبحت ابنتها
و تنتظر الحصاد أو الخروج و الظهور و التجلى طبقًا
للموروثات و المفاهيم الدينيـــــة لدى بعض الطوائف .
أضواء تمزج الإنسان بالأرض في وحدة كونية بعطر
مونولوج شعري و غنائية تكمن في النص ككل .
( أحمد طنطاوى ) أكتوبر2021
النص
فجر الطين
ـــــــــــــــــــــــــــ
لن أستنجدَ بأحد، ســــيقولون إنّني خرَّفتُ وسيخبرون أولادي، وهؤلاء
لن يرحموني من عتابهم القاســــــي. ابني الكبير، بحجّة عطفه عليّ،
ســـــيجد مبرراً لسوْقي معه إلى المدينة، وأنا أمقتُ السكنَ هناك بعيداً
عن أرضي وبيتي. بيتي! كيف لي أن أســــــتدِلَّ عليه في هذا الظّلام
الدّامس... أســـــــتحقُّ ما أنا فيه، ما لي و مواعيد الرّي الظّالمة، دائماً
يفوتُنا ريُّ الغِراس؛ لأنّهم يُخَصِّصــــــــون لقريتنا ريّاً ليلياً، وولدي لن
يحضرَ كعادته، أردْتُ أن أُفرِحَهُ بما ســــــــــيدهشُه، قرَّرْتُ أن أتحدّى
سنواتي الثمانين، أتَّكِئُ على عصايَ؛ لأســـــــــقيَ الغِراسَ المجاورةَ
لبيتي.(قلب رأســـي) بهذه الظُّلمة اللعينة، فقدت الإحساس بالاتِّجاهات،
بتُّ أُشــــــــرِّقُ وأنا مقتنعةٌ أنّني بطريقي الصحيحِ غرباً، عُدْتُ أبحثُ
بنظريَ الضعيفِ عن بصيصِ ضوء، يا لســـــــــخرية القدر! فقد تُهْتُ
بأرضٍ ألِفتُ ذرّاتِ تُرابها ذرّةً ذرّة. أغدو وأجــــــيءُ مرّاتٍ ومرّات،
أتتبعُ رائحةَ الأرض، للأسفِ ليس لأش،،،جارِنا رائحةٌ، بل أنفي شاخَ
ولم يعدْ يميِّزُ حتّى رائحةَ النّعناع، إذن لأُصْغيَ للماء قليلاً، الليلُ باردٌ
وقاسٍ، لكنّه هادئٌ، قد يساعدُني على ســــــماعِ تدفّق الماء الذي يُثلجُ
صدري، نسيتُ أنّي فقدّتُ الكثير من ســـــــمعي، ألا يكفيني ما سمعته
طوالَ عمري، بقيَ أن أتلمَّسَ الطين، يدايَ ستعرفان كيف تُسْبرُ دروب
الطّين، حيث انفلت منّي الخُرطومُ الوقحُ... كاد أن يرميني أرضاً، أسندُ
ظهري المحني إلى صخرةٍ... صخرة... قضيتُ عمري وأنا أنقِّــــــــي
أرضي من الصّخر، إذاً أنا لستُ بأرضي، فأرضي كقطعةِ إســـفنج،
سهلةٌ ليِّنةٌ...
كنتُ أقولُ لأولادي افترشوها، هيَ أحنُّ عليكم من أَسِرَّتِكُم، سقى اللهُ
تلك الأيامَ. أُقْسِمَ يميناً معظّماً ألّا أبيتَ تلك الليلةَ ببيتِهِ، كما أســــــمَاهُ.
ـ اخْرُجي من هنا أيّتُها الغبيّة، أهلُكِ أولى بغبائك، وكان ذلك عقاباً لي؛
لأنّني أضعتُ المِجرفة. توسَّلتُ إليه أن يســــمحَ لي باصطحاب ابني
الرّضـــــــيع، لكنّه أبى، فالغضبُ كان قد أودى بعقله. جررتُ خيبتي،
وانكساري، وتركتُ قلبي مع ولدي، هممتُ بالنُّزولِ بدربٍ يوصِّلُني إلى
أهلي، بكاءُ صغيري أعادني لأدورَ حول صوته. يحاولُ إسكاتَهُ، يروحُ
ويجيءُ به، وأنا أُراقبُــــهُ من طاقةٍ صغيرة، يقرِّبُهُ من مصباحِ (الكَاز)؛
كي يلهيَهُ عن جوعه بمراقبة لســـــان اللّهبِ. يمتدُّ خيالُه على الحائط
كماردٍ كبير، قلبي ينعصرُ ألما عليهما، ولم يعدْ يحتملُ... مددتُ يدي من
الطّاقة، وصرختُ صرخةً أسكتتْهُ و أجفلتُ زوجي:
ـ ناولْني إيَّاهُ أرضعُه ثم خذه.
ـ أنت هنا! لِمَ لَمْ تذهبي لأهلك؟
ـ خشيتُ أن يتناولوك بسوءٍ، إذا علِموا أنّك طردْتَني ليلاً.
ـ أصيلةٌ، تعالَيْ اُدْخُلي.
ـ ما عاذَ الله أن أكسرَ لك يميناً، هاتِ الولدَ أُرْضِعْهُ وأبيتُ ليلتي هنا...
أذكرُ يومها، بكى زوجي بشدَّةٍ، كان طيَّباً، سريعَ الغضب، دموعُهُ عزيزة.
يومها تسامرْنا حتّى الفجر، وكانت نسائمه محمّلةً بحبٍّ وحنان لم ينقطع.
لستُ خَرِفةً الآن، ها أنا أذكرُ كلَّ هذه التفاصيل، لكن توَّهَنــــــي الظّلام،
وقتها فعل ضوءُ القمر فعله، ورأيت ما أحببت بعيونِ زوجي، لكن لا قمرَ
ولا ضـــــــــــوءَ الآن، ولا عيونَ تعتذرُ، التَّيَّارُ الكهربائيّ مقطوعٌ، وكلُّ
الأواصر مقطوعة، وقد لا يأتي ولدي. بزغتْ خيوط الفجر، فبانت أخيلةُ
الأشجار من حولي، هذه غرسَـــها زوجي، وهذه غرستُها بيديّ، والفتيَّةُ
لابني، أظنُّها ارتوتْ، ها قدِ استوت بوْصَلَتي لكن ضاع عُكَّازي؛ فرحتُ
أحبو، جفَّ حلقي، شعرتُ بالإنهاك وبألمٍ شـــــــديدٍ في قلبي، إذْ غاصت
قدمايَ ويدايَ بالطِّين، أسلمتُ رأسي للوحل، آخرُ ما لمحتُهُ كان الدَّرَجَ
الموصِّلَ إلى باحةِ البيت، كان قريباً جدّاً؛ لكنّني انغرستُ وعليَّ أن أنتظرَ
إلى أن تجِفَّ الأرضُ، وما زلتُ أنتظر ُ شمساً ويداً تقتلعُني.