بين البوح واللابوح ، وازدواجية الرؤى ... قراءة في قصة شرود للقاصة صديقة علي
قراءة نقدية بقلم د. محمد سيد الدمشاوي
القصة تعالج
قضية خطيرة من قضايا خرق التابو ، ولكن عن طريق الترميز وعدم المباشرة ، والجلوس
على حافة الحكي ، معتمدة على ذكاء المتلقي ، حريصة على عدم الغوص في المحظور ،
وطرحه بلطف وهدوء وكأنه سؤال كبير يحتاج إلى إجابة مقنعة ، نحن نختلف مع هذا الطرح
ولا نؤيده بكل تأكيد، لكننا في النهاية أمام نص قصصي يسجل واقعا قصصيا يطرح مشكلة
قائمة لا علاقة للكاتب بصنعها .
عتبات النص:
العنوان جاذب،
غامض، يستقي من دلالاته المتعددة ليسقطها على واقع القصة
يأتي السرد في
مقدمة القصة شديد التكثيف ، مغرقا في الغموض والترميز والإيحاء ليلخص طبيعة الحياة
في هذه الأسرة ،
فتأتي جملة
الاستهلال ، لتلخص كثيرا من الجفاء الكائن بين الزوجين ، كما تلخص كثيرا من القهر
والألم النفسي الذي تعيشه الزوجة ، كما تصور قسوة الزوج وتسلطه واستعلائه:
" كعادته، يستدعيني من المطبخ ؛ كي أجيب
على هاتف يرنّ بإلحاح "
كما أن
الكلمة الأولي في القصة وفي جملة الاستهلال تكشف طبيعة هذا الألم وهذا
الجفاء القار والدائم والمستمر (كعادته).
ثم يأتي
الاسقاط من خلال الجريدة وفنجان القهوة متمما ومعللا لهذه الحياة الباردة التي
يغلب عليها الانعزال والتقطع، وتفتقد للدفيء وللحب وللترابط
ولأن الراوي
السارد يريد أن يعتمد الغموض والتعتيم والإلغاز طريقا للحكي فقد عجل بالخروج من
السرد إلى الحوار بوصفه هنا بنية بديلة ، ووسيلة أخرى للسرد الغامض المتكتم على
السر ، والسر هنا هو ذلك العشق المحرم والمجرم بين بطلة القصة وبين والد "
جوج " والذي يكشف اسمه عن اتباعه لديانة مختلفة عن الاسلام يجعل الحب بينه
وبين بطلة القصة محرما ومجرما لا سيما إذا استدعينا اسم (أحمد ) ابن بطلة القصة ،
الذي تورده الكاتبة قصدا وعمدا ، ولم تشأ أن يكون الكشف من خلال اسمها هي ، لتؤكد
على طبيعة الخوف والترقب التي تعيشها بطلة القصة وتعاني منها .
وتتبين ملامح
هذا العشق المحرم من خلال جملة :
" تدفقتِ
الدماءُ في وجهي، يتسارع نبضي ، غمامة تشوِّش نظري، جفافٌ يُعيقُ كلماتي. "
حيث أعاد هذا
الاتصال الحياة والنضارة لبطلة القصة العاشقة الشاردة ، كما أنه يكشف عن حالة
التلعثم والاضطراب لهول المفاجأة ، وعن حالة الازدواجية والفصام عند امرأة تعيش في
أسرة تلعب فيها دور الزوجة لكنها لا تحب زوجها ، وزوجها أيضا يبادلها هذا البرود
العاطفي فضلا عن التسلط والقهر الذي يمارسه عليها ، والنظر إليها بدونية واحتقار ،
وكل هذا يشير إلى علاقة الحاضر بموروث الماضي لهذا العشق المحرم.
ثم يأتي
الحوار كاشفا عن حالة الخوف والترقب والاضطراب التي تعيشها بطلة القصة :
" نعم
سيدي هو نائمٌ مع ابني أحمد.
..سيدي! لا
أدري إن كنتُ قد قلتُ هذا أم لا! "
فهي تحسب ألف
حساب لمنطوقها خوفا من أن يفضح هذا السر الذي تتكتم عليه.
ثم يتواصل
الحوار ليتمم السرد بعيدا عن المباشرة والوضوح ، لتستمر حالة الغموض الذي تريده
المرأة ( الراوي السارد بضمير المتكلم)
" ـ ابنُ
من أنت يا بني ؟
لا تُجِب،
فأنا عرفْتُك بشعرِك الأسودِ اللامعِ المُسرَّحِ إلى الوراء، بجبهتِك العاليةِ،
بسوادِ عينيكَ بشفتيكَ النبيذيَّتينِ، بسُمرتِكَ الآسرة، نعم تذكَّرْتُكَ.
بحاجبيكَ المعقوديْنِ
يا عاقِدَ
الحاجبينِ على الجبينِ اللجينِ إنْ كُنتَ تنوي قتلِي قتلتني مرّتين
وتضحكُ، نعم
كُنْتَ تضحكُ كلما غنّيتَ لك. "
حيث تتحول
صورة الابن ( جورج ) إلى امتداد لصورة الأب / العاشق الهارب ، ومعادلا موضوعيا له
، فهو يحمل صفاته التي عشقتها المرأة وافتقدتها بسفره وهروبه.
ومن ثم تلجأ
المرأة إلى المراوحة بين الأب وبين الابن ، في حالة من التماهي بين الاثنين ، كما
تتماهى مع الماضي والحاضر في آن على أنهما شيء واحد ، لتؤكد على هذه الازدواجية
النفسية ، والانقسام النفسي وحالة الشيزوفرينيا
أو الفصام التي أعطبت نفسها وجعلتها على هذه الحالة من الشرود وغياب الذهن
. ولتستفيد القاصة من هذه الحالة النفسية المعقدة لتسوغ لنقل الحوار نقلة زمكانية
تتجاوز الواقع ، وتسوغ حوارية أخري بين شخوص الحاضر وشخوص الماضي في آن ، حوارية
بين الموجود واللاموجود
ثم تأتي
النهاية مفتوحة أمام القارئ بعد أن شكلت القصة جزءا من الحكاية بينما الحكاية
طويلة ومستمرة استمرار الألم والانقسام النفسي ، استمرار الألم حتى مع الابن :
" حتّى
سعادتي بالسرحان يستكثرونها عليّ "
واستمرار
المعاملة الجافة وقسوة الزوج :
" الله
لا يحرمك هذه العادة، ذهنُكِ شاردٌ كعادتك! اِغْلِقي سمّاعةَ الهاتف جيِّدًا يا
امرأة "
واستمرار
الكذب الذي تمارسه المرأة للإخفاء والتضليل ، استمراريةً لخرق التابو :
"ماذا
تقول ؟ أها... المتصل! هو... هو شخصٌ أخطأ الرقم ".
ويأتي الحوار
هنا مكملا للسرد ، متمما لأحداثه ، ناقلا ومختزلا لأحداث ماضية وأزمنة تتجاوز زمن
القصة ، ووسيلة لاستمرارية الغموض التي تحرص عليها بطلة القصة للهروب من الاعتراف
الذي تمليه طبيعة السرد لا سيما وأن الراوي هنا هو ضمير المتكلم الذي سيضطر
للاعتراف، واعترافه سيضعه في إطار التجريم وخرق قدسية التابو والمحرم الديني. ولعل
مهارة القاصة أنها بعدت عن استخدام الراوي العليم حرصا منها على أن يظل السرُّ
قاصرا على المرأة وحدها دون غيرها من الشخوص بما يتوافق والرؤية التي تبنى عليها
فكرة القصة.
كما تأتي
اللغة منتقاة بعناية فائقة ، معبرة عن الحالة النفسية للشخوص ، وكاشفة عن دواخلهم
، ومصورة لحالتهم التي هم عليها ، تحمل في طياتها إيحاءات كثيرة ، وقد استطاعت هذه
اللغة أن تؤدي دور الثنائية الضدية بين البوح واللابوح ، وبين الكشف والإخفاء ،
وبين أن تخبر دون أن تقول شيئا ، ودون أن يؤخذ عليك شيء ، وهي ثنائية شديدة
التعقيد ، وشديد الصعوبة على القاص ولا يلجأ إليها إلا قاصٌ محترفٌ محنّك يمتلك كل
أدوات الكتابة ويعرف كيفية توجيهها.
د. محمد سيد الدمشاوي
القصة
شرود
كعادته،
يستدعيني من المطبخ؛كي أجيب على هاتف يرنّ بإلحاح،
أجفّف يديّ،
وأنا أرمقه بلوم ... حتى أنّه لا يرفع نظره إليّ ... غارقا في جريدته، يرشف قهوته
الباردة بهدوء مستفز.
_آلو ..آلو
ـ ..نعم
ـآسف سيدتي
..أنا والد جورج ..آسف للاتصال في هذا الوقت المبكر
تدفقت الدماء
في وجهي، يتسارع نبضي،غمامة تشوّش نظري، جفاف يعيق كلماتي،
ـ سيدتي؟ ...
سيدتي؟ أردت فقط الإطمئنان على ولدي إن كان في ضيافتكم ..
منذ البارحة وأنا ابحث عن رقمكم.
ـ نعم سيدي هو
نائم مع ابني أحمد . ...
سيدي!؟
... لا أدري إن كنت قد قلت هذا أم لا.
كان ابني
مرتبكا وهو يشرح لي أنّ صديقه سيبيت عنده
ـ ليلة فقط ليلة فقط يا أمّي فهو مطرود من بيته،
..والده شديد الغضب والقسوة.
الفضول دفعني
لانتظاره ... ولما دخلت عليهما .. عقدت الدهشة لساني، شعرت أنّ قدماي ماعادت قادرة
على حملي، اتكأت على الباب القلق
ـ أمّي هذا
صديقي جورج ...أعرّفك ماما ..
ـابن من أنت
يا بني ... ؟
لا تجب ..
فأنا عرفتك ... بشعرك الأسود اللامع المسرح إلى الوراء، بجبهتك العالية، بسواد
عينيك بشفتيك النبيذيتين ...بسمرتك الآسرة
...نعم تذكرتك .. بحاجبيك المعقودين
ياعاقد
الحاجبين ...على الجبين اللجين ..إن كنت تنوي
قتلي قتلتني مرّتين
وتضحك ...نعم كنت تضحك كلما غنيت لك ...
أمي .... أين
شردت صديقي يكلمك
ـأها
...نعم... نعم أنا معكما .. متى عدتم من الغربة. ؟
ـ عدنا؟! .
نعم أمّي
عادوا منذ سنتين مع دخولنا الجامعة لكن كيف عرفت ...؟ لم أكلّمك عن هذا من قبل؟
ـ كيف عرفتُ
..؟
ـ تسافر ...؟
ومايبقيني
في بلد يجرم عشقي؟
ـوأنا! ؟
أنت ستبقين
آلهة العشق .. قيثارة ليلي ... نبضي الذي احيا به ..لا تبكي...هذه هي أقدارنا الظالمة.
ـوأنا ... ؟
ـ ستنسين ..
أمي ...
كعادتك دائمة الشرود
صديقي لا يحب
البطاطا المقلية أرجو أن تحضري لنا العشاء بدونها.
ـ هل يوجد شاب
لا يحب البطاطا المقلية ...؟ يقال انها ترفع هرمون السعادة.
ـأنا ... لا
أحبها، أحبك انت... سعادتي أنت ...
ـ أمي... أمي ... توقظني يده وهو يربّت على كتفي ..
حتى سعادتي
بالسرحان يستكثرونها علي
أغادر غرفته
تسابقني دموعي ...
ـالله لا
يحرمك هذه العادة ...ذهنك شارد كعادتك؟ ...اغلقي سماعة الهاتف جيدا يا امرأة .لم تقولي لي
من المتصل!
ـ ماذا تقول
.. ؟ أها ...المتصل .؟هو ...هو شخض أخطأ الرقم.